بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد قال المصنف رحمه الله :
باب ما جاء في المسح على الخفين
حديث رقم – 546-
( صحيح ) عن ابن عمر أنه رأى سعد بن مالك وهو يمسح على الخفين فقال إنكم لتفعلون ذلك فاجتمعنا عند عمر فقال سعد لعمر أفت ابن أخي في المسح على الخفين فقال عمر كنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نمسح على خفافنا لا نرى بذلك بأسا فقال ابن عمر وإن جاء من الغائط ؟ قال نعم )
من الفوائد :
بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من علو القمم في الحوار ، فإنهم لما اختلفوا لم يكن هناك رفع صوت ولم تحمل نفوسهم ضغينة أو بغضاء ، وذلك لأن المقصود هو الوصول إلى الحق ، ومتى ما كانت النفوس بهذه الصفة فلتعلم أن الخير قد أتى ، ومتى ما خالفت ذلك فإن الشر قد حلَّ بها ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام كما في المسند وغيره ( ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ) ومن ثم يضيع الزمان في ” قيل وقال “
ومن الفوائد :
بيان أن الصغير في السن لا يستهان بسؤاله ولا يقلل من شأه ، فإن ابن عمر رضي الله عنهما ليس في منزلة أبيه وليس في منزلة سعد في السن ، ومع ذلك لما سأل هذا السؤال أُجيب بالجواب المقنع المدلل عليه بفعل النبي صلى الله عليه وسلم .
بخلاف ما عهدناه ولا يزال متشبثا به عند من لا علم عنده رصين من أن الصغير صغير ولو كبر ، ولذا بعض الأقرباء لا يرون للشخص القريب مكانة ، بما أنه صغير وهم أكبر منه سنا ، ولذلك عندهم عبارة يقولون ( مَنْ عُرف وهو صغر احتقر وهو كبير ) هو كبير عند الناس لكنه صغير عند أقربائه ، ولذلك عند البخاري لما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( إن شجرة كالمؤمن ، فجعل الصحابة رضي الله عنهم يذكرون شجر البوادي ، فكان من بين من كان عمر وابنه عبد الله – رضي الله عنهما – فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنها النخلة ، فلما انصرف عمر وابنه قال عبد الله والله لقد كنت أعلم بها ، فتمنى عمر أنه قالها ) وهذا إن دل يدل على أنه لابد للأب أن يعطي أبناءه الثقة في نفوسهم بعد التوكل على الله عز وجل ، ولذا الصحابة رضي الله عنهم لما كانوا بهذا الشأن قادوا الجيوش وهم صغار ( أسامة بن زيد رضي الله عنهما وهو في سن العشرين يقود جيشا فيه أكابر الصحابة ) عمرو بن سلمة الجرمي ( كان يؤم قومه وهو ابن سبع سنين ) مع أن هناك من هو أكبر منه ، وهذا يدل على أنه لا اعتداد بالسن فيما يتعلق بالعلم ، ولذلك ابن المبارك رحمه الله روى حديث النبي صلى الله عليه وسلم ( من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر ) فقال رحمه الله ” ليس صغيرا يروي عن كبير ، وإنما الصغير هو من يبني كلامه على الرأي ممن لا دليل عنده ” ولذا ذكرت السير أن عمر بن عبد العزيز لما تولي جاءته الوفود ليهنئوه ، فلما أتى هؤلاء الوفود يتقدم شخص ليتكلم ، فتقدم وفد وتقدم على هذا الوفد صغير للحديث وهو في سن الرابعة عشرة من عمره ، فقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله اجلس وليتكلم من هو أسن منك ، فقال هذا الغلام بارك الله فيك أيها الأمير لو كان الأمر بالسن لكان في الناس من هو أولى منك بالخلافة ، فقال رحمه الله بهذا بلغت )
فالقضية قضية مهمة جدا في تربية أبنائنا ، وينظر الأب إلى الفوارق الفردية التي تكون بين أبنائه ولا يصح لا عقلا ولا شرعا أن يقارن ابن بابن ، هذا له صفات وهذا له صفات ، بهذا ينجح الأب ، حتى المعلم في الفصل عليه ألا يجعل الطلاب كلهم في ميزان واحد من الفهم .
ومن الفوائد :
أن سعدا لما جرى له ما جرى مع ابن عمر من هذا الجدال أتى بكلمة لطيفة مرققة قال ( أفتِ ابن أخي ) مع أنه ليس ابن أخيه نسبا وحقيقة ، ولكن ديانة ، وهذا من باب التلطف والترقق مع الشخص الذي يخالفك ، لأن بعضا من الناس يظن أنه إذا خولف أنه يقصد منه أن يقدح فيه – هذا ليس بصحيح .
