الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد قال المصنف رحمه الله :
باب التوقيت في الماء
حديث رقم – 328-
( صحيح ) أخبرنا قتيبة قال حدثنا حماد عن ثابت عن أنس أن أعرابيا بال في المسجد فقام إليه بعض القوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تزرموه فلما فرغ دعا بدلو من ماء فصبه عليه )
من الفوائد :
أن لفظة ( الأعرابي ) تطلب على من سكن البادية ولو كان في أول أمره من أهل المدن ، فكل من سكن في الصحراء سواء كان أصله وأهله ممن سكنها أو لم يكن ، فإن هذه الكلمة تطلق عليه ، وذلك لأن من سكن الصحراء يبعد عن التعلم ، وإذا بعد الإنسان عن التعلم ازداد معه الجهل وقسا قلبه ، ولذلك قال جل وعلا { الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً }التوبة97 يعني من أهل المدن ، فإن أهل المدن لا يخلون من النفاق والكفر ، لكن يكون من في الصحراء أشد باعتبار أنهم بعيدون عن تعاليم الدين
ومن الفوائد :
أن هناك قواعد في الشرع يستدل عليها بهذا الحديث وغيره ، منها : [ يختار أهون الشرين ]
ومنها : [ أن المفسدتين إذا تعارضتا أرتكب أخفهما بدفع أشدهما ] .
ومن الفوائد :
أن بول هذا الأعرابي مفسدة ، لكن إذا زُجر ترتب على ذلك مفاسد ، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم أهون الشرين ، فإن في بوله في المسجد فسادا ، لكن لو قطع عليه بوله لترتب على ذلك مفاسد من بينها :
إبعاد هذا الأعرابي عن تعاليم الدين ، فقد يقسو قلبه أكثر إذا زجر ونُهر .
ومن المفاسد : أنه بال في موضع معين فلو قطع عليه بوله لتناثر بوله في أكثر من موضع في المسجد ، فبدل أن يكون في موضع واحد تفرق البول في مواضع شتى .
ومن المفاسد : أنه لو قُطع عليه بوله لتلوثت ملابسه
ومن المفاسد : أنه لو قطع عليه بوله لأصيب بمرض .
إلى غير ذلك من المفاسد ، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم ترك هذا الأعرابي على ما هو عليه حتى يفرغ من بوله .
ومن الفوائد :
أن مما يدل على جهل هذا الأعرابي أنه قال ( اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معا أحدا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ” لقد حجرت واسعا ” ) أي ضيقت شيئا واسعا ، لأن رحمة الله عز وجل واسعة ، وهذا يدل على جهله .
ومن الفوائد :
أن معنى ( لا تزرموه ) يعني لا تقطعوا عليه بوله
ومن الفوائد :
أن البول في المسجد منكر ، ولذلك نبه النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأعرابي فقال ( إن المساجد إنما بنيت لذكر الله والصلاة وتلاوة القرآن ولا يصلح فيها شيء من هذا القذر )
ومن الفوائد :
أن الغيرة الدينية في قلب المسلم قد تدفعه لإنكار منكر فيترتب على إنكار هذا المنكر منكر أكبر أو منكرات ، فالصحابة رضي الله عنهم هالهم هذا الفعل من هذا الأعرابي وهو البول في المسجد ، فأرادوا أن يزجروه لما في قلوبهم من الغيرة ، لكن بين النبي صلى الله عليه وسلم أن إنكارهم يترتب عليه منكر أكبر ، ولذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله ” إن على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يتنبه لأمر وهو أنه إذا أنكر منكرا فترتب عليه منكر أكبر فلا يجوز له إنكار هذا المنكر “
ومن الفوائد :
أن فيه دليلا على أن الأرض وما يلتصق بها من صخور وحجر إذا تنجست سواء كانت نجاسة مغلظة كنجاسة الكلب ، أو نجاسة مخففة كبول الرضيع الغلام ، أو كانت نجاسة متوسطة وهي ما سوى هاتين النجاستين إذا وقعت أي نجاسة على الأرض ، فإن تطيرها يكون بصب الماء عليها كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم ، هذا إن لم يكن لها جرم فإن كان لها جرم فالواجب إزالة هذا الجرم ثم صب الماء على هذه النجاسة .
ومن الفوائد :
أن هذا الماء المصبوب على هذه النجاسة لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينقل التراب من المسجد إلى خارجه ، فدل على أن هذا التراب قد طهر .
ومن الفوائد :
أن فيه دليلا لمن قال إن النجاسة إذا وقعت في الماء القليل فلم تغير شيئا من أوصافه فإنه يبقى على طهوريته ، لم ؟
لأن هذا الماء الذي في الدلو صُبَّ على هذه النجاسة فطهرتها .
