الدرس ( 43 ) باب المسح على الخفين (5) ( حكم من حدثه مستمر ــ مسح ظاهر الخف ــ حكم من خلع خفه ـ ومسائل أخرى )

الدرس ( 43 ) باب المسح على الخفين (5) ( حكم من حدثه مستمر ــ مسح ظاهر الخف ــ حكم من خلع خفه ـ ومسائل أخرى )

مشاهدات: 1360

الدرس الثالث والأربعون

من الفقه الموسع

لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

مسألة: [ حكم مَن حدَثُه مستمر كغيرِه في المسْح إذا لَبِسَ بعدَ كمالِ الطهارة ]

الشرح/

صورةُ هذه المسألة: لو أن شخصا به حَدَثٌ مستمر كسلسِ بول أو سلس غائط أو سلس ريح أو مستحاضة ثم شاء أن يلبَسَ الخفين ليمسحَ عليهما: فإن له ذلك ولكن يشترط:

 أن يكون هذا اللبس للخف بعد كمال طهارتِه

وبعد توفرِ شرطِ صحتها، وشرطُ صحةِ طهارتِه -كما سلف – أن يدخُلَ عليه الوقت، فإذا دخل عليه الوقت وتطهّر طهارة كاملة ثم لَبِسَ خُفّية فله أن يمسح عليهما،

 والدليل: أن النصوص عامّة، ولم تفرق بين من حَدَثُه طارئ وبين من حدثه مستمر، بل قد يكونُ هذا أولى بالمسح من غيرِه، وذلك لوجود الوضوءِ منه عند دخولِ وقتِ كلِّ صلاة.

 

مسألة: [ يمسحُ ظاهِرَ الخُف مِن أطرافِ أصابعِه إلى ساقِه – كمسح الأذنين – وإن بدأ باليمين فقولٌ وجيه ، والواجبُ أن يمسحَ أكثرَ الخُف ]

الشرح/ هذه المسألة تبين صفةَ المسح على الخفين، وصفةٌ المسح على الخفين جاءت آثار ضعيفة تبين صفة المسح على الخفين كما قال ابن حجر في تلخيص الحبير .

وصفةُ المسح على الخفين: أن تكون اليدان مبلولتَين بالماء، ويمسحَ مِن أطرافِ أصابِعِ قدَمِه إلى ساقِه على أعلى خُفّيه، وذلك لأن المسحَ على الأسفل أو على العقِب -كما سلف – قد تقدّم النهيُّ عنه.

 ولو قال قائل: كيف يكونُ المسح؟ أتمسَحُ اليمنى ثم اليسرى؟ أم تمسحان جميعا كمسح الأذنين؟

الجواب: يحتملُ هذا ويحتمل هذا، فالقولُ بأنه يمسحُ اليمنى ثم يمسح اليسرى قولٌ أو احتمالٌ وجيه:

 وذلك لما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها: ” كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ ” فقولها: “وَطُهُورِهِ: يشملُ طهارةَ الغَسل وطهارةَ المسح، ولأن الأصل وهو الغَسْل السُّنةُ أن يُبدأ فيه باليمين.

وهناك احتمالٌ آخَر وهو: أن يمسح على الخفين معا كالمسح على الأذنين:

 وهذا احتمالٌ قوي وهو أقوى من الاحتمال الأول بدرجة ليست عالية، وذلك لأن عليًّا رضي الله عنه قال: رأيتُ رسولَ الله ﷺ مسَحَ ظَاهِرَ خُفَّيْهِ، وكذلك الأحاديثُ الواردة جاءت بالمسح مطلقا فيما نعلم دون ذِكْرِ اليمنى قبل اليسرى، ولو كان النبي ﷺ يبدأ باليمنى قبل اليسرى لَنُقِل، لحِرْصِ الصحابةِ رضي الله عنهم على نقلِ العلم ونشره، ولا سيما في الوضوء، وقد ظَهَر جَليا ذِكْرُ مسائلَ دقيقة فعلَها النبي ﷺ

 فيكونُ مَسْحُهما على هذا الاحتمال:

 أن يُمَرِّرَ يدَيه فيجعل اليدَ اليمنى على القدمِ اليمنى، واليدَ اليسرى على القدمِ اليسرى ويمسحُ في آنٍ واحد.

