تفسير سورة البقرة ـ الدرس ( 135 )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله تعالى :
{ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ …… }
سورة البقرة ( 102 ـ 103 } / الجزء التاسع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معنا في هذه الليلة تفسير قوله تعالى :
{ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) }
من الفوائد :
ـــــــــــــــــــ
أنه قال جل وعلا هنا :{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} هنا فيه فائدة لغوية :
بعض النحاة يقول : إذا أردت أن تميز بين اثنين بالبينونة فتذكر هذه البينونة مرتين كما لو قلت : فرق بين زيد وبين عمرو
تأتي بكلمة بين مرتين ، فلا تقل فرق بين زيد وعمرو ، يعني كلمة بين التي قبل عمرو لا تحذفها
لكن نقول الصواب : أن الأمر فيه سعة والدليل هنا {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} ولم يقل وبين زوجه
وهناك أمثلة في السنة كثيرة في هذا الباب مثل :
( بين النائم واليقظان ) ( ما بين المشرق والمغرب قبلة )
من الفوائد :
ـــــــــــــــــــ
أن كلمة المرء تطلق على الرجل فهو مقابل التثنية في المرأة
نقول عن الأنثى امرأة ونقول عن الذكر مرء
من الفوائد :
ـــــــــــــــــــ
أن النطق هنا { بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } الميم مفتوحة { الْمَرْءِ } وهذه القراءة السبعية ، لكن ربما من حيث اللهجات العامية ، وهناك عند عوام الناس ألفاظ سواء كانت في جنوب المملكة أو الشمال حتى في نجد بعض الألفاظ نذكرها وهي في ظننا أنها عامية ، وليست عامية ولكنها فصحى
ليعلم أنه وردت قراءة لكنها شاذة لكن من حيث اللغة لغة أن الميم تكسر فيقال ” المِرء ” ، وهناك أيضا قراءة غير سبعية بضم الميم ” المُرء “
هذا مُرء ، هذا مِرء
من الفوائد :
ـــــــــــــــــــ
أن كلمة الزوج تطلق على الذكر وعلى الأنثى ، إطلاقها على الذكر معروف ، إطلاقها على الأنثى قد يستغرب
لو مثلا لك زوجة اسمها مريم أو أسماء تقول هذه زوجي أسماء ، هذه زوجي هند ، هذه زوجي عائشة ، هذا هو الأشهر في اللغة
الأشهر في اللغة أن تقول : هذه زوجي هند وهذه زوجي نورا أو فاطمة أو سعاد ، ونحن نتلفظ بخلاف المشهور ويصح أن نقول هذه زوجتي هند هذه زوجتي سعاد ، المشهور عندنا هذه زوجتي ، أو نقول هذه زوجة فلان مع أن الأشهر هذه زوج فلان
الدليل هنا : {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ }
المرء من هو ؟ الرجل ، زوجه ؟ هي المرأة
ولكن يصح زوجتي وقد وردت في السنة وهو قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أنس عند مسلم لما كانت معه زوجه صفية ، مر رجل فقال عليه الصلاة والسلام : ( هذه زوجتي ) ، الوارد في الصحيحين : ( هذه صفية )
قال : يارسول الله لو كنت أظن بغيرك ما ظننت بك
يريد أن يدفع التهمة عنه عليه الصلاة والسلام
فقال : لو كنت سأظن بغيرك ما ظننت بك
فقال عليه الصلاة والسلام : ( إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم )
الشاهد من هذا :
أنه قال ( هذه زوجتي )
إذن لما تذهب إلى بيتك وتدخل على امرأتك تقول تعالي يا زوجي
لكن هي المشهورة
من الفوائد :
ـــــــــــــــــــ
أن قوله : {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } مرت معنا
” ما ” : نافية ، “ما ” تأتي استفهامية موصولية نافية شريطة زائدة
” ما ” هنا نافية {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}
” ما ” تميمية أم حجازية ؟ حجازية يعني تعمل عمل ليس
اسمها : { هُمْ }