بينما من لا يرى – وهو القول الآخر – يقول إن هذا الحديث ليس دليلا لكم ، قلنا لم ؟
قالوا : لأنه فرق بين ورود النجاسة على الماء وورود الماء على النجاسة ، هنا ورد الماء على النجاسة ولم ترد النجاسة على الماء .
ولكن يقال : لا فرق بين هذا وهذا ، فإن هذا غير مؤثر في الحكم ، سواء كانت النجاسة هي التي وقعت أو كان الماء هو الواقع على النجاسة .
حديث رقم – 330 –
( صحيح ) أخبرنا عبد الرحمن بن إبراهيم عن محمد بن عبد الواحد عن الأوزاعي عن عمرو بن الوليد عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة قال : قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوه وأهريقوا على بوله دلوا من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين )
من الفوائد :
أن النبي صلى الله عليه وسلم حرص على أن يؤلف قلب هذا الأعرابي ، وهذا من ضمن المصالح التي ذكرناها ” ألا يبتعد قلبه عن الدين وعن تعلمه أحكامه ” بل قعَّد النبي صلى الله عليه وسلم لهم قاعدة وهي قاعدة الرفق ، وأمرهم بالتيسير ( إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ) فهذا طريق وضحه النبي صلى الله عليه وسلم للدعاة أن يكونوا متريثين مترفقين وأن يأتوا إلى الناس بيسر دون عسر ، لأن المقصود هو هداية هؤلاء الناس ، والمقصود أيضا أن تبلغ شرع الله ، فمن استجاب فلله الحمد ، ومن لم يستجب فليس عليك شيء ، لأن الثمرة لا تطالب بها ، أنت مطالب بالدعوة إلى الله بالرفق واللين { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }النحل125 ، أما ثمرة هذه الدعوة فليست في يدك ، هداية التوفيق والإلهام هذه من الله عز وجل { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }القصص56 ، إلى غير ذلك من الآيات التي بينت للنبي صلى الله عليه وسلم إنما عليه البلاغ ، فليس عليه هداية الناس هداية التوفيق والإلهام ، ولذا قد تحمل الغيرة أحدنا في الدعوة إلى الله ، فإذا رأينا منكرا فُعل أو معروفا تُرك يمكن تحملنا هذه الغيرة إلى أن نتصرف مع هذا المدعو بأسلوب غير مناسب ثم إذا هدأ الإنسان وهدأت أعصابه تبين له أنه على خطأ ، فالغيرة الدينية محمودة ، لكن الغيرة إذا لم تضبط بضابط الشرع فإن مضارها أكثر من منافعها .
ومن الفوائد :
أن العلماء ورثة الأنبياء ، ولذلك عبَّر النبي صلى الله عليه وسلم هنا بالبعثة ، وهذا من تنوع الأسلوب ( إنما بعثتم ) وهم لم يبعثوا حقيقة ، لكن لما كان الصحابة رضي الله عنهم أهل علم وناقلي علم قال ( إنما بعثتم ) ثم نلحظ من هذه اللفظة أن كلمة ( بعثتم ) تدل على أن هناك موتة سابقة ، فأنتم أمثال هذا الرجل فيما سبق ، فبعثكم الله عز وجل وأحياكم بهذه الدعوة { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا }الأنعام122 ، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }النساء94 .
ومن الفوائد :
أن ( إنما ) أداة حصر ، والحصر هنا ليس حصرا مطلقا وإنما ” حصر إضافي “ ( إنما بعثتم ميسرين ) يعني لم يبعثوا فقط لهذا الأمر وإنما بعثوا لأشياء أخرى ، كما لو قيل لشخص ” إنما أنت موظف ” هل معنى هذا أنه لا يوجد فيه من الصفات أو الأعمال إلا أنه موظف ؟ لا ، لكن لكون هذا الشيء أبرز ما لديه .
النهي عن اغتسال الجنب في الماء الدائم
حديث رقم – 331-
( صحيح ) أخبرنا الحرث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع عن بن وهب عن عمرو وهو بن الحارث عن بكير أن أبا السائب حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب )
من الفوائد :
حرص الشرعية على سلامة صحة بني آدم إذ منعه من التبول في هذا الماء الدائم لأنه مما قد يستقذر من استعماله .
ومن الفوائد :
أن الاغتسال من الجنب في الماء الجاري لا بأس به ، لأن الحديث قيَّد قال ( في الماء الدائم )
ومن الفوائد :
أن من فوائد الجملة الحالية وهي ( وهو جنب ) أن من فوائدها تقييد الحكم ، فقيدت هذا الاغتسال بكونه جنبا ، أما لو اغتسل في الماء الدائم للتبرد فلا يدخل ضمن هذا النهي .
ومن الفوائد :
أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاغتسال بالماء الدائم حالة كون الإنسان جنبا لا لكونه ينجس الماء ، وإنما لكونه يقذره عند مستعمليه .
