الدرس ( 50 ) باب نواقض الوضوء ( 5) (مسائل مهمة متعلقة بمس المصحف )

الدرس ( 50 ) باب نواقض الوضوء ( 5) (مسائل مهمة متعلقة بمس المصحف )

مشاهدات: 486

الدرس الخمسون

من الفقه الموسع

لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

مسألة: [لا يجوز للمحدث حدثا أصغر أن يمَسَّ المصحف أو أن يصليَ أو أن يطوفَ]

هذه المسألة لها فروع ثلاث:

أولا: أن المُحدِثَ حدَثًا أصغر لا يجوزُ له أن يمسَّ القرآن.

ثانيا: لا يجوزُ له أن يطوف.

ثالثا: لا يجوز له أن يصلي.

ــــــــــــ

الشرح/ الفرع الأول: أن المُحدِثَ حدَثًا أصغر لا يجوزُ له أن يمسَّ القرآن.

فإن هذا ما عليه الأئمة الأربعة،

 وخالَفَ في ذلك الظاهِرِيّة فيقولون: لا يَحرُم، ويستدلون على ذلك بأدلة:

أولا: عدم وجودِ الدليل الصحيح في إيجابِ الوضوءِ لِمَسِّ المصحف.

ثانيا: أن النبي ﷺ كان يذكُرُ اللهَ على كلِّ أحيانه، والقرآنُ مِنَ الذِّكر، بل هو أعظمُ الذكر ولا يشترطُ فيه الطهارةُ لعدمِ وجودِ الدليل.

 وأما الأئمة الأربعة فيرون التحريم، ويستدلون على ذلك بأدلة:

أولا: قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ- فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ-لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}

الدليلُ الثاني: ما جاء في موطأ الإمامِ مالك، في حديثِ النبي ﷺ:

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: أَنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: ” لَا يَمَسّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ”

وقد أجابت الظاهريةُ عن هذَين النَّصين، فقالوا: إن الآيةَ ليس فيها نهي لأنه قال:

 {لَّا يَمَسُّهُ} و {لا} هنا نافية وليست ناهية، إذ لو كانت ناهيةً لكانت القراءةُ -بفتح السين:

(لَّا يَمَسَّهُ إِلَّا المطهرون)

وأجاب الجمهور: بأن هذا النفيَ هو سياقُ خبر يُراد منه الطلب، والإتيانُ بصورة الطلب في صورة الخبر أبلغ، لأن هذا الأمْرَ قد فُرِغَ منه فَوَجَب الالتزامُ به.

 وأجابت الظاهريةُ: بأن هذه الصورةَ وهي إتيان الطلب في صورة الخبر يحتاجُ إلى قرينة، لأن الأصلَ أنَّ الخبرَ يأتي خَبَرًا، والطلب يأتي طلبا، وقالت الظاهريّة:

 إن قولَه تعالى: {الْمُطَهَّرُونَ} اسمُ مَفعول، أي: طُهِّروا، وليس اسمَ فاعل، بمعنى: تطَهَّروا، وفَرْقٌ بين الصورتين، فلم يقل: (لَّا يَمَسَّهُ إِلَّا المطَّهِّرون) -بتشديد الطاء وفتحِها، وتشديد الياء وكسرها-

فتكونُ هذه الآيةُ في شأنِ الملائكة، يُفَسِّرُها قولُه عز وجل:

{فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ (12فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ (13مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ (14بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [سورة عبس]

وَوَجْهُ الظاهريةِ في رَدِّ هذا الاستدلال: وَجْهٌ واضح، فلا دلالةَ في الآيةِ على ما ذَكَرَهُ الأئمةُ الأربعة.

 وأما حديث: ” لَا يَمَسّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ”

فقد أجابت عنه الظاهريةُ: بأنه حديثٌ مُرسَل، والحديثُ المُرسَل مِن قَبيلِ الحديثِ الضعيف.

