الدرس التاسع والثلاثون
من الفقه الموسع
لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
باب المسح على الخفين
لما يذكُرُ الفقهاء -وأعني بالفقهاء: فقهاء الحنابلة رحمهم الله- لما يذكروا أحكام الوضوء يُعَقِّبون بأحكام المسح على الخفين وذلك للترابط الوثيق بينهما لأن كلَيهما طهارةٌ بالماء، إلا أن القدَمين في الوضوء طهارةُ ماءٍ بغَسْل، وأما المسح على الخفين فطهارةُ ماءٍ بمَسْح.
والخُفُّ يختلفُ عن الجورب، فالخُفُّ: هو الجلد، مأخوذٌ من خِفافِ الإبل، وأما ما يستُرُ القدمين مما ليس بجلد فهو جورب.
وقد جرى خلافٌ في حكم المسح على الجوربين، ولكن الصحيح: أن الجورب كالخف لوجود النصوص الكثيرة من فِعل النبي ﷺ ومن أمْرِه، فإنه عليه الصلاة والسلام قد مَسَح على الجوربين والنعلين،
وقد أمر ﷺ كما في المسند: أمَرَ سَرِيّةً ان تمسح على العصائب والتساخين،
والتساخين: أي كل ما يُسَخِّنُ البدن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأولى مسائل هذا الباب
مسألة [ المسحُ على الخفين جائزٌ باتفاق أهل السنة، ولم يُخالف فيه إلا الرافضة ]
الشرح:
قد سبق الحديثُ عن هذه المسألة في مسألة غسْلِ القدمين.
وأدلةُ المسحِ على الخفين كثيرة:
أولا: من الكتاب قال تعالى {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْن} قوله تعالى: {وأرجلِكم} على قراءة الخفض،
على أحد توجيهات قراءة الخفض: هذا التوجيهُ هو المسح على الخفين إذا كانت القدمان مستورتَين بهما
وأما من السنة: فقد قال الامام أحمد رحمه الله: ” ليس في نفسي شيء من المسح على الخفين فيه أربعون حديثا عن رسول الله ﷺ” ومعنى كلامه: ” ليس في نفسي شيء”: ليس في نفسي أدنى شك في جواز المسح على الخفين،
ولذا عد بعضُ العلماء المسحَ على الخفين من الحديث المتواتر، وذلك لأن الحديث ينقسم بحسَبِ اعتباراته المتعددة إلى أقسام، كلٌّ بِحَسَبِه؛ قد يكونُ الحديثُ ينقسمُ باعتبار رَدِّهِ وقَبوله إلى أقسام،
وقد يكون الحديث ينقسم باعتبار طريقِه إلى أقسام.
فالحديثُ ينقسِمُ باعتبارِ طريقِهِ إلى قسمين:
1- متواتر 2- آحاد
والمسحُ على الخفين جُعِلَ من المتواتر، ولكنه متواترٌ معنويّ، وتعريف المتواتر:
هو ما رواه جماعة عن جماعةٍ أخرى يستحيلُ في العادةِ أن يتواطؤوا على الكذب على أمْرٍ محسوس، كأن يقولوا: رأينا أو سمِعنا.
والمتواترُ نوعان: الأول: متواتر معنوي؛ الثاني: متواتر حقيقي
أو يسمى بالمتواتر اللفظي
فالمتواترُ الحقيقيُّ اللفظيّ: هو ما اتفقُ الرواةُ على لَفْظِهِ ومعناه، مثلُ حديث:
“من كذب عليَّ متعمدًا، فلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَه من النار” فقد اتفق الرواةُ على لفظِهِ ومعناه، وقد رواه أكثر من ستين صحابيا.
وأما المتواتر المعنوي: هو ما اتفق الرواةُ على معناه، وانفردَ كلُّ راوٍ بلفظٍ خاصٍّ به، وذلك كأحاديث المسح على الخفين
وقد قال بعض بعضهم:
مما تواترَ حديثُ مَن كَذَب *** ومَن بنى لله بيتا واحتسَب
ورؤيةٌ شفاعةٌ والحوضُ *** ومسْحُ خُفّينِ وهذي بعض
فَعُدَّ مِن المتواتر المعنويّ
وفائدةُ المتواتر بنَوعَيه: يفيدُ العلمَ والعمل، فإفادتُه للعلم هو: القَطْع بصحة مَن نُقِلَ عنه،
وإفادتُه للعمل: هو القَطْعُ بامتثالِه، فإن كان خبرا فبتصديقِه، وإن كان طلبا فبتطبيقه.