ومن الفوائد :
أن هذا النهي للتحريم كما هو رأي الجمهور خلافا للمالكية .
ومن الفوائد :
أن الحديث قد يراد منه النهي ( لا يغتسلْ ) فتكون ( لا ) ناهية ، وقد يراد منه النفي فتكون ( لا ) نافية ( لا يغتسلُ ) فإن كانت ناهية فالأمر واضح ، وإن كان نفيا فيكون هذا الحديث جاء في سياق الخبر ويراد منه الطلب ، كأن هذا الأمر مؤكد تطبيقه ولا يسوغ لأحد أن يخالفه .
الوضوء بماء البحر
حديث رقم –332-
( صحيح ) أخبرنا قتيبة عن مالك عن صفوان بن سليم عن سعيد بن أبي سلمة أن المغيرة بن أبي بردة أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ من ماء البحر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الطهور ماؤه الحل ميتتة )
من الفوائد :
فضل الصحابة رضي الله عنهم إذ إنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أشكل عليهم ، ووجه الإشكال أن البحر متغير من حيث الطعم ومن حيث الرائحة ، فحصل لهم توهم أيصح الوضوء به أم لا ؟ فأتى الجواب منه صلى الله عليه وسلم بالإباحة .
ومن الفوائد :
جواز ركوب البحر ، وما ورد من حديث ( ينهى عن ركوب البحر إلا إذا كان الإنسان حاجَّا أو معتمرا أو غازيا ) فإنه حديث ضعيف ، ولو صح فإنه محمول على ركوب البحر حال تهيجه وتلاطم أمواجه .
ومن الفوائد :
أن على المفتي إن يزيد السائل في الجواب إذا رآه محتاجا إلى الزيادة ، أما إذا لم يره فله أن يقتصر على أقل الكلمات ، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين ( لما سألته المرأة الخثعمية قالت إن أبي أدركته فريضة الحج شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه ؟ قال نعم )
فأجاب بكلمة واحدة ، لكن لو احتاج السائل إلى زيادة في الجواب فيزيده كما هنا ، فالصحابة رضي الله عنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الماء ؟ فزادهم حكما آخر وهو حكم ميتته ، وهذا ما يسمى عند أهل اللغة بـ ( الإطناب ) لأن الكلام في الجواب إذا كان متساويا مع الجواب يسمونه ( مساواة ) سئل عن شيء فأجاب عنه هذه تسمى بالمساواة ، فإن زاد في جوابه عن سؤاله هنا إن كان من غير فائدة فيسمى عبثا ولغوا ، وأما إن كان لفائدة فيسمى إطنابا ، والأصل في الكلام أن يتساوى الجواب مع السؤال ، لكن إن زاد فلا يزاد إلا لفائدة ، فإنهم لما جهلوا حكم الماء إذاً من باب أولى أن يجهلوا حكم ميتة البحر فزادهم علما على علم ، قال ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته )
ومن الفوائد :
أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بـ ( أل ) في كلمة ( الطهور ) من باب التأكيد على أنه هو بذاته طهور ، ولا يمكن أن يخرج عن الطهورية ، لم ؟ لكثرته ، فكثرة ماء البحر تدفع توهم أنه ليس بطهور ، ولذا قال ( هو الطهور ماؤه ) ولم يقل ( هو طهور ماؤه ) قال ( هو الطهور ماؤه ) من باب التأكيد والتنصيص على أنه هو الطهور ، كأنه عليه الصلاة والسلام يشير إلى أنه أولى من غيره بالطهورية .
ومن الفوائد :
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهم حملهم الماء القليل فدل هذا على أن المسلم إذا أراد سفرا ولم يتمكن من حمل الماء معه للوضوء فإنه لا جناح عليه ، لكن إن كان قادرا فيلزمه ، لأن هذا واجب عليه ، فإذا كان قادرا ولا مشقة عليه فيلزم .
ومن الفوائد :
أن ( الحل ) معناه ( الحلال ) لرواية عند الدارقطني .
ومن الفوائد :
أنه أضاف الميتة هنا إلى البحر ، فدل على أن ميتة البر محرمة بناء على العموم { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ }البقرة173 ، وهذا شامل لميتة البحر ولميتة البر ، لكن هذا الحديث قيَّد ما جاء به القرآن مطلقا ، فدل على أن السنة قد تقيد القرآن .
ومن الفوائد :
أن كل حيوان لا يعيش إلا في البحر فهو حلال ، على أي صورة كان ، سواء كان على صورة كلب أو صورة خنزير أو صورة إنسان ، اللهم ما كان ضارا أو كان به سم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ( نهى عن الدواء الخبيث ) الذي هو السم .
وبعض العلماء استثنى بعض الأشياء في التحريم ، ولكن النص عام .