 وأجاب الجمهور: بأن إرسالَه صحيح، هو مُرسَل، لكنَّ المُرسَلَ إذا تَلَقّتْهُ الأمّةُ بالقَبول وأخَذَ به العلماء سَلَفًا عن خَلَف، الأوائلُ ثم الذين يَلونَهُم فإنه يُشبِهُ المتواتر، كما قال ابنُ عبد البَر، ولذا ذُكِرَ في هذا الكتاب كتاب عَمرو بن حَزم، وهو كتابٌ مُوَجّهٌ إلى اليمن وكان أهلُها أهلَ شِركٍ وكُفر، فبهذا الكتاب بيانُ الدِيَات، وبيانُ أمورٍ أخرى، والعلماء تلقّوا هذا المُرسَل الذي فيه فرائضُ كثيرة بالقَبول

ولذا قال شيخُ الإسلام -رحمه الله- في مقدمة أصول التفسير:

“إنَّ المُرسَل إذا تواترَ عنِ العلماء، وبَعُدَ فيه الكذِبُ والتواطؤُ عليه، فإنه حديثٌ مَقبول”

 

ثم قالت الظاهريةُ: سَلّمنا بصحةِ الحديث، لكنّ كلمة (الطاهر) لا تدلُّ على الحَدَثِ الأصغر بل ربما تدلُّ على الحدث الأصغر أو الحَدَثِ الأكبر، أو الطهارة مِن النَّجَس أو الطهارة مِن الشرك؛ وإذا وُجِدَ احتمالٌ واحد: بَطَل الاستدلالُ بالحديث، فكيف بأربعةِ احتمالات! ويًؤكِّدُ هذا: أن هذا الكتاب أرسِلَ إلى أهلِ اليمن، فدلَّ على أن الطهارةَ هنا طهارةٌ مِن الشرك لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}

 

وأجاب مَن يرى قولَ الأئمة:

بأن كلمةَ (الطاهر) تُطلَقُ على هذه المعاني الأربعة، لكنَّ المرادَ غيرُ ما ذكرتموه، لأن النبي ﷺ لو أراد المشرك لقال: “لا يمس القرآنَ إلا مؤمن” وذلك لأن النبي ﷺ يصِفُ المسلمَ بأنه مؤمن في نصوصٍ كثيرة كقوله ﷺ: “إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ”؛ ولأن وَصْفَ المؤمن بالإيمان أبْلَغُ وأشْرَفُ مِن وَصْفِهِ بالطهارة، ولو كان النبي ﷺ يريدُ المشرك لقال: “لا يمس القرآن إلا مؤمن”

 وقالوا: إن النظرَ يقتضي بأن القرآنَ هو أشرفُ الكتب، فإذا كان أشرفَ الكتب فالنظرُ السليمُ يقتضي أن يتطهرَ الانسان لِمَسِّ أشْرَفِ كتاب، فيه أعظمُ كلام،

 فإذا أمَرَ عزوجل بتطهيرِ البيت في قوله: {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود} فكتابُ اللهِ أولَى، كما أمَرَ الشرع بالتطَهُّرِ حالَ الطواف فكتابُ اللهِ أولى، قال ﷺ: ” لا تطوفي بالبيتِ حتى تَطهُري “

وأقوى ما في أدلةِ الأئمة هو الحديث، والجوابُ عن كلمةِ (الطاهر)

 وهذا الجواب قد قرأتُه للشيخ/ ابنِ عثيمين -رحمه الله- قال: ” كنتُ أميل لمذهبِ الظاهِرِيّة حينا مِن الزمن، فرأيتُ أنَّ قولَ الأئمة هو الصحيح “.

 

 

 

 

وعلى هذا القول الذي عليه الأئمةُ الأربعة: فإنه هناك مِن المسائل ما يتفرعُ عن هذه المسألة الكبرى، وهي: أولا/ هل النهيُّ عن مَسِّ الحروف، أو عن مَسِّ الحروف مع الصحف المكتوبِ فيها؟

قالت الشافعية: إن النهيَ عن مَسِّ الحروف، وقالت الحنابلةُ: إنَّ النهيَ يشملُ حتى الحواشي وما يتبعُ المِصحف، للقاعدة الأصوليّة: [التابعُ تابع] وهي المعروفةُ عند الفقهاء: [ يثبُتُ تبعاً مالا يثبت استقلالاً]

 ولكنهم استثنَوا الصبي إذا كان يَحمِلُ لوحًا قد كُتِبَ فيه آيات:

 فقالوا: لا يَمَسّ الحروف وإنما يَمَسُّ الحواشي، دفْعًا للمشقة.

 وقال بعضُهم: لأن هذا اللوحَ أو هذه الورقة ليست باقية كبقاءِ المصحف.

