تفسير سورة البقرة ــ الدرس { 168 }
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله تعالى :
{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {115}}
سورة البقرة { 115 } / الجزء الثاني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نكمل تفسير قوله تعالى :
{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {115}}
من الفوائد :
ـــــــــــــــــــــ
أن كلمة ” ثم ” اسم إشارة للبعيد {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وهذه الكلمة تدل على عظمة الشيء وعلو مكانته ولذلك في قوله تعالى عن أهل الجنة : {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا {20} }
لا تسأل عن هذا النعيم وعن هذا الملك لأهل الجنة ، فكذلك هنا إشارة إلى المكان البعيد ، وهنا نستفيد فائدة تتعلق بالتوحيد وهي إثبات صفة العلو لله عز وجل ، فالله في علوه لكنه مع خلقه لكن ليست معية اختلاط ، وإنما هو معهم جل وعلا إن كانت معية عامة هو معهم بعلمه وإحاطته وقدرته أو معهم بمعيته الخاصة للمؤمنين بتأييدهم ونصرتهم
فهو جل وعلا في العلو ولا تنافي بين العلو والمعية كما قال شيخ الإسلام
لأن الله جمع بينهما في أول سورة الحديد : {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {3} هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {4}}
فلا تنافي بين علو الله وبين معيته لخلقه فلا يظن ظان ذلكم الظن الفاسد الخاطئ ، ولذلك قال شيخ الإسلام ” هو قريب في علوه علي في دنوه “
فلا تنافي بينهما لأن هناك طائفتين ضلتا وهذا يروج له ووصلني بعض هذه الكتابات وهي من خارج المملكة تنفي علو الله ، لأن هناك طائفتين ضلتا في هذا الباب :
طائفة تقول إن الله حل في كل مكان تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا
كيف وقد قال تعالى : {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ }
بل ذكر أهل السنة والجماعة أن هناك أكثر من ثلاثة آلاف دليل على علو الله عز وجل
فتلك طائفة تقول هو في كل مكان يلزم على هذا القول الفاسد أن الله قد حل في كل مكان ، وأنه تعالى جل وعلا في أماكن القاذورات هذا كلام فاسد
ولذلك بشر المريسي الضال الجهمي لما عجز قلبه عن استيعاب مثل هذا الأمر كان يقول في سجوده ” سبحان ربي الأسفل “
وهناك طائفة تقول هو ليس في العالم ولا في خارجه ولا منفصل عنه ولا متصل به ، إذن هذا هو المعدوم
ولكن معتقد أهل السنة والجماعة وهذا هو ما نحتاج إليه ويجب أن نبينه أنه جل وعلا في العلو هو في العلو وصفة العلو صفة ذاتية له جل وعلا وهذا العلو لا يتنافى مع معيته جل وعلا لخلقه
ولذلك وهي الفائدة التي تليلها :
قال : {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } هنا إثبات صفة الوجه لله بما يليق بجلاله وعظمته لا نحرف ولا نؤول ولا نكيف وجه الله ولا نمثل وجهه بالمخلوقات
انتبه : عندك قواعد في القرآن :
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } هنا نفي أن يكون له مثيل وأثبت له الصفات :
{ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ {4} }
ولذلك : أسماء الله وصفاته من تمعن فيها ظفر بخير عظيم من الله جل وعلا
ولذلك : لماذا كانت آية الكرسي أعظم آية ؟ لما اشتملت عليه من الأسماء والصفات ، لماذا كانت سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن ؟ لما اشتملت عليه من الأسماء والصفات ، لماذا تعدل سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ {1}} ربع القرآن ؟ لأنها تتعلق بالتوحيد ، لماذا سورة الفاتحة هي أعظم سورة في القرآن ؟ لأنها ذكرت أسماء الله وصفاته
