بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد قال المصنف رحمه الله :
باب التيمن في الوضوء
حديث رقم – 402-
( صحيح ) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأتم فابدءوا بميامنكم )
من الفوائد :
أن البداءة باليمين في الوضوء أمر حث عليه الشرع .
ولكن لو قال قائل : هل هذا الأمر الوارد في هذا الحديث يدل على الوضوء أم يدل على الاستحباب ؟
الأمر يدل على الاستحباب ، والصارف لهذا الأمر من الوجوب إلى الاستحباب الحديث السابق ، حديث عائشة رضي الله عنها ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وفي ترجله وفي طهوره وفي شأنه كله )
ومعلوم أن القاعدة عند أهل العلم أن اليمين تقدم فيما حقه التكريم والتشريف أما فيما سوى ذلك فتقدم الشمال ، وليس معنى قول العلماء إن هذا الأمر يدل على الاستحباب سواء كان في صلاة أو في وضوء أو في صيام أو في حج أو في عمرة أو في أي عمل من الأعمال الصالحة ، لا يدل على أن الإنسان ينبغي له أن يتركه – كلا – ولاسيما طلاب العلم ، فإن طلاب العلم يعدون قدوة للناس ، وقد اطلع ما لم يطلع عليه غيره ، فخليق به ألا يدع ما كان مستحبا ، وذلك لأن حرص المسلم على ما كان مستحبا يزيده أجرا ، فهو لا يعدم خيرا ، ثم إن النفس إذا عودت على المستحب اعتادت عليه ، وأصبح سهلا عليها ، لكنه إذا تعاجز عن أداء المندوب فربما يتعاجز في المستقبل عن المفروض ، ففرق بين قولنا مستحب وبين القول بالتساهل في ترك المستحب – فرق كبير – نحن نبين أن هذا مندوب وبين العلماء أن هذه الأشياء مندوبة ولكن لا يعني أنه يكون مسوغا للمسلم ولاسيما طالب العلم أن يدع هذا المندوب باب المضمضة والاستنشاق من كفٍّ واحد
حديث رقم – 403-
( صحيح ) عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مضمض واستنشق من غرفة واحدة )
من الفوائد :
أن السنة الصحيحة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع المضمضة والاستنشاق من كف واحدة ، فلا يفرد المضمضة بماء ولا الأنف بماء ، وما جاء من حديث ( أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفصل بين المضمضة والاستنشاق في الوضوء ) حديث ضعيف ، وإن كان بعض العلماء قد أخذ به ، ومن ثم حصل نزاع بين العلماء ، فبعضهم رأى أن السنة أن تجمع المضمضة والاستنشاق من كف واحد .
وبعضهم رأى أن الفصل بين المضمضة والاستنشاق هو المستحب ، بمعنى يفرد الفم بماء والأنف بماء، للحديث السابق، ولكنه حديث ضعيف ، وأيدوه بأن أعضاء الوضوء الأخرى تفرد بماء .
وبعض العلماء رأى الأخذ بالحديثين ، فقال إن الفصل بين المضمضة والاستنشاق سنة وأن الجمع بينهما سنة ، فيفعل هذا تارة ويفعل ذاك تارة أخرى .
وهذا قول جميل لو كان الحديث في الفصل بين المضمضة والاستنشاق صحيحا ، ولكن الحديث ضعيف ، إذاً فالسنة على أصح هذه الأقوال أنه يجمع بين المضمضة والاستنشاق من كف واحد.
ومن الفوائد :
فضل الصحابة رضي الله عنهم إذ نقلوا لنا ما رأوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولذلك يجب على الأمة أن توقر هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم وتعظمهم بما يليق بهم ، وأن يترضوا عليهم إذا ذكروا ، ومثل هذا الحديث الذي فيه نقل الصحابة رضي الله عنهم لفعله صلى الله عليه وسلم فيه من الصفعات المؤلمة للروافض الذين طعنوا في هؤلاء الأخيار ، لأن الروافض يلزمهم إذا طعنوا في الصحابة أن يطعنوا في الدين جملة وتفصيلا ، لأن الصحابة رضي الله عنهم هم نقلة القرآن وهم نقلة الحديث ، وهذا من أوضح البراهين الساطعة على ضلال الروافض ، أبادهم الله وأهلكهم وأراح المسلمين من شرهم .
حديث رقم – 404-
( صحيح ) عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا من كف واحد )
من الفوائد :
هذا الحديث يجري مجرى الحديث السابق من حيث الفوائد ، لكن هذا الحديث أفاد أن المضمضة والاستنشاق حصلتا من الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثا ، وهذا هو الكمال ، فلو اقتصر على مضمضة واحدة واستنشاق واحدة كفى .