 وبعضُ العلماء: يرى أنه يجوزُ للصبي أن يَمَسَّ القرآن ولا يُلزَمُ وَلِيُّهُ بِمَنْعِهِ.

 وقال آخرون: يلزمُه أن يمنَعَه، وعليه أن يأمُرَه بالوضوء كما يأمرُه بوضوءِ الصلاة، وهذا هو الصحيح، كما أن الصحيح أن الحواشي تابعةٌ للحروف.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومن المسائل الفرعية: أن المُحدِثَ لا يجوزُ أن يَمَسَّه لا بيده ولا بعُضوٍ مِن أعضائه

 حتى قالوا: ولا يَمَسُّه بصدره، بل قالوا: إن العضوَ الذي رُفِعَ عنه الحَدَث لا يَمَسُّ المِصحفَ قبل كمالِ الطهارة،

 وصورتُها: لو أنه غَسَل يدَه اليُمنى واليُسرى ثم مَسَح رأسَه ولم يبقَ إلا رِجلاً واحدة، فلا يجوزُ أن يَمَسَّه حتى تكتَمِلَ الطهارةُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومن المسائل الفرعية/ أنه لو مَسَّه بحائلٍ لجاز: كأن يلبَسَ قُفَّازًا أو يُقَلِّبَه بعودٍ أو خِرقَةٍ فإن هذا يجوز.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومن المسائل الفرعية: لو وَضَعَ المَصحفَ أمامَ المِرآة، فله أن يَمَسَّ المِرآة، لأنه لا مكتوبَ فيها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومن المسائل الفرعية: لو أنه كَتَبَ آياتٍ على سَبُّورَة فلا يجوزُ له أن يَمَسَّ السبورة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومن المسائل الفرعية: لو أنه وهو مُحدِث كَتَبَ على السبورة آيات فيجوزُ له، لأن النهيَ عن مَسِّه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومن المسائل الفرعية: أنه لا يجوزُ أن يَمَسَّ القرآن بعضوٍ قد ارتفع الحَدَثُ كُلُّه عن البَدَن مع نجاسةِ هذا العضو، فلو كان متطهرًا مِن الحدث ويدُه نَجِسَة:

 فلا يجوزُ أن يَمَسَّه بهذه اليد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومن المسائل الفرعية: أن المحدث حدثاً أكبر لا يجوزُ له مَسُّ المِصحف، وكذلك لا يجوز له أن يقرأَ القرآن، والدليلُ على ذلك:

 ماجاء في سُنن أبي داودَ وغيرِه- كان عليه الصلاةُ والسلام:

” لا يَحْجُزُهُ عَنِ الْقُرْآنِ شَيْءٌ إِلَّا الْجَنَابَةُ “

وهذا الحديثُ وإن كان ضعيفاً فإن هناك أحاديثَ أخرى تجبُرُ ضَعفَه، ولذا صححه جماعةٌ مِن العلماء المُحَدِّثين، وضَعّفَه الألبانيُّ رحمه الله، ولذا فهو يرى أنه يجوزُ للمُحدث حدثاً أكبر أن يقرأ القرآنَ عن ظهرِ قلب، لضَعفِ الحديثِ عندَه -وهو مسبوق بهذا القول- ولأن النبي ﷺ كما عند مسلم: ” كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ “

ولأن ابنَ عباس -رضي الله عنهما- كما عند ابنِ المُنذِر وغيرِه: ” يقرأُ وِردَهُ وهو جُنُب”

 والصحيحُ: التحريم، لأن هذا الحديث تعضُدُه أحاديثُ أخرى، منها:

” فَأَمَّا الْجُنُبُ فَلَا، وَلَا آيَةَ ” فيكونُ مستثنى من حديث:

” كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ “

وأما فِعلُ ابنِ عباسٍ -رضي الله عنهما- فالحُجَّةُ ليست في فِعلِه وإنما في فِعلِ الرسولِ ﷺ مع جلالةِ قَدْرِه -رضي الله عنهما-.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الدرس 51- الفقه الموسع

مسائل فرعيّة متعلقة بكتاب الله عز وجل

 

ومن المسائل الفرعية: أن الحائضَ والنُّفساء لا يجوزُ لهما أن يقرآ القرآن، قياسًا على الجُنُب، وذلك بأن الحائضَ والنفساء قد قام بهما الحَدَثُ الأكبر الذي هو موجودٌ في الجُنُب،

ولكنَّ الصحيحَ الذي يختارُه شيخُ الإسلام -رحمه الله- أن الحائضَ والنفساء يجوزُ لهما أن يقرآ القرآن: وأما قياسهما على الجُنُب فقياسٌ مع الفارِق:

لأن الجُنُب مُدَّتُه لا تطول، وأما بالنسبة للحيضِ والنِّفاس فإن المدة فيهما طويلة،

 ولأن الجنب يمكن أن يقومَ فيتطهّر، بينما الحائضُ والنُّفساء لو تطهَّرَتا فإن الحدث لايزالُ قائما بهما.

