تفسير سورة الأحزاب من الآية ( 53 ) إلى ( آخر السورة ) الدرس (208 )

تفسير سورة الأحزاب من الآية ( 53 ) إلى ( آخر السورة ) الدرس (208 )

مشاهدات: 503

[ تفسير سورة الأحزاب]

من الآية (53) إلى آخر السورةالدرس (208)

لفضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين أما بعد.

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا(55)﴾

فكنا قد توفقنا عند قول الله ﷻ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ﴾ يعني أنكم لا تنتظرون نضجه وذلك لأن بعضهم كان يتحين موعد طعام النبي ﷺ فيحضر قبل أن ينضج الطعام فقال الله ﷻ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾ وبشرط أن يؤذن لكم وكذلك ألا تتقدموا حضور الطعام قبل نضجه ﴿غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ﴾ أي غير منتظرين نضجه ﴿وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا﴾ بمعنى أنكم لا تأتون من غير دعوة، ولذلك أخذ العلماء من هذه الآية تحريم التطفل وهو الطفيلي الذي يأتي إلى الناس في موعد طعامهم دون أن يؤذن له ﴿فَإِذَا طَعِمْتُمْ﴾ أي أكلتم ﴿ فَانْتَشِرُوا﴾ تخرجون من البيت ﴿وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ﴾ أي لا يتحدث بعضكم إلى بعض تأخذون بذلك الأنس من هذا الحديث.

وهذا جرى لما تزوج النبي ﷺ بزينب فدعاهم على الطعام فجعل النبي ﷺ يريد أن يخرج هؤلاء فخرج من خرج وبقي بعضهم فخرج ﷺ ثم نزلت هذه الآية.

وهذه الآية لعموم المسلمين فإن المسلم لا يأتي إلى طعام إلا إذا دعي إليه ثم إذا دعي إليه لا يأتي إلى الطعام قبل نضجه ثم إذا فرغ من الطعام فلا يمكث في البيت من أجل الحديث، اللهم إذا رغب صاحب البيت وأحب أن يبقى هؤلاء فلا جناح في ذلك فقال الله ﷻ: ﴿ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النبي﴾ يعني ما تفعلونه مما مضى ﴿فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ﴾ فهو لا يأمركم بأن تخرجوا استحياء منه ﷺ ﴿وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ﴾ الله ﷻ يبين الحق ولا يستحيي من بيان الحق ولذلك قال تعالى في أول السورة ﴿وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ ﴿إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ﴾ ومر معنا ما يتعلق بثبوت صفة الحياة لله ﷻ بما يليق بجلاله وبعظمته في سورة البقرة.

﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا﴾ أي زوجات النبي ﷺ ﴿فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ دل ذلك على أن قوله في أول السورة ﴿وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ من حيث الاحترام والتقدير، فقال الله ﷻ: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا﴾ أي مما تستمتعون به مما يتعلق بمصالحكم الدنيوية أو إذا أردتم مثلاً أن تستفتوهنّ رضي الله عنهن ﴿فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ يعني بينكم وبينهن ستر ﴿ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾ ففيه طهر لقلوبكم وقلوبهن، وهذا يدل على أنه متى ما كان هذا في حق زوجات النبي ﷺ وهن من العفة في أعلى الدرجات فغيرهن من باب أولى، فكيف إذا تأخر الزمن وكثرت الفتن ولذلك قال في ثنايا السورة ﴿فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾.

فقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ﴾ ما يصح ولا يستقيم ولا ينبغي لكم أن تؤذوا رسول الله كحال الكفار والمنافقين كما قال ﷻ: ﴿وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ﴾.

﴿وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا﴾ يعني أنهن محرمات عليكم بعد وفاة النبي ﷺ ﴿إِنَّ ذَلِكُمْ﴾ أي أذية النبي ﷺ وكذلك الزواج بزوجاته ﴿كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا﴾ فهو أمر عظيم فيكون صاحبه على خطأ.

﴿إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ يعني ما أبديتم من شيء وأظهرتموه أو أخفيتموه أي شيء فإن الله ﷻ مطلع عليه.