والمضمضة أقل ما يجب فيها ” أن يحرك الماء في الفم أدنى تحريك ” هذا إذا كان الماء الموضوع في الفم قليلا ، أما إذا كان كثيرا قد ملأ الفم أو غالب الفم فلا يلزم التحريك .
وأما الاستنشاق فأدنى ما يجب فيه أن يصل الماء إلى خياشيمه ، فإن بالغ كان أفضل وأحسن .
حديث رقم – 405-
( صحيح ) عن عبد الله بن يزيد الأنصاري قال أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألنا وضوءا فأتيته بماء فمضمض واستنشق من كف واحد )
من الفوائد :
أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل وَضُوءا ، والمقصود من الوَضوء بالفتح هو الماء ، فإذا ضمت الواو ” وُضوءا ” صار المقصود الفعل .
ومن الفوائد :
كثرة الأحاديث التي تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين المضمضة والاستنشاق في الوضوء من كف واحد .
باب المبالغة في الاستنشاق والاستنثار
حديث رقم – 406-
( صحيح ) عن سلمة بن قيس قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ” إذا توضأت فانثر وإذا استجمرت فأوتر )
من الفوائد :
أن الاستنشاق مطلوب في الوضوء ، مع أن الاستنشاق لم يذكر في هذا الحديث ، وإنما ذكر الاستنثار ، وإنما قلنا بهذا لأنه يلزم من الأمر بالاستنثار أن يكون هناك استنشاق ، وهذا ما يسمى عند علماء الأصول [ بدلالة اللزوم ] لأن الدلائل ثلاث [ دلالة المطابقة – دلالة التضمن – دلالة اللزوم ] فيلزم إذا انتثر أن يكون الانتثار قد سبقه استنشاق ، وأضرب لكم مثالا على هذه الدلالة ، قال جل وعلا { وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ }البقرة187 ، أباح لنا عز وجل المفطرات إلى أن يطلع الفجر الثاني ، فدل على أن الإنسان لو جامع أهله قبل طلوع الفجر الثاني بدقائق يلزم من ذلك أنه سيغتسل بعد طلوع الفجر ، فدل على أنه لو أصبح الصائم جنبا من جماع ونوى الصوم فإن صومه صحيح ، وهذا ما يسمى بـ [ دلالة اللزوم ] ولها أمثلة كثيرة ، ويستفاد منها في باب الأسماء والصفات المثبتة لله عز وجل ، ولعلنا يأتينا في العقيدة الواسطية من الأمثلة ما يبين هذا .
ومن الفوائد :
أن الانتثار واجب لظاهر الأمر ، مع أن العلماء يرون أن الأمر بالانتثار هنا سنة وليس واجبا ، ولعل دليلهم الإجماع ، فيكون الواجب هو الاستنشاق ، أما إخراج ما في الأنف فلا يكون لازما وإنما يكون مستحبا ، فإن لم يكن هناك اتفاق لكان هذا الأمر مقتضيا الوجوب ، حتى من حيث المعنى يقتضي الوجوب ، لأن المقصود من الاستنشاق أن ينظف أنفه ، فإذا لم يخرج الماء بقي ما بقي فيه من أوساخ وأدران .
ومن الفوائد :
أن الاستجمار بالحجارة وبما يلحق بها من الأوراق وغيرها السنة أن يقطعه على وتر ، فلو تنظف بأربعة أحجار وزال الأثر المطلوب شرعا إزالته فالسنة له أن يزيد واحدة حتى يقطع استجماره على وتر ، فلو لم ينق المحل إلا بثمان فالسنة أن يزيد واحدة حتى يقطعه على وتر .
لو قال قائل : لمَ لم يكن الأمر واجبا ؟ فما هو الصارف لهذا الأمر من الوجوب إلى الاستحباب ؟
الصارف ما جاء عند أبي داود وحسنه ابن حجر رحمه الله في الفتح قوله صلى الله عليه وسلم ( من استجمر فليوتر ، فمن فعل فقد أحسن ، ومن لا فلا حرج )
فأفهمنا هذا الحديث أن قطع الاستجمار على وتر سنة وليس واجبا .
حديث رقم – 407-
( صحيح ) عن عاصم بن لقيط بن صبرة عن أبيه قال قلت يا رسول الله أخبرني عن الوضوء ؟ قال ” أسبغ الوضوء وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما ” )
من الفوائد :
أن لقيط بن صبرة رضي الله عنه سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الوضوء ، فاقتصر على ما ذكر هنا في هذا الحديث ولم يذكر صلوات ربي وسلامه عليه الوضوء كله ، فلم ؟
قال بعض العلماء : إن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر الوضوء كله ولكن بعض الرواة اقتصر على بعض ما ذُكر مما ذُكر هنا .