 

فالدليلُ الذي استدل به مَن قال بالتحريم: إنما هو القياس، والقياسُ كما هو مُقَرّرٌ في الأصول لا يكونُ معتبراً إلا إذا كانت العلةُ تامّةً منضبطةً في الفرعِ مع الأصل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

ومن المسائل الفرعية المتعلقة بكتاب الله عز وجل: أن القرآنَ لا يجوزُ أن يُسافَرَ به إلى أرض العدو، لنهي النبي ﷺ عن ذلك كما جاء في الصحيح:

” كَانَ يَنْهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ ” والعلةُ التي جاءت في إحدى الروايات وهي:

 ” مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ ” “مخافةُ أن تنالَه أيديهِم” فإنه لا يؤمَنُ من هؤلاء الكفار على القرآن،

ولذا قال العلماء الذين يرونَ أن المُحدِثَ حَدَثاً أصغر- لا يجوزُ له أن يَمَسَّ المصحف إلا إذا تَطَهّر-يقولون: لو خاف على القرآن فيجوزُ له أن يَمَسَّه وأن يحمِلَه كما لو خَشِيَ عليه من يدِ كافر، وذلك لأن المفسدةَ في تَرْكِه في يدِ الكافرِ أعظمُ من المفسدةِ في حَمْلِه وفي مَسِّهِ على غيرِ طهارة،

 

 أما لو رُجِيَ إسلامُ الكافر، فهل يُمَكَّنُ مِن قراءتِه؟

 اختلف العلماء في هذا/ فقال البعض: لا يُمَكَّن، وقال بعضُ العلماء: إن رُجِيَ إسلامُه فَيُمَكَّنُ مِن قراءته، والصحيح: أن الأصلَ النهي والتحريم، والشريعةُ جاءت بِذِكْرِ أمْرٍ يُستغنى به عن تمكينِه مِن القرآن،

 قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}

فيكونُ السبيل أن تُقرأ عليه الآيات القرآنيّة، وذلك لأن رجاءَ إسلامِه غيرُ مُتَيَقّن، ولا يُستدلُّ على الجواز برسالةِ النبي ﷺ إلى هِرَقل عظيم الروم كما جاء في صحيح البخاري، فقد بعث إليه برسالة وفيها قولُ اللهِ عز وجل: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]

فإن هذه الرسالةَ قد ضُمِّنَت هذه الآية، فلا يَصدُقُ على هذه الرسالةِ أنها قرآن، وذلك لأن المكتوبَ مِن غيرِ القرآن أكثرُ مِن القرآن، ولذا/ فكتبُ التفسير:

 إن كانت الآياتُ أكثر: فالحكْمُ للأكثريّة، فإن كانت الآياتُ أكثر فيحرُمُ مَسُّه مِن غيرِ طهارة.

 وإن كانت الآياتُ فيه أقل: فيجوزُ مَسُّه.

 فإن تساويا أو اشتبها الأكثرُ منهما بالأقل: فالأصلُ المنع لقاعدة [ إذا اجتمع مُبيحٌ وحاظِر على وجْهٍ لا يتميّزُ فيه الحاظر: قُدِّمَ الحاظِر لأنه أبرأُ للذِّمَّة ].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومن المسائل الفرعية: أن القرآن إذا بَلِيَ فإنه يُحَرُق ويُدفَن

 كما فَعل الصحابةُ – رضي اللهُ عنهم – في عهدِ عثمان، فإن المصاحِفَ لمّا جُمِعَت وأجمع المسلمون على جَمْعِ الناسِ لُغَةِ قُريش: أخذوا بقيّةَ المصاحف وأُحرِقَت ودُفِنَت، فهذا هو الأليَقُ بكتابِ اللهِ عزوجل.