﴿لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ﴾ يعني لا إثم عليهن لأن أقرباء لزوجات النبي ﷺ قالوا: وهل نحن كغيرنا فيما يتعلق بمخاطبة زوجات النبي ﷺ من وراء حجاب فقال تعالى: ﴿لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ﴾ فيما يتعلق بهذا الأمر فإن هؤلاء يدخلون على زوجات النبي ﷺ ﴿لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ﴾ قيل: المسلمات وقيل: حتى ولو كانت كافرة لأن المقصود من النساء يعني جنس النساء ومر الحديث معنا في سورة النور ﴿وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾[النور: 31]، ﴿وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾ من الرقيقات وهل يدخل في ذلك العبيد أم لا؟ مر ذلك معنا مفصلًا في سورة النور في قوله تعالى: ﴿وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾[النور: 31]، الآية ﴿وَاتَّقِينَ اللَّهَ﴾ يعني مع هذا كله أُمرن بتقوى الله ﷻ ولذلك ماذا قال ﷻ في ثنايا السورة؟ ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ﴾ شريطة أن تتقين الله ﷻ وهذا ليس خاصًا بزوجات النبي ﷺ فيما يتعلق بدخول المحارم على محارمهم فهذا ليس خاصًا وإنما هو حكم عام، ولو قال قائل لماذا لم يذكر الخال والعم في هذه الآية؟ قيل: لأن الخال والعم يصفان المرأة لأبنائهم، وقيل: أن الأب والخال بمثابة الوالدين، ولذلك سمى الله ﷻ العم والد كما في قوله تعالى: ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾[البقرة: 133]، وإسماعيل ليس أبًا ليعقوب وإنما هو عم فجعل بمنزلة الأب وثبت الحديث الصحيح ” أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ  صِنْوُ أَبِيهِ “ وفي حديث آخر “العمُّ والدٌ” كما ثبت عنه ﷺ.

﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا﴾ فلا يغيب عنه ﷻ شيء فيما لو فرط الإنسان في مثل هذا الحكم أو في غيره من الأحكام.

 

إ﴿ِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا(57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)

﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾ هنا بيان بمنزلة النبي ﷺ عند ربه وعند الملائكة فالله يصلي على النبي وصلاته ﷻ على عبده هو ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، والصلاة من الملائكة بمعنى الاستغفار كما قال ﷻ:﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾[غافر: 7]، لما ذكر صفات الملائكة، فقال هنا: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾ فإذًا إذا كانت هذه منزلة النبي ﷺ فكيف يؤذى؟ كما قال تعالى: ﴿وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ﴾، ﴿وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ الله﴾ ولذلك قال بعدها آمراً المؤمنين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ والصلاة على النبي ﷺ كما جاء بذلك الحديث قالوا: يا رسول الله السلام عرفناه فكيف نصلي عليه قال: قولوا اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وهناك أكثر من صيغة يمكن تصل إلى عشر صيغ فيما يتعلق بصفة الصلاة على النبي ﷺ ﴿صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.

وأكد السلام هنا فقال: تسليمًا لم لم يؤكد ذلك في الصلاة؟ قال بعض العلماء لأن ذكر الصلاة لما تقدمت لأن المتقدم له شرف من حيث الأصل، فلما أخر السلام أكد ذلك  بالتسليم وليعلم أن الصلاة على النبي ﷺ جاءت بها أحاديث في فضلها وأيضًا التحذير ممن لم يصلِّ عليه ﷺ إذا ذكر اسمه كالحديث الصحيح ” البَخيلُ مَن ذُكِرتُ عِندَه فلم يُصَلِّ علَيَّ “وما يدل على أن أرجح الأقوال أن النبي ﷺ متى ما صلي عليه ولو في المجلس الواحد أكثر من مرة يصلى عليه بعدد ذكره ﷺ وقيل: أنه يصلى عليه في المجلس الواحد صلاة واحدة للحديث الثابت ” مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ  تِرَةً” -كان عليهم ذلك المجلس حسرة-، فذكر المرة الواحدة وقيل يذكر فقط في الصلاة، وقيل: يصلى عليه فقط في العمر مرة واحدة، لكن الصحيح ما قدمناه، وليعلم حسب علمي أن هذه الآية لم أطلع على حديث فيما أعلم والعلم لا يدل على العدم أنه إذا قرأها الإنسان أنه يصلي على النبي ﷺ فالأمر إذًا يحتاج إلى تحرير وإلى توضيح وإلى بحث أكثر وأكثر فيما يتعلق بهذا الأمر.