 

 ولو قال قائل: ما القدر الواجب في المسح؟ ما أقل ما يجزئ في المسح؟

فنقول: بالنظر إلى أن الرسول ﷺ ما مسح إلا على ظاهر قدمه ولم يمسح أسفله ولا عقبه بالنظر إلى هذا يتبين أن المسح على الخفين أيسر وأخف من المسح على غيرهما ومن ثم فقد قال بعض العلماء:

    يمسح قدر أصبع
وقال بعضهم : يمسح قدر ثلاثة أصابع

وقال بعضهم : يمسح أكثر ظاهر خفيه .

وهذا الاختلاف ناشئ عن عدم وجود دليل صريح في المقدار المجزئ من المسح

 والقول الذي يقول يمسح أكثره هو القول الصواب، وذلك لأن الأحاديث جاءت بمسح ظاهر الخف وبأعلاه ولما لم يأت دليل واضح فأقل ما تبرأ به الذمة أن يمسح أكثره، بل إن قول المغيرة  ( مسح ظاهر خفيه ) يدل على استيعاب الأعلى وذلك لأن المفرد إذا أضيف إلى معرفة فيعم فكلمة ( ظاهر ) مفرد أضيف إلى المعرفة  ( خفيه ) فتقيد العموم أي عموم أعلى الخف ولما كان المسح من باب التخفيف بالنظر إلى عدم مسح الاسفل والعقب قيل بالمسح على أكثره

وقد قال علي رضي الله عنه: ” لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْىِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلاَهُ وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ ” (1).

ومن يتأملُ قولَ علي رضي الله عنه قد يتوهم أن هناك مخالفةً بين العقل وبين السمع، وهذا الوهمُ غيرُ معتبرٍ وغيرُ مُعتدٍّ به في الشرع، ذلك لأن العقلَ الصحيح لا يُخالف النقلَ الصريح، ولذا قال عز وجل عن أهل النار: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}

قال شيخ الإسلام: دل على أن العقل موافقٌ للسمع إذا كان هذا العقلُ سليما صحيحا، أما اذا كان فاسدا فإن السمعَ لا يَعتَدُّ بالفاسد، ولذا لما فسَدت عقولُ أهلِ الكلام طرحوا النصوص السمعية ونَصَّبوا عقولَهم حُكّاما على المعتقد فولجوا بعقولهم في أسماء الله وصفاته زاعمين بأن العقل لا يدل عليها!

 ولذا إذا استدلوا بنصٍّ سمعيّ يستدلون به على استحياء، فيكون عندهم تابعا لا متبوعا، وذلك إذا وافق هذا النصُّ عقولَهم فيما رأوا.

ولكن هذا القَولَ من علي رضي الله عنه قد ينقدح بسببه في الذهن أن هناك معارضةً بين السمع وبين العقل: وليس ثمّت معارضة، ذلك بأن قولَ علي رضي الله عنه لا يقصِدُ منه التعمُقَ في العقل، وإنما أراد منه رضي الله عنه التفكيرَ المبدئيّ في العقل، فيكونُ معنى كلامِه رضي الله عنه:

 مَن يرى بعقله نظرا سريعا يظن أن مسْحَ أسفلَ الخُف أولى بالمسح من أعلاه، وذلك لأن مسح أسفل الخف تعلَقُ به الأوساخ؛ ولو نَظَر نظَرًا غيرَ مُجَرَّد وإنما نَظَر تعمُّق لوَجَدَ أن المسحَ على الأعلى هو الأولى كما صنع النبي ﷺ، وذلك لأنه بالتعمق والنظر يرى أنه لو مسح أسفل الخف لزاده تلوثا لأنه ليس بغسل، فيكون المقصودُ من المسح: ليس هو التنظيف وإنما هو التعبد، ولذا اقتصر النبي ﷺ على مسح ظاهر خفيه؛ والتفكر السريع ذكَره القرآن عن قوم نوح قال تعالى عن هؤلاء:

 {مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} يعني: اتبعَك هؤلاء دون تروٍ ودون تفكُّرٍ بليغٍ في الأمر، وإنما من حين ما دعوتَهم اتبعوك دون نظَرٍ عميق،

 فيكونُ هذا القولُ من علي رضي الله عنه ليس حُجةً للعقلانيين فيما ادّعوه من أن العقلَ هو المُنَصَّب والحاكم، بل يجب أن يكونَ العقلُ تابعا للنص كما أن العامي تابعٌ للعالم،

ولذا لما حكّموا العقول تفاوتت أحكامُهُم وآراؤهم، فوقعوا في التناقضِ فيما بينهم وبالتناقُضِ في عقولِهِم.