 

والقرآنُ كما أخبَرَ النبيُّ ﷺ أُنزِلَ على سبعةِ أحرُف، وليست الأحرف هي القراءات السبع وفيها خلافٌ طويل، لكن الصحيح:

أنها بمثابةِ اللهجات، كما يُقال: [ هَلُمَّ: تعالَ ـ أقبِل] فيكونُ المعنى واحدًا، وذلك مِن بابِ التيسيرِ على العرب، وهناك لغةُ مُضَر، لُغة قريش،

 ومن بابِ التيسير على قبائلِ العرب أُنزِلَ هذا القرآنُ على سبعةِ أحرف.

أما القراءاتُ السبع: فهي راجعةٌ إلى حرفٍ واحد، وهو ما عليه لغةُ قريش.

 

وكيف أتت هذه القراءاتُ السبع؟ عثمان رضي الله عنه لما أجمَعَ الناس على جَمْعِ الناسِ مِصحَفٍ واحد، بَعَثَ بسبعةِ مصاحف إلى أقطار العالمِ الإسلامي، كلُّ مصحفٍ فيه قراءة، فتبنّى كلَّ قراءةٍ إمام، فانتشرَت.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومن المسائل الفرعيةِ المتعلقةِ بكتابِ اللهِ عز وجل: أن بعضَ العلماء أجازَ أن يُحَلَّى القرآنُ بذَهَبٍ وفِضّة من بابِ تشريفه؛ والصحيح: عدم الجواز، وذلك لعدم الدليل، ولأن في تحليته إسرافاً وتبذيراً، والشرع نهي عن الإسراف، ولأن تشريفَ القرآن ليس في تحليته ولا في تجميله، إنما تشريفُ القرآن يكون بقراءته وتدبره والعملِ به والتحاكم إليه.

 أما كتب العلم: فبالاتفاق لا يجوزُ تحليتُها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومن المسائل الفرعيةِ المتعلقةِ بالقرآن: أن هذا الرسمَ العثماني لا يجوزُ أن يُغَيَّر، وذلك لأن الصحابةَ اتفقوا عليه، ففي مخالفتِه مخالفةٌ لما اتفقوا عليه، ولأن كتابتَه بالمصطلحات الإملائيّةِ الحديثة عُرضة للتغيير فيه والتبديل، لأن المصطلحاتَ الإملائية قد تتغير، بل تغيرت،

 فمثلا: كنا نعرِفُ أن (المائة) تُكتَبُ بِرَسْمٍ مُعَيّن، وإذا بها تتغير (مئة)

وهناك أشياء أخرى، فدلَّ على إن هذه المصطلحات الإملائية قابلةٌ للتغيير والزيادة والنقص،

 فَتَرْكُه على الرسمِ العثماني تشريفٌ له.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومن المسائل المتعلقةِ بالقرآن: أنّ مِن تشريفه ألا يُستدبَر، وألا تُمَدَّ إليه القدم، ولا يُتَوَسَّد ولا يُستنَدُ عليه، وألا يرمِيَه، وألا يتخطّاه، فإن قَصَدَ إهانتَه فإنه يكفُر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومن المسائل المتعلقةِ بالقرآن: أنَّ تقبيلَه لم يرِد فيه دليل، ولذا قال شيخُ الإسلام -رحمه الله- كما في الفتاوى: ” لم يفعَلْهُ إلّا عِكْرِمَة ” ولذا فَتَرْكُ التقبيلِ أفضل.

 وأما جَعلُه بين العينين: فلا أصلَ له.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومن المسائل الفرعيةِ المتعلقةِ بالقرآن: أنه لا يُستفتَحُ به الفأل، مثالُ ذلك:

أن يفتحَ المِصحفَ وينظُر ما هو فألُه خيرٌ أم شر! فإذا فتَحَ على جُزْءٍ مِن القرآن فوقعت عينُه على شيء، حَكَمَ به على نفسِه!

 ولم يفعلْه- كما قال العلماء – إلّا (ابنُ بطة)

وهو مُحَرَّم، فلا يقلْ أحدٌ أفتحُ المصحفَ وانظُرُ إلى فألي وإلى عاقبةِ أمري!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأيضًا من بابِ تكريمِ القرآن: أن يُوضَعَ أعلى الكتب، فيُوضَع الأعلى ثم الأعلى،

فلو لم يوجد في الكتب قرآن وَوُجِدَ كتابٌ في التفسير آياتُه أكثرُ مِن الآياتِ في الكتبِ الأخرى:

 فيكونُ هو الأعلى.