فقال الله ﷻ بعدها: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ يعني من يؤذي الله ﷻ ولذلك أذية الله ﷻ كما قال ﷺ في الحديث الصحيح قال الله ﷻ ” يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ ؛ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ بِيَدِي الْأَمْرُ” ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ أذية الله وأذية النبي ﷺ وذلك بمخالفة شرع الله ﷻ، وأذية النبي ﷺ لمخالفة سنته والاعتداء عليه بقول أو فعل وقد قال بعض العلماء إن ذكر الله ﷻ هنا من باب التحذير من أذية النبي ﷺ لأن من آذى النبي ﷺ فقد آذى الله ﴿لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾ يعني طردهم وأبعدهم عن رحمته في الدنيا وفي الآخرة ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا﴾ يهينهم ويحقرهم ويذلهم.

﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا﴾ دل هذا على أنه لما نهى عن أذية الله وعن أذية رسول الله ﷺ بين هنا خطورة أذية المؤمنين ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ ولذلك أفرد المؤمنات مع أنهن يدخلن في المؤمنين من باب التأكيد وقال هنا: ﴿بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا﴾ يعني بغير إثم اكتسبوه لأن المؤمن قد يخطئ مثلا في حق إنسان، ولذلك لم تأتِ كلمة بغير ما اكتسبوا فيما سبق في أذية الله وفي أذية رسول الله ﷺ، فإن الله ﷻ لا يظلم الناس شيئًا والنبي ﷺ لا يتعمد أذية أحد صلوات ربي وسلامه عليه.

﴿فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا﴾ والبهتان هو أعظم الإثم وأعظم الكذب والافتراء ﴿وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ يعني فهو إثم واضح وبيّن، وهذا يدل على عقوبة من آذى المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا وأن الله ﷻ سيعاقبهم.

 

﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)﴾

﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما بمعنى أنها تضع الجلباب الذي على رأسها فتسدل الجلباب على وجهها فلا تظهر إلا عين واحدة، ولذلك قالت مثل هذا القول أم سلمة رضي الله عنها وفي هذا دليل على وجوب ستر الوجه، قال الله ﷻ ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ﴾ ذلك أقرب أن يعرفن ﴿فَلا يُؤْذَيْنَ﴾ يصيب واحدة منهن أذى لأنه كلما ما تسترت المرأة وعظم سترها كلما ابتعد عنها أهل مرض القلوب وأهل الزنا والفواحش.

لكن إذا اكتشفت المرأة أو كشفت شيء من جسمها وتبرجت كما قال في ثنايا السورة ﴿وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى﴾ كلما كان الاعتداء عليها أكثر وهذا مشاهد في الواقع، كلما كانت المرأة أكثر سترًا كلما كان هؤلاء أبعد الناس عنها.

﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ﴾ المشهور عند الناس أن المقصود هن الحرائر يعني نساء المؤمنين، ولذلك أخرج بعض العلماء الإماء قالوا: لأن الإماء كثيرًا ما تخرج فإذا خرجت فإنه يشق عليها مثل هذا التستر لأنها تكثر من الخروج، لكن الحرائر كثيرًا ما يبقين في البيوت، وهنا قول آخر أن هذا شامل للحرائر وللإماء فلا فرق لأن قوله: ﴿وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يشمل الحرائر والإماء بل إن الفتنة قد تقع بالأمة أكثر من الحرة ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ فهو يغفر الذنوب ويرحم لمن وقع فيما وقع فيه من ذنوب فيما يتعلق بالستر وما شابه ذلك،.

وتأمل في هذه الآية نجد قال: ﴿فَلا يُؤْذَيْنَ﴾ دل هذا على أن الأذية ذكرت في هذه السورة عدة مرات تحريم الأذية لله ولرسوله ﷺ ونساء المؤمنين.

 

﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا(62)﴾

فقال الله ﷻ هنا: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ﴾ هل هذه الصفات الثلاث لطائفة واحدة أم لعدة طوائف؟ بعض المفسرين قال: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ﴾ كل هذه في حق المنافق والذي في قلبه مرض من مرض النفاق ومن مرض الشهوة حب الزنا ﴿وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ﴾ الذين يتحدثون بالأخبار من أجل أن يوقعوا الخوف والأراجيف في صفوف المسلمين، وقال بعض المفسرين إن هذا خاص بكل طائفة ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ﴾ هذا صنف ﴿وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ وهذا صنف ﴿وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ﴾ هذا صنف.