 

مسألة: [الراجحُ أنه إذا خلَعَ الخُفّ بعد الوضوء فطهارتُه باقية،

 وكذا لو تمَت المدةُ وهو على طهارة]

الشرح هذه المسألة لها شقان

الشق الأول : لو ان شخصا بعدما مسح على خفيه خلعهما فهل تنتقض طهارته أم لا تنتقض  ؟

الجواب /ان كان قد خلع هذا الخف بعد مسح بعد حدث فلهذه الصورة حكم ، وان كان خلعهما ولم يسبق انه مسح أو مسح من غير حدث فلهذه الصورة حكم ، وإليك التفصيل /فإن خلع لو يسبق مسح فطهارته باقية وكذا لو خلع بعد مسح من غير حدث فطهارته باقية أما اذا مسح بعد حدث فخلع خفيه فهل تبقى طهارته أم تنتقض ؟اختلف العلماء في هذه المسألة على أربعة أقوال  ؟

القول الأول :وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن طهارته تنتقض ويستدلون على ذلك بأن هذا العضو الذي مسح عليه قد زال حكمه فإذا زال حكمه فإن طهارته قد تبعضت والطهارة لا تتبعض

القول الثاني :أن طهارته تبقى بشرط اذا خلع خفيه ان يغسل قدميه قبل جفاف أعضاء الوضوء منه وذلك أن يتوضأ فيغسل وجهه ويديه ويمسح رأسه وهذا الوضوء من غير حدث ثم يخلع خفيه فيقولون لو غسل قدميه فإن وضوءه صحيح

القول الثالث :ان طهارته باقية بشرط ان يغسل قدميه ولم يشترطوا جفاف الأعضاء من عدمها وذلك لأن الموالاة عند هؤلاء من السنة

القول الرابع :وهو اختبار شيخ الإسلام / ان طهارته باقية غسل قدميه أو لم يغسلها ويستدل رحمه الله بدليلين وهما /

الدليل الأول :

ما يسمى عند أهل الأصول باستصحاب الحكم الشرعي ،وذلك لأن استصحاب الحكم أما ان يكون استصحاب حكم عدمي أو استصحاب حكم نصي أو استصحاب حكم اجماعي وموضعه في أصول الفقه ، لكن هنا فيه استصحاب عدمي وهو عدم وجود الدليل فعدم وجود الدليل على  انتقاض طهارته استصحاب للبراءة الأصلية وذلك لأن طهارته ثبتت بمقتض للدليل الشرعي فلا ترتفع إلا بدليل شرعي ولا دليل هنا

الدليل الثاني :

وهو دليل قياس وهو قياس خلع الخف بعد الوضوء على حلق شعر الرأس بعد مسحه فيقول رحمه الله لو ان شخصا له شعر كثيف فمسح على هذا الشعر ولم يصل الماء إلى أصول الشعر ثم حلق رأسه فلا نزاع في صحة وضوئه وعدم بطلانه وهذا هو القول الصحيح ولو قال قائل :ان هذا القياس مع الفارق وهو ان المسح على الرأس أصل والمسح على القدم فرع

فالجواب عن هذا / أن هذا الفرق غير مؤثر وذلك لأن العلة هي المسح ثم الخلع أو ثم الحلق وكون هذا المسح أصلا أو فرعا غير مؤثر ولو قال قائل :

لماذا لا يقاس على قطع العضو , فإن العضو إذا قطع سقط فرضه ؟

الجواب عن هذا /
ان العضو قد زال كله مسألتنا في العضو الذي لم يزل وإنما الذي زال هو هذا الشيء الذي في حكم المنفصل أما اليد فيهي في حكم المتصل