 أما وضْعُه على الأرض من غيرِ رمي: فإنه يجوز، قد أفتى بذلك ابنُ باز -رحمه الله- في إحدى فتاويه،

فإذا وُضِعَ على مكانٍ طاهر مِن غيرِ أن يرميَ به: فلا بأسَ بذلك إذا وُجِدَتْ الحاجة، وذلك كأن يقرأ القرآن وتَمُرُّ به آيةُ سَجْدة، فله أن يضعَه على الأرض ويسجُد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

فهذه هي المسائلُ الفرعيّة المتعلقةُ بكتابِ اللهِ عز وجل،

 أما المسألةُ الكبرى التي انطلقنا منها إلى هذه المسائل فهي:

 مسألةُ مَسِّ المصحف من المُحدِثِ حدثًا أصغر -فقد سَبَق ذِكْرُ الخِلاف بين العلماء-

والذي يظهرُ لي: أنَّ مَسَّ القرآن من المحدث حدثا أصغر لا يجوز، وذلك لصحة الحديث:

” أنْ لاَ يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ ” ووجهُ الاستدلالِ به على عدمِ اعتبارِ أنَّ الطاهرَ هنا ليس هو الطاهرَ من الحَدَثِ الأصغرِ والأكبر، لأن النبي ﷺ إذا وَصَفَ المؤمن وَصَفَه بالإيمان، فإذا لم يُعتَبَر هذا، فإن كلمةَ الطاهر تحتملُ احتمالاتٍ عِدّة، وهذا نهي، والنهيُ يقتضي التحريم، فيُؤخذ بما يَخْرُجُ به الانسان مِن عُهدَةِ النهي، فإذا قلنا باشتراطِ الطهارة مِن الحَدَث الأصغر في مَسِّ القرآن مِن كلمة ” طَاهِرٌ ” أخذنا بهذا المعنى وزيادة، فيكونُ الحَدَثُ الأكبر مِن بابِ أولى،

 أما لو حصرنا الحكمَ في الطهارةِ القلبيّة: فإن في ذلك إلغاءً للمعاني الأخرى.

 وأما رسالتُه عليه الصلاةُ والسلام لهِرَقْل: فقد أُجيبَ عنها.

 وأما تمكين فاطمة لعمر أن يَمَسَّ الرقعة: فلا يدل على جواز مس القرآن إذا كان الإنسانُ مُحدِثًا،

 وذلك لأن فاطمةَ -رضي الله عنها- أمَرَتْهُ أن يتطهرَ مِن أجلِ ألا يمسَّ هذه الرقعة، وليس هو بمصحفٍ كامل، فيكونُ مَسُّهُ لهذه الرقعة لوجودِ الحاجة وهي: رجاءُ إسلامِه -رضي الله عنه- ولأنه آخِذُها حتى ولو بالقوّة، ولذلك ضَرَبَها حتى أدمى وجهَها، فأبانَت له أنه على غيرِ طهارة وأنه مشرك.

بالنسبة لقصةِ عمر -رضي الله عنه- مع أخته: قد ضُعِّفَتْ مِن قِبَل بعض العلماء، ولكن جاء في صحيح البخاري ما يُؤيِّدُها، ما يدل على أنها واقعة، وذلك أن زوجَها قال:

لو رأيتُني وأنا مُوثَقٌ على الإسلام عند عُمر -أو كلمة نحوَها-

لأنه لما دخَلَ عمر -رضي الله عنه- اختفى زوجُها، ففيه ما يدلُّ على ثبوتِها.

ــــــــــــــــــــــــ

فهذا هو الأمْرُ الأوّل الذي يَحرُمُ فيه على المُحدِثِ حَدَثًا أصغر، فمما يَحرُمُ عليه:

أولًا/ مَسُّ المصحف.

ثانيًا/ الطواف -عند جمهورِ العلماء – وقد سَبَقَت هذه المسألة مُفَصَّلَةً تفصيلًا كاملًا في مسائل دورة الحج.