﴿لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ﴾ يعني لنسلطنك عليهم يا محمد ﴿ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا﴾ أي لا يجاورونك في المدينة إلا مدة معينة ﴿مَلْعُونِينَ﴾ حالتهم فهم مطرودون من المدينة في الدنيا، ومطرودون من رحمة الله ﷻ في الآخرة ﴿أَيْنَمَا ثُقِفُوا﴾ أينما وجدوا ﴿أُخِذُوا﴾ من باب الأسر يؤسرون ﴿وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا﴾ وهنا أكد على القتل من باب عظم ما وقعوا فيه وهذا يدل على أن قوله تعالى: ﴿أَيْنَمَا ثُقِفُوا﴾ يدل على الأمر أينما وجدتموهم فأسروهم وقتلوهم تقتيلًا.

﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ﴾ منصوبة على المصدر أو منصوبة بنزع الخفض يعني كسنة الله في الذين خلوا من قبل يعني هذه سنة الله ﷻ حتى في الأمم السابقة في شأن هؤلاء ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ لن تبدل ولن تغير سنة الله ﷻ.

 

﴿يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا(68)﴾

﴿يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ كما قال الله ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾[لقمان: 34]، وفي حديث ابن عمر في الصحيح ” مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ ” وذكر منها:

” وَلَا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا اللَّهُ “، وكما قال تعالى:  ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً﴾[الأعراف: 187]، وقال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا﴾[النازعات: 42-44]، ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا﴾ لها علامات تدل على قربها، من علامات قربها بعثة النبي ﷺ ولذلك ثبت عنه قوله ﷺ “بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ”. ولذا قال ﷻ عن أهل الكفر والعناد ﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ﴾ [الشورى: 18]، فقال الله ﷻ هنا في بيان شأن من كفر ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا﴾ نارًا مستعرة تتلظى ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ يدل على أبدية النار وأنها لا تفنى ﴿لا يَجِدُونَ وَلِيًّا﴾ يأتي إليهم بالنفع ﴿وَلا نَصِيرًا﴾ من ينصرهم من عذاب الله.

﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ﴾ كما يقلب الشيء جهة إلى جهة نسأل الله السلامة والعافية وذكر الوجوه لأنها أشرف الأعضاء ﴿يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا﴾ هنا تمني لكن لا ينفع التمني في مثل هذا الوقت  ﴿يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا﴾ لأن الله ﷻ قال في الآيات التي تأتي بعدها ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾.

﴿وَقَالُوا رَبَّنَا﴾ يعني أنهم يأتون بهذه الأعذار لعلها تنفعهم ولن تنفعهم، لأن الله ﷻ أقام عليهم الحجة فقال الله ﷻ عن هؤلاء ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا﴾ السادة هم سادة القوم من الأمراء وما شابه ذلك ﴿وَكُبَرَاءَنَا﴾ قيل: الكبراء هم الأقل منهم يعني مثل: رؤساء القبائل، ولكن الذي يظهر القول الآخر ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا﴾ يعني الأمراء أمراء البلاد أو أمراء القبائل ﴿وَكُبَرَاءَنَا﴾ يعني علماء السوء لأن من يفتن الناس إذا عظمت الفتنة بهم هم هذان الصنفان، ولذلك قال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾[النساء: 59]، فدل هذا على أن لهم سيادة وولاية.

﴿فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا﴾ النتيجة أضلونا عن طريق الحق ﴿رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ ضاعف لهم العذاب ﴿وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا﴾ وهذا يدل على أن اللعن من عند الله متفاوت، ولذلك قال ﷻ في الآيات التي قبلها ﴿ملعونين﴾ ﴿وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا﴾ وفي قراءة والعنهم لعنًا كثيرًا، وقال ﷻ في سورة الأعراف: ﴿لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 38].

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)﴾

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ﴾ يعني لا تؤذون النبي محمد ﷺ كما آذت بنو إسرائيل موسى، وتأمل هنا ذكرت الأذية في هذه السورة أكثر من مرة فقد آذوا موسى كثيرًا ولذلك ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: ” رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى، قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ “

وأيضًا من أذية بني إسرائيل له أنه كما ثبت في الصحيح قالوا: إن موسى ما يغتسل وحده إلا لأنه آدر يعني أنه عظيم الخصيتين فجلسوا يستهزؤون به، فاغتسل ذات يوم على نهر ووضع ثوبه على حجر، فلما خرج إذا بالحجر يعدو بثوبه فيتبعه فيقول: ثوبي حجر يعني ثوبي يا حجر فأتى إليهم وهو يتبع هذا الحجر فإذا بهم يرونه ليس به كما زعموا أنه آدر فجعل موسى يضرب الحجر بعصاه.