ولذلك أعظم ما يتدبر من آيات في القرآن الآيات المشتملة على أسماء الله وصفاته
فهنا إثبات صفة الوجه لله بما يليق بجلاله وعظمته ولذلك انتبه : قد تمر على بعض التفاسير قد تكون تفاسيرلمعتزلة لمعطلة لجهمية يقولون : وجه الله في هذه الآية مثلا : {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27}} أو {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى } يقولون : وجه هنا صلة أو زائدة يسمون الزائد صلة يعني يقولون زائدة يعني فيكون على كلامهم ويبقى ربك من أجل أن ينفوا صفة الوجه لله ، فتنبه
ولذلك بعضهم قال الوجه هو الذات وهذا لا يختلف عن الأول كما قال ابن القيم كما اختصر كتابه البعلي الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة
سبحان الله ! كيف يكون الوجه هو ذات الله والله وصف الوجه بقوله : {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27}}{ ذُو } لم يقل ذي لأنه أراد أن يصف الوجه لكن لما ذكر عز وجل في الآية الأخرى : {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {78} }
لما أراد أن يصف الاسم الذي هو الذات المسمى كسر ، هنا رفع {ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} من باب إثبات صفة الوجه لله عز وجل بما يليق بجلاله وعظمته
بعضهم يقول وجه الله هو ثواب الله ، كيف عمي هؤلاء ؟ الوجه {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} يعني ثواب الله هو الذي يبقى ؟ يعني الثواب مخلوق أم غير مخلوق ؟ مخلوق ، كيف وقد أتت أحاديث كثيرة أنه عليه الصلاة والسلام استعاذ بوجهه جل وعلا ، لو قيل على هذا القول من أن الوجه هو الثواب إذن هنا استعاذة بمخلوق وكيف يستعاذ بمخلوق
وعلى كل حال :
معتقد أهل السنة والجماعة إثبات صفة الوجه لله جل وعلا بما يليق بجلاله وعظمته ، وهذه الآية من ضمن الآيات التي تثبت صفة الوجه لله
ولتعلم :
أن كل آية ذكر فيها وجه الله أثبتها أهل السنة والجماعة على أن المراد بها وجه الله إلا هذه الآية ، تنازع بعضهم كمجاهد وتبعه في ذلك الشافعي في الرد على الجهمية في بيان تلبيس الجهمية
ولماذا قالوا هذا القول ؟
مجاهد والشافعي يقولون بإثبات صفة الوجه لله لكن في هذه الآية وجه الله هنا المراد القبلة ، ولكن الصحيح إثبات صفة الوجه لله هنا وقد ذكر ابن القيم ما يقرب من ستة وعشرين دليلا على إثبات صفة الوجه ومنها أن هذه الآية تدل على إثبات صفة الوجه لله وليس المراد القبلة
بدليل : أنه قال تعالى : {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ }
ماذا قلنا في أين ؟ اسم شرط للعموم وقال في ختام الآية : { وَاسِعٌ } تدل على العموم ولا ذكر للقبلة : {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} فأينما تولوا إلى القبلة في الصلاة أو في غير الصلاة فهي عامة
ولذلك يقول لم يكن في السياق ما يدل على ذكر القبلة بدليل أن ما قبلها بيان لذم من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمها والتي بعدها الرد على النصارى لما نسبوا الولد لله ، وقال هذه الآية بيان لعظمة الله ولا تعلق لذكر القبلة بها
لكن لتعلم :
لتعلم حتى لا يقول قائل هذه الآية لا تدل على إثبات صفة الوجه لله ، كلا ، تدل
سلمنا على هذا الرأي من أن الوجه هنا القبلة أليس المتوجه إلى القبلة في صلاته متوجها إلى الله ؟ بلى ، والدليل : في الصحيحين : قال عليه الصلاة والسلام : ( إذا صلى أحدكم فلا يبصق تلقاء وجهه فإن الله قبل وجهه ) إذن إذا اتجه إلى القبلة سيتجه إلى الله
انتبه :