 

الثالث/ الصلاة: فيحرُمُ على المُحدِث حَدَثًا أصغر أن يصليَ، لقول النبي ﷺ كما في الصحيحين:

” لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ “

ولقوله ﷺ كما عند مسلم: ” لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ “

وقال ﷺ: ” مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ “

ولكن/ ماهي هذه الصلاةُ التي تَحرُمُ على المُحدِث حَدَثًا أصغر؟

 قال بعضُ العلماء: المرادُ بالصلاة (ما كانت ركعتين فأكثر) ويستثنون الوِتر، فلو صلّى صلاةً غيرَ الوِتر، لو صلّى صلاةً عددُ ركعاتها واحدة مِن غيرِ طُهور: فلا جُناح،

 ولذا قال بعضُ العلماء: يجوزُ أن يتنفّلَ ولو بركعة،

 ولكن الصحيح: أن التنفُّلَ لا يكونُ إلا بركعتين، والوِتْرُ مُستثنى، بدليل:

 أن النبي ﷺ لما دخلَ ( سُلَيك الغَطَفَانيّ ) وهو يَخْطُب، لما دخَلَ فجلس، قال: ” قم فصلِّ ركعتين وتَجَوَّزْ فيهما” فأمَرَهُ بالتخفيفِ فيهما، فلو كانت الركعةُ كافيةً لأمَرَه بها.

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: ” جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَخْطُبُ، فَجَلَسَ، فَقَالَ لَهُ : ” يَا سُلَيْكُ، قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا “. ثُمَّ قَالَ: ” إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ؛ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا “.

 

القولُ الثاني: أن المرادَ بالصلاة (الصلاةُ التي فيها ركوعٌ وسُجود)

 فتكونُ الصلاةُ ذاتُ الركعةِ الواحدة لا تجوزُ من غيرِ طهارة، بينما تكونُ صلاةُ الجنازة -لِخُلُوِّها مِن الركوعِ والسجود- جائزةً من غيرِ طهارة لعدمِ وجودِ الركوعِ والسجودِ فيها

والصحيح: أن كلَّ صلاةٍ مُفتتحَةٌ بالتكبير مُختتمةٌ بالتسليم يُشترطُ فيها الطهارة، وذلك لعموم قولِ النبي ﷺ ” لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ ” ولقوله ﷺ: ” لَا صَلَاة بِغَيْرِ طُهُورٍ “

وكلمةُ (الصلاة) في الحديثَين نكرة في سياق النفي: فتعُم أيَّ صلاة، فإذا جُمِعَ هذان الحديثان مع حديث:

” مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ “

دل على أن هذه هي الصلاةُ الشرعية التي يُشترطُ فيها الطهارة، لأن الحديثَ في صَدْرِه ذِكْرُ الطهارة،

 ثم أتت الجملةُ الثانية بالتكبير، ثم أتت الجملةُ الثالثة بالتسليم،

 ومِن ثَم -على ما رجّحناه-: لو أن شخصا صلّى صلاةً قد تعمّدَ فيها مِن غيرِ طُهور؟

فإن المسألةَ لا تخلو من تفصيل:

الأول/ إن كان يريدُ الاستهزاء: فإنه كافر قال تعالى:

{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ – لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [سورة التوبة]

 

الثاني/ أن يفعل ذلك متعمدًا مُستَحِلًّا لهذا الفِعل، بمعنى: أنه يُجيزُ هذا الفِعل: فإنه كافر، لأنه أباحَ شيئًا حرّمهُ الله عز وجل، وحرّمَهُ رسولُه ﷺ.

 

الثالث/ أن يفعلَه متعمدا غيرَ مستهزئٍ، وغيرَ مُستحِلٍّ له: فإن حكمَه أنه كافر -على مذهب أبي حنيفة- وذلك لأن صورتَه صورة المستهزئ،

 ولكن جمهور العلماء: -وهو الصحيح- أنه لا يكفُر، لكنه مرتكِبٌ كبيرةً مِن كبائرِ الذنوب، ويُعَزَّرُ على هذا الفِعل، رَدْعًا له ولأمثاله،

 وذلك لأن الأصلَ في المسلم الإسلام، ولا يُنقَلُ من الإسلامِ إلى الكفر إلّا بيقين.

 

 وأما إن كان جاهلاً أو ناسيًا: فلا شيءَ عليه، أي: لا إثمَ عليه، لكن: هل يُلزَمُ بإعادةِ الصلاة؟

 سيأتي الحديثُ عن ذلك في شروطِ صحةِ الصلاة -بإذن الله تعالى -.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