ومن الفوائد :
أن الأقوال التي تلقى جزافا لا يعتد بها ، فعمر رضي الله عنه مع أنه عمر لما أفتى أفتى بناء على الدليل ، فأخبر بصنيعهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفاف .
ومن الفوائد :
أن الحوار قد يمتد وامتداده ليس بمشين إذا أريد بذلك الحق ، لكن إذا امتد وتوسع فيه لنصرة الرأي فإن هذا مذموم ، بل إذا وصل إلى هذه المرحلة فاعلم واعلموا أن أعمال هذين المتجادلين مشوبة وليست خالصة لله عز وجل ، فلما أفتي ابن عمر رضي الله عنها بالمسح على الخفين طرأ عليه طارئ آخر ” كيف يمسح على الخفين بعدما أتي من الغائط ؟ “
وهذا مما يعلق بالأذهان البشرية ، مما يدل على أن الآراء والاستحسانات يلقى بها ، وإنما المعول عليه ما جاءت به النصوص الشرعية ، ولذا علق في ذهنه هذا الأمر ” كيف يمسح على الخفين بعدما أتى من الغائط ، وهذا موجود عندنا ولا يزال ،وأسأل كثيرا ” أيحق لي أن أمسح بعدما خرجت من دورة المياه وقد بُلْت أو تغوطت ؟ ” لكن النص الشرعي هو الفيصل في أفعال وأقوال الناس.
فبُين لابن عمر أنه ولو كان من غائط ، ومن ثم تربى الصحابة رضي الله عنهم على هذا ، وهي سلسلة يتلقى الصغير من الكبير ، والصغير غدا يكون كبيرا ( صغار قوم كبار آخرين ) فابن عمر رضي الله عنهما لما بين فضل المسح على الحجر الأسود ( أتاه رجل من أهل اليمن وقال أرأيت إن زحمت ؟ فقال اجعل أرأيت في اليمن ) يعني ما تراه اجعله لنفسك ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا ، وهذا مما يدل على تعظيم النص الشرعي ، ولو أن المسلمين كلهم خضعوا للشرع ولأحكامه وما جاء به من نصوص لتخلصوا من مشاكل كثيرة ، ليس مصاب الأمة الإسلامية من أعدائها من الخارج ، مصابها في أنفسها أنهم فيما بينهم متناحرين متخاصمين ، حتى في البيت الواحد ، وهذا هو الشر ، وقد قال ابن القيم رحمه الله ” إن النصر على الأعداء لا يكون إلا بما ذكره الله عز وجل من أمور { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ{45} وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ{46}
الأمر الأول “{ فَاثْبُتُواْ }
الأمر الثاني : {وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً }
الأمر الثالث : { وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ }
الأمر الرابع : { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ }
الأمر الخامس : { وَاصْبِرُواْ }
ثم مع هذا تأتي معية الله عز وجل الخاصة بالتأييد والنصرة ، لم ؟ لأن النفوس تخلصت من رغباتها ، لما تتخلص النفس من رغباتها وشهواتها يأتي الخير ، ولذلك لماذا تجاب دعوة المضطر ؟ لأنه جرَّد نفسه الله عز وجل ، في حالة غير الاضطرار ربما أنه يجد سبيلا لإنقاذ من فلان أو من علَّان بجاه أو ماله أو ما شابه ذلك ، لكن في حالة الاضطرار خلَّص وفرَّغ قلبه لله عز وجل ، إذا كان المشرك يُنجَّى في مثل هذه الحال فكيف بالمسلم {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }العنكبوت65 ، فكيف بالمسلم ؟
ومن الفوائد :
أن ابن عمر رضي الله عنهما لما أُخبر بجواز المسح على الخفين بعد الغائط لم يسأل عما سواه من البول والريح والنوم ، فدل هذا على أن أعظم ما يحصل به الحدث الأصغر هو الغائط فلما أفتي بجواز ذلك في الغائط ، إذاً من باب أولى الأسباب الموجبة للحدث الأصغر من البول والريح والنوم .
ومن الفوائد :
أن ذكر الغائط مستفهما عنه ولم تذكر الأسباب الأخرى يدل على أن الأسباب لو كثرت في حصول الحدث الأصغر فلا تأثير للحكم ، فلو اجتمع عنده غائط وبول وريح ونوم فالأمر سواء ، ما الدليل ؟ أنه لما استفهم عن الغائط فأجيب ، لم يقل لو اجتمع معه بول وريح ونوم، فدل على أن الأسباب ولو كثرت فلا تأثير لها .