{ بِضَارِّينَ } : خبرها التحق حرف الباء بخبرها مثل ليس {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} أتى بالباء في الخبر {أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ}
إذن هنا نافية حجازية ليست تميمية التميمية لا تعمل عمل ليس
من الفوائد :
ـــــــــــــــــــ
أن هنا فائدة بلاغية ، النفي والاستثناء {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}هذه أعظم أدوات الحصر يعني لا يمكن لهؤلاء السحرة أن يضروا أحدا مهما كان سحرهم ومهما عظم إلا بإذن الله
من الفوائد :
ـــــــــــــــــــ
بيان ضعف البشر سواء كانوا سحرة أو جنا أو غيرهم لأنه لا يمكن أن يجري شيء في هذا الكون إلا بأمره جل وعلا ، ولذا أتى وقلنا لكم إن أداة الاستثناء تدل على العموم يعني عموم ، لا يمكن أن يقع ضرر قل أو كثر صغر أو كبر إلا بإذن الله
الاستثناء معيار العموم يعني لا يمكن أن يقع شيء من هذا
كيف الاستثناء معيار العموم ؟
مثال :
ـــــــــ
{وَالْعَصْرِ {1} إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ {2}} يعني كل إنسان خسران هذا عام عموم بني آدم في خسارة ، الاستثناء معيار العموم لما أتى الاستثناء { إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ {3} }
ولذا : أكد العموم بماذا ؟
وينص على التأكيد إذا زيد حرف ” من ” {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}
لو كان في غير القرآن وماهم بضارين به أحدا إلا بإذن الله
{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} لو كان في غير القرآن هل خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض
هذا تأكيد على أنه لا يمكن أن يرزق الناس مهما بلغ ما يمكن أن يرزقهم إلا من خلقهم وهو الله
هنا ” من ” زائدة ، هل نقول زائدة ؟
بعض العلماء كالبغوي دائما يعبر عن الزيادة يقول هذا حرف صلة ولكن لا إشكال في هذا لو قلت حرف زائد هل زائد من حيث الإعراب لكن هل هو زائد من حيث المعنى ؟ لا
أي حرف في القرآن له فائدة ومعنى حتى لو كان زائدا من حيث الإعراب
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}
الكاف هنا زائدة الأصل لو كان في غير القرآن ليس مثله شيء أتى بالكاف زيادة في نفي أن يكون له مثيل
من الفوائد :
ـــــــــــــــــــ
أن إذن الله نوعان : قال هنا : {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ }
إذن الله نوعان : كوني قدري ـــ وشرعي ديني
هنا : كوني قدري ، لا يمكن أن يقع ضرر من هؤلاء السحرة لمن أرادوا به الضرر إلا بإذنه الكوني
الإذن الشرعي لا ، الإذن الشرعي يختلف
مثال على الإذن الشرعي :
الصحابة لما قطعوا وحرقوا النخيل في غزوة بني النضير وغزوة بني النضير ذكرتها سورة الحشر قالوا إنكم مفسدون كيف تتلفون الأشجار
فماذا قال جل وعلا : {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ}
لينة : نخلة كريمة ، الإذن هنا شرعي
من الفوائد :
ـــــــــــــــــــ
وجوب التوكل على الله جل وعلا يعني هؤلاء السحرة يريدون بك الضر ولا يمكن أن يقع الضر إلا بإذن الله الكوني
إذن ما الذي يلزمك ؟
أمران : التوكل على الله مع بذل الأسباب
ما يترك الإنسان نفسه من غير سلاح ، فكون الإنسان لا يحرص على ذكر ولا على قراءة قرآن ولا على التحصن بالأذكار الشرعية هذا عرضة إلى أن يقع به الضر ، فأنت تتوكل على الله لكن مع بذل الأسباب ، ولتعلم أن بذل السبب لا يغنيك إلا بأمره جل وعلا
القرآن سبب ، الأذكار سبب لكن نفعها لا يكون إلا بإذنه جل وعلا
ولذلك لا يجوز أن يعتمد الإنسان على قراءة القرآن أو على الذكر لكون هذا الذكر أو لكون القرآن يحفظه ، توكل على الله ولكن تأخذ بالأسباب التي تحفظك بإذن الله