وقد وُجِدَ مِن بعضِ أهلِ السنة مَن لا يرى المسح ولكنه لا يمنعُ منه، وذلك لأن هذه الأحاديث وهي أحاديثُ المسح منسوخةٌ بآيةِ المائدة وهي:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْن} فذُكِرَ غَسْلُ القدم، وسورةُ المائدة من أواخر ما نزَل من القرآن
والقاعدةُ في الأصول: [ أن النصوص إذا تعارَضَت فلم يمكن الجمع فيكونُ المتأخرُ ناسخا للمتقدم]
ويجُابُ عن هذا: بأننا لا نُسَلّمُ بالنسخ، وذلك لأن الأصل كما هو مقرر في الأصول:
[ الأصلُ عدم النسخ إلا بدليل] ويؤيدُ عدمَ النسخ قراءةُ الخفض.
وقد يردون علينا: بأن هذا احتمال، فلماذا طرحتم الاحتمالات الأخرى
ولذا فإن الدليلَ القوي أن جريرا بن عبد الله رضي الله عنه قد مسح على الخفين وروى ذلك عن النبي ﷺ فكان الصحابةُ والسلف يُعجبهم حديثُ جرير، لمَ؟
لأن اسلامه بعد نزول آية المائدة، فارتفع القولُ بحكم النسخ.
وأما الروافض: فلا اعتداد بخلافهم، فليس خلافُهم معتبرا، وقد سبق وجه استدلالهم بآية المائدة
ومع أنهم لا يرون المسح على الخفين كذلك -كما سبق- لا يرون غسْلَ القدم وإنما يرون مَسْح مقدمتها! وعلى كل حال/ لا يُلَقَّبون بالشيعةِ وإنما وصْفُهم الحقيقي الرفض لا التشيع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسألة: اختلف العلماء في المسح على الجوربين، ومنشأُ هذا الاختلاف في معنى الجورب وفي ثبوت أحاديث المسح الجوربين
فإن الجوربَ في اللغة العربية: قال بعضهم: هو ما كان من غير الجلد كالصوف والقطن ونحو ذلك.
وقال بعض أهل اللغة: إن الجورب هو ما كان مصنوعا من الجلد، فيعد نوعا من أنوا الخفاف.
وأحاديثُ المسح على الجوربين جاءت في سنن أبي داود ومن بينها ( مسح النبي على الجوربين )
ومن بينها ( مسح النبي على الجوربين والنعلين )
ومن ثم / قال بعض العلماء: إنه لا يُمسح على الجوربين، وذلك لأن أحاديث المسح على الجوربين غير صحيحة، وعلى افتراض صحتها فإن الجورب إنما هو من انواع الخفاف، وأما كون بعض أهل اللغة يقولون: أن الجورب هو ما كان من غير الجلد فهذا محتمل، فيُطرح اختلافهم ونحمل الجورب على النصوص الكثيرة الصحيحة في المسح على الخفين.
وقال بعض العلماء:
بصحة المسح على الجوربين مستدلين بالأحاديث التي جاءت في سنن أبي داود، ومستدلين بأن الجورب يطلق في اللغة على ما كان من غير الجلد ثم على افتراض عدم صحة أحاديث المسح على الجوربين فإن الصحابة رضي الله عنهم قد نُقِلَ عن جمْعٍ غفيرٍ منهم المسح على الجوربين.
والصحيح: أن المسح على الجوربين يصح إما لأن الأحاديث صحيحة وقد صححها الألباني
وأما أن تكون غير صحيحة فيكون الاستناد على ما جاء في اللغة.
وأيضا لما جاء في المسند ( أن النبي أمر سرية ان يمسحوا على العصائب والتساخين )
والتساخين / قال بعض أهل اللغة إنه ما كان يسخن القدم
وقال البعض / بأن التساخين هي المصنوعةُ من الجلد.
وأما أحاديث مسحه عليه الصلاة والسلام ( على الجوربين والنعلين )
وكذا الحديث الآخر ( أنه مسح عل النعلين ) فهذا إن قيل بثبوته فإنه محمولٌ على المسح على النعلين والخفين، وذلك لأن المسح على النعلين يخالف أحاديثَ كثيرة من بينها قول النبي كما في الصحيحين (ويل للأعقاب من النار ) وعند مسلم ( ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء )
وفي رواية له ( ويل للعراقيب ) وفي رواية عند أحمد ( ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار) وعند مسلم ( لما رأى رجلا في قدمه مثل الظفر قال: ارجع فأحسن الوضوء )
ولذا لو قيل بالمسح على النعلين لكان أقربَ ما يكون من فِعل الروافض، ولكن هذه الأحاديث التي جاءت بالمسح على النعلين محمولة على المسح على الجوربين مع النعلين،
ولذا قال شيخ الاسلام باتفاق المسلمين: لا يجوز أن يمسح على خف دون الكعبين، وذلك لأنه لا يسمى خفا، وقد سبق معنا في مسائل الحج أنه لو لبس ما دون الكعبين وهو محرم حتى مع وجود النعلين فالصحيح: أن غير مرتكب لمحظور من محظورات الإحرام.