وقال بعض العلماء – وهو الأقرب – أن الرسول صلى الله عليه وسلم علم بقرائن الأحوال أو بوحي من الله عز وجل أن السائل ليس محتاجا لتفاصيل الوضوء ، وإنما هو محتاج لما ذكره هنا في هذا الحديث .
ومن الفوائد :
أن إسباغ الوضوء مأمور به ، لكن أهو أمر وجوب أو أمر استحباب ؟
سبق وأن قلنا إن الإسباغ يدخل تحته ثلاثة معاني :
المعنى الأول :
أن يقتصر على أقل الواجب مع تعميم العضو بالماء ، بمعنى أنه يغسل كل عضو من أعضاء الوضوء مرة واحدة ويستوعب العضو كله بهذه المرة ، وهذا إسباغ واجب .
المعنى الثاني :
أن يأتي بالكمال ، وهو أن يتوضأ ثلاثا ثلاثا ، وهذا مستحب
المعنى الثالث :
أن يأتي بما ذكر في المعنى الثاني ويدلك العضو ، فهذا أكمل من المعنى الثاني ، وهو مستحب .
إذاً لو سألك سائل فقال ما حكم إسباغ الوضوء ؟
تقول هذه المعاني الثلاثة .
لو قال قائل : قوله صلى الله عليه وسلم ( أسبغ الوضوء ) يحتمل أي المعاني ؟
يحتمل – والعلم عند الله – يحتمل المعنى الثالث ، ما الدليل ؟ لأنه قرنها بالمقارنة بالمبالغة في الاستنشاق ، فدل على أنه كما يحرص على أن ينظف ما في أنفه تنظيفا بليغا أيضا يبالغ في دلك أعضاء وضوئه .
وأعظم الإسباغ أن يسبغ على المكاره ، كما مر معنا ( ألا أنبئكم بما هو يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ) ذكر منها ( إسباغ الوضوء على المكاره )
ومن الفوائد :
أن المبالغة في الاستنشاق سنة شريطة ألا يكون صائما ، فإن كان صائما فلا يسن له أن يبالغ .
وهل له أن يبالغ في المضمضة فيكون مأجورا ؟
الجواب : نعم، لأنه هناك رواية عند ابن القطان وصححها رحمه الله ( وبالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائما ) فلعل بعض الرواة تركها اختصارا ، فلما ذكرت المضمضة والاستنشاق في المبالغة شريطة ألا يكون المتوضئ صائما دل هذا على ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله من أن الفم والأنف مدخلان للطعام والشراب ، فلو أن الصائم كما هو معلوم حكمه لو أدخل طعاما أو شرابا إلى جوفه عن طريق الفم أفطر ، كذلك لو أدخل الطعام أو الشراب عن طريق الأنف متعمدا أفطر ، فهذا دليل على أن الأنف مدخل من مداخل الطعام ، لكنه لو أعطي إبرة غير مغذية فأحس بطعمها في حلقه فلا تفطر ، لم ؟ لأن هذه الأماكن من البدن ليست مدخلا من مداخل الطعام .
ومن الفوائد :
أن هذا الحديث أوضح كما أوضحت أحاديث أخرى أن الإسلام دين النظافة ، لأن الإسباغ يزيل القذر ، وكذلك المبالغة في المضمضة والاستنشاق ، وهذا يدل على أن الإسلام يحمد الإنسان الذي يحرص على نظافة بدنه ، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين ( كان يكره أن توجد منه الرائحة الخبيثة )
حديث رقم – 408-
( صحيح ) عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” استنثروا مرتين بالغتين أو ثلاثا ” )
من الفوائد :
أن هذا الحديث تمم ما جاء في الحديث السابق، الحديث السابق أمر بالمبالغة في الاستنشاق ، لكنه لم يذكر عددا ، أما هنا ذكر العدد إما مرتين وإما ثلاث مرات .
ومن الفوائد :
أن ما دون الثلاث في الاستنشاق جائز ومجزئ ، لكن الأفضل والأكمل أن تكون ثلاثا .
ولعل ذكر ( أو ) في قوله ( مرتين أو ثلاثا ) لعله من باب قلة الماء وكثرته ، لأن المبالغة تستدعي ماء أكثر ، فإذا كان الماء كثيرا فيجعل الاستنشاق ثلاثا ، وإذا كان قليلا فيجعله مرتين .
حديث رقم – 409-
( صحيح ) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” من توضأ فليستنثر ومن استجمر فليوتر ” )