فقال الله ﷻ هنا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا﴾ فرأوه سليماً وليست به أدرة ﴿وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا﴾ له وجاهة ومكانة عند الله ﷻ.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ أُمروا بتقوى الله ﷻ ومع تقوى الله القول السديد، وأعظم القول السديد هو توحيد الله ﷻ وهذا يدل على عظم إيمان العبد ولذلك النبي ﷺ كما في الصحيح قال: ” مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ” ودل هذا على أن القول الذي لا سداد به يذهب تقوى العبد أو يضعف تقوى العبد، ولذلك قال هنا ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ ما الذي يحصل من تقوى الله ومن القول السديد؟ ﴿يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ وإذا أصلح الله لك عملك تقبله منك كما قال ﷻ: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: 10] وزيادة على ذلك ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ أي فوز أعظم من هذا الفوز فهو فوز عظيم حيث ينال الجنات، ولذلك قال أهل النار ﴿يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا﴾.

 

﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(73)﴾

 

﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ﴾ امتنعن  ﴿فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا﴾ خفن أن يحملن هذه الأمانة، والأمانة على الصحيح من أقوال كثيرة للمفسرين فالقول الذي يشمل هذه الأقوال أن كل ما أمر الله به العبد فهو أمانة فالصلاة أمانة يجب أن تؤديها، الزكاة أمانة وكل ما أمر الله به أيضًا الودائع التي للناس وحقوق الناس أمانة.

﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ﴾ مع عظم السماوات والأرض والجبال امتنعن وخفن من تحمل هذه الأمانة وليس معنى ذلك أنهن يرفضن أمر الله، وإنما عرضت عليهم اختيار وإلا لو ألزمهم الله بذلك لالتزموا، لكن هل هذا تصوير وتمثيل لعظم الأمانة بحيث لو قدر أن السماوات والأرض والجبال تحمل هذه الأشياء لخافت وأشفقت، أم أنه عرض حقيقي قولان والصحيح أن الأمانة عرضت عرضًا حقيقيًا وجعل في السماوات وفي الأرض وفي الجبال إدراكًا لا يعرفه إلا الله عز وجل.

﴿وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ قال بعض العلماء وحملها الإنسان يعني جنس الإنسان ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ ولكن الذي يظهر وحملها الإنسان من؟ آدم عليه السلام ﴿وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ﴾ لا يعود الضمير على آدم، وإنما يعود إلى ذريته لأن الضمائر قد تختلف، ولذلك قال ﷻ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾[المؤمنون: 12]، من هو؟ آدم ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً﴾ [المؤمنون: 13] ذريته ﴿وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ ففي أصل الإنسان الظلم والجهل، إلا من وفقه الله ﷻ فصار عدلًا وصار عالمًا، ولذلك ماذا قال تعالى؟ ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 9-10].

﴿لِيُعَذِّبَ اللَّهُ﴾ يعني حمل الإنسان هذه الأمانة من أجل أن يفترق الناس في حملها إلى أصناف منهم الكافر الذي باطنه وظاهره الكفر، ومنهم المنافق الذي باطنه الكفر وظاهره الإيمان، ومنهم المؤمن الذي باطنه وظاهره الإيمان ﴿لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ﴾ إذا لم يحملوا هذه الأمانة ﴿وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ لأنهم حملوا الأمانة، ولذلك ذكر ما يتعلق بجنس الإناث فيما يتعلق بأهل النفاق وبأهل الشرك وبأهل الإيمان ﴿وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ فيما لو حصل تقصير من أهل الإيمان في حمل هذه الأمانة لأن ابن آدم يعتريه ما يعتريه من النقص قال ﷺ كما ثبت عنه ” كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ “ فقال الله ﷻ : ﴿وَيَتُوبَ اللَّهُ﴾ ودلت كلمة ويتوب لأنها فعل مضارع يدل على الاستمرار أن من توبته ﷻ يتوب على عباده أهل الإيمان وأن ذلك مستمر لمن تاب إليه  ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ فهو الغفور الرحيم من حيث الأزل، وهو أيضًا لا يزال الغفور الرحيم فيغفر الذنب ويرحم عباده، وبهذا ينتهي تفسير سورة الأحزاب.