الفرع الثاني :لو تمت المدة على طهارة فهل ينتقض وضوءه أم لا ينتقض ؟

وصورة هذه المسألة /لو أن شخصا بدأ وقت المسح عنده من الساعة الثانية عشرة فإن الواجب عليه ان ينتهي مسحه من اليوم التالي عند الثانية عشرة فلما جاءت اليوم التالي توضأ الساعة الحادية عشرة فبقى على طهارته فمرت به الساعة الثانية عشرة فهل نقول انتقض وضوئك بسبب ان مدة المسح انتهت أم ان وضوئك باق ؟ الصحيح أن وضوءه باق ويدل لهذا البراءة الأصلية إذ طهارته ثبتت بمقتض دليل شرعي فلا ترتفع إلا بدليل شرعي ولا دليل وكون النبي يحدد المدة فهو يحدد المدة لبيان انتهاء وقت المسح لا لبيان انتهاء الطهارة فرق كبير بينهما ولذا لو ان الإنسان على هذا القول الراجح توضأ الساعة الثانية عشرة إلا خمس دقائق وصلى بهذا الوضوء صلاة الظهر فصلاته صحيحة إذا كان وقت صلاة الظهر يدخل بعد الساعة الثانية عشرة

 ولذا قال بعض العلماء: إن الخف قد يبقى في قدم المقيم ثلاثةَ أيام، وذلك بأن يلبس هذين الخفين في أول اليوم ثم يبقى على طهارته كل اليوم، فإذا جاء اليومُ التالي سينتقض وضوؤه بعد نومه فيبدأ مسحه من الساعة الرابعة فجرا، فله أن يمسح في هذا اليوم الثاني، ثم إن مدةَ انتهاء المسح عند الساعة الرابعة فجرا فلو مسح قبل الساعة الرابعة فجرا ثم بقي على طهارته كل اليوم بقى الخف في قدمه ثلاثةَ أيام “

 

مسألة :لا تشترط نية المسح عند اللبس كستر العورة .

الشرح

صورة هذه المسألة / لو ان شخصا توضأ أو كان على وضوء ثم تدهن فأحب ان يلبس هذين الخفين لكي يعالج قدمه أو لغرض من الأغراض ثم لما حضرت الصلاة أحب ان يمسح فهل يمنع من المسح أم يجوز له المسح  ؟

الجواب: أنه يجوز له المسح، ولا يُنظَرُ إلى نيتِه في هذا اللبس، وذلك لأن النبي ﷺ قال للمغيرة: ” دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين ” ولم يَشترط أو يَذكر ﷺ نيةَ اللبس، فدل على أن المعتبر هو اللبس بعد الطهارة، فلهذا الرَّجُل أن يمسح وشأنه كشأنِ من إذا صلى ستَر عورته من غيرِ نية ستر العورة عند اللبس ،
ولذا قد يلبسُ الانسان ما يستر عورته ثم لما حضرت الصلاة له أن يصلي مع أنه في الأصل عند لبسه لم ينو أن هذا اللبس لسَترِ العورة.

 

مسألة :

لو شك في ابتداء مسحه هل هو من الظهر أو من العصر يبني على الأصل وهو عدم المسح فتكون ابتداء مدته من العصر

الشرح

صورة هذه المسألة :

لو ان شخصا جاء اليوم التالي بعد مسحه الخف فشك عند الظهر هل كان مسحه بالأمس من الظهر أم من العصر فماذا يصنع  ؟

الجواب / يبني على الأصل والأصل بقاء ما كان على ما كان ، والأصل عدم المسح  ومن ثم فله ان يمسح إلى ان يأتي وقت العصر فلو شك مثلا /

هل مسح من الساعة الثانية عشرة ظهرا أو الساعة الرابعة عصرا فتنتهي مدة المسح عند الساعة الرابعة عصرا وذلك لأن الأصل هو الغسل وليس المسح فإن المسح فرع

 

مسألة :

ابداء شيء يسير من القدم لا يضر إن أعاد الخف

الشرح

هذه المسألة مبنية على مسألة سابقة مختلف فيها وهي /هل يلزم أن يكون الخف لا يصف البشرة أم لا  ؟ فعلى من يقول الخف يلزم فيه أن يكون ساترا للبشرة فيقول ان وضوءه يبطل ، وعلى من يقول بعدم اشتراط هذا الشرط فإنه يجعل هذا القدر اليسير بمثابة الخروق ومن ثم:

 فإن كان يسيرا فالصواب أنه يعيده وله أن يمسح

 وإن كان كثيرا فإنه لا يمسح وإن أعاده .

إلا على القول الذي ذكره ابن عثيمين واستظهر بأن الإنسان لو أدخل الخف على طهارة مسح فله ان يمسح إن كان هناك من يقول به

 

(1) ــ سنن أبي داود باب كيف المسح  رقم /162 ، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود رقم / 162 ، والمشكاة  1/ 114 ح / 525 ،  وإرواء الغليل  كتاب الطهارة  1/ 140 ح /103