كونه جل وعلا في قبلة المصلي كما ذكر عليه الصلاة والسلام لا يدل على أنه حل ومتحد بالخلق ، لا ، كما قررنا ، ماذا قررنا ؟هو في العلو ، ولا يلزم من هذا أن يكون مخالطا للناس ، انتبه لنفسك ، ولذلك الشمس مخلوقة وهي في العلو ومع ذلك نقول هي في قبل وجه الناظر وهي في العلو فإذا كان هذا يثبت في حق المخلوق وهي الشمس إذن من باب أولى الخالق عز وجل
ولتعلم :
وملخص هذا أن الله عز وجل في العلو لا يحيط به شيء من مخلوقاته ما هو محتاج إلى سماء ولا إلى أرض ولا إلى عرش ، الكل محتاج إليه
{وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ}كيف يحتاج إليها لا تقله ولا تحمله ، هو في العلو جل وعلا ، لا يحيط به شيء من مخلوقاته
{وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} ضعيفة هذه السماء
{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا {41}}
من الفوائد :
ـــــــــــــــــــــ
أنه جل وعلا ختم هذ الآية باسمين عظيمين بقوله { إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }
{ وَاسِعٌ } يدل على ماذا ؟ على العظمة والسعة ، واسع الرحمة ، واسع المغفرة
واسع العلم ، واسع الفضل ، واسع القدرة ، واسع الإحسان
إذن من اسمه الواسع فلا تلتفت إلى ما في أيدي الناس لأنه هو الذي أعطاهم من واسع فضله ومن واسع كرمه ، من أعطى الصحة والعافية لأن من أسمائه الواسع ، فتأمل
ثم قال بعدها : { عَلِيمٌ } إثبات صفة العلم لله جل وعلا وإثبات اسم من أسمائه وهو العليم ، عليم بماذا ؟ عليم بالماضي ، عليم بالحاضر، عالم بالمستقبل ، عالم بالممكنات ، بالمستحيلات ، عالم بما كان وبما يكون وبما لم يكن لو كان كيف يكون ، عالم بالدقيق ، والعظيم ، والصغير ، والكبير والجليل : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) }
{ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} عالم بذات الصدور ، بما في صدورنا
{ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } يعلم كل شيء ، وأدلة كثيرة
ولذلك : من علم أو من اعتقد بهذا الاسم وتمعن فيه زاده إيمانا وخيرا
هو عليم بحالك ، عليم بمرضك ، عليم بفقرك ، عليم بهمك ، عليم بمصائبك بمشاكلك ، إذن ادع العليم جل وعلا : { وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا }
وانتبه : الملائكة لما دعت في سورة غافر : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا }
تأمل : العلم والرحمة تقترنان كثيرا لم؟
لأن من علم رحم ، كلما ازداد في جانب المخلوق كلما ازداد علمك كلما ازدادت رحمتك ، فإذا كان علم الله واسعا ورحمته واسعة ورحمته عظيمة
أعطيكم مثالا : لو أتى إنسان سائل يسأل نحن لا نعرفه لا نعرف حاله ربما أنه يكذب وربما أنه صادق ، كيف يكون عطاؤنا له ؟
إن أعطيناه هذه رحمة منا لكن كيف يكون عطاؤنا له ؟ بعضنا يمكن لا يعطيه وبعضنا ممكن يعطيه ما قل ، لكن تصور : لو أنك تريد أن تتصدق وتعلم بحال هذا الرجل معرفة تامة كيف تكون رحمتك له ؟ أعظم وأكثر
ولذلك تعطيه أكثر ، فكلما اتسع علمك كلما اتسعت رحمتك
لكنه جل وعلا واسع الرحمة وواسع العلم ، ولذلك هو جل وعلا رحمته عن علم هو واسع العلم واسع الرحمة
أيضا رحمته عن علم ليست عن جهل : مثال : لما تأتي إلى ابنك الصغير في فضل الشتاء وهو في فراشه لصلاة الفجر وعمره سبع أو عشر سنوات لم تجب عليه الصلاة لو تركته رحمة ، رحمة عن ماذا ؟ عن علم أم عن جهل ؟ عن جهل
كيف تتركه والشرع أمرك أن تربيه من الأساس على الطاعة فإذن يجب أن تكون رحمتك نابعة عن علم لا عن جهل
ولذلك هو جل وعلا قرن بين الصفتين وبين هذين الاسمين لأن رحمته جل وعلا عن علم وليس عن جهل