ومن بين هذه الأسباب : هذه الأذكار
ولذلك قد يقع بالإنسان الضر من السحرة مع أنه يحافظ على الأذكار ، لم ؟
لأن سلاحه قوي ، القرآن قوي الأذكار قوية ، لكن الرامي بهذا السلاح ضعيف ، العلة ليست في القرآن ولا في الأذكار ، العلة فيمن قال هذا الذكر
ولذلك يقول ابن القيم : ” الأذكار بمثابة السيف والسيف بضاربه “
لما تأتي بسيف صلت وتعطيه شخصا وإذا به يضرب فيحسن الضربة
هذا محمود ، تأتي بهذا السيف نفسه وتعطيه شخصا آخر فيضرب به ولا يحسن ، الخلل فيمن ؟ في الضارب
إذن الخلل فيمن يقرأ الأذكار ، ما تقرأ بتمعن بتأمل
بعض الناس يقول : والله إني محافظ على الصلوات وأقرأ القرآن وأذكر الله
لكن ذكر مجرد لم يمتلأ القلب بهذا الذكر حتى يكون له أثر
ثم في المقابل : قد لا يفعل الإنسان السبب ويحفظ ، يعطل الله السبب
إبراهيم عليه السلام ، لما يوضع إنسان في النار ماذا تفعل به النار ؟ تحرقه
لكن لو شاء الله أن يبطل السبب أبطله ، ولذلك{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}
وانظروا إلى قوله { كُونِي بَرْدًا } لأنه لو قال كوني بردا ولم يقل سلاما لتجمد لكن بردا وسلاما {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ }
الأصل وهي قاعدة أهل السنة والجماعة :
أنك تتوكل على الله وتفوض أمرك إلى الله مع بذل الأسباب الشرعية
هناك أسباب غير شرعية كيف ؟
بعض الناس يتحصن من الجن بأن ينفذ أوامرهم فلا يصاب بضرر منهم هذا سبب غير شرعي
ولذلك قديما أهل الجاهلية كانوا إذا نزلوا بواد وخافوا قالوا نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه
أعوذ بالله ، شرك
ولذلك قال جل وعلا {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } زادوهم تعبا ونصبا وألما ما فيه راحة
إذا لم تعلق قلبك بالله فلا راحة ، ولا تظن أن هناك قويا سيمنعك من الله ، لا
ولذلك هم أرادوا أن يتحصنوا من شر هؤلاء الجن فزادوهم رهقا وتعبا على تعبهم وخوفا على خوفهم
إذن الأمن هو في شرع الله
من الفوائد :
ـــــــــــــــــــ
أنه قال جل وعلا { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ } مِن هذا السِّحر ، السِّحر ضَرَر { وَلَا يَنفَعُهُمْ } أتى بكلمة { وَلَا يَنفَعُهُمْ } مِن أجلِ أن ينْفِيَ وجود أيّ نَفعٍ في السِّحر ، فإنّه لَوْ قال { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ } لَرُبَّما انْقَدَحَ في الذِّهن أنّ هُناك نَوْعًا مِن الـنَّـفـع فَقَال { وَلَا يَنفَعُهُمْ }
{ وَلَقَدْ عَلِمُوا } : أي اليهود ومَن سارَ على طريقتهم { وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ } أي السِّحر
{ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ }: { مَا لَهُ } أي ليسَ لهُ مِن نَصِيب { مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } أي مِن نصيب . وهذا يدلّ على أنّ السِّحر كُفر بالله عزّ وجلّ إذا كان استِعانةً بالشياطين ، أمّا إذا كان عزائم ورُقَى ، ويَنْفخ الإنسان فيها ويَنْفُثُ فيها دُون استعانةً بالشياطين ، فهناك خِلاف بَيْنَ أهل الْعِلْمِ .
الشاهِد مِن هذا :
أنّ السِّحرَ به خطرٌ عظيم على عَقيدة المُسلم
{ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ } : { شَرَوْا } باعُوا { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ } أي باعوا أنفُسَهم { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } لَوْ كانوا يعلمون خُطورة السِّحر وما يؤدّي إِلَيْهِ ما باعوا أنفُسَهم وعَرَّضوها لِسَخَطِ الله ولِعِقابِ الله .