تفسير سورة البقرة ـ الدرس الثامن
{ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــ
قال عز وجل :
{ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
من فوائد هذه الآية :
أن الله عاقبهم بأن ألغى أعظم وسائل لتلقي الخير والعلم
ما هي ؟
القلب
السمع
البصر
ولذلك يذكرها عز وجل في آيات كثيرة:
{ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ }المؤمنون78
الله جل وعلا لما ذكر البشر بين أنه لما خلقهم خلقهم وهم في جهل : { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا }
لكن جعل لكم مصادر التلقي : { وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
ولذلك :
هذه الوسائل من لم يحافظ عليها يعاقب ألم يقل الله : { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا }الإسراء36
ومن فوائد هذه الآية :
أنه قال عز وجل : { خَتَمَ اللَّهُ }
إثبات صفة ختم الله عز وجل على قلوب الخلق
صفة تليق بجلاله وعظمته
وقد حكم على قلوب هؤلاء الكفار بأنها مختومة ووصفها في مواطن متعددة بأوصاف أخرى :
وصفها بالختم : كما هنا { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ }
وصفها بالطبع : { بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا }
وصفها جل وعلا بالإنكار :
{ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ }النحل22
وصفها جل وعلا بالران :
{ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }المطففين14
وصفها جل وعلا بالموت :
{ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ }
وقال عز وجل : { وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ }
وصفها جل وعلا بالضيق :
{ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا }
وصفها جل وعلا بالحمية :
{ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ }
ومن فوائد هذه الآية :
أن معنى الختم : هو الاستيثاق من الشيء وإحكامه
بمعنى : أن لا يخرج منه شيء ولا يدخل فيه شيء
كما أسلفنا في الحديث السابق حديث حذيفة عند مسلم :
(( تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودا عودا فأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء ، وأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء حتى تعود القلوب على قلبين : أبيض كالصفا لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض ، وقلب أسود مربادا كالكوز مجخيا ))
مثل الكأس المقلوب : لا يمكن أن يدخل فيه شيء (( لا يعرف معروفا و لا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه ))
سبحان الله!
لهم قلوب ؟
نعم لهم قلوب لكن لا ينتفعون منها
لهم أسماع ؟
نعم لهم أسماع ولكنهم لا ينتفعون بها ولا يوعون بها
وكذلك لهم أبصار
مثل ما تقول لشخص : هذا فلان لا يسمع
قلت له ولم يسمع
أهو أصم ؟
لا لكنه لم ينتفع بالموعظة
فأسماعهم وأبصارهم وقلوبهم موجودة لكنهم لم ينتفعوا بها
كما قال تعالى :
{ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ }
ما السبب ؟
{ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ }
ومن فوائد هذه الآية :
هل الوقف كما مر معنا قلت لكم : إن في القرآن وقفا ووصلا
هل نقف ونقول : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ }
ثم نستأنف :
إذًا :
لما نقرأ : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ }
الختم على ماذا ؟
على القلب
ولما نستأنف ونقول : { وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ }
إذًا :
الغشاوة وهي الغطاء على ماذا ؟
على السمع والأبصار
أم الوقف على : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ }
فيكون الختم على ماذا ؟
على القلب والسمع
{ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ }
تكون الغشاوة على الأبصار
أم أن الوقف : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ }
إذًا :
الختم يكون على ماذا ؟
على هذه القراءة أو على هذا الوصل يكون على الجميع
وبالتالي تكون الغشاوة معناها الختم
قد قيل بهذا
ولكن لا يمكن أن نقول :
إن الآية تحتمل كل هذه المعاني
لابد أن نأتي ونرجح ما هو الأصح ؟
{ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ }
ثم نقول : { وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ }
إذًا :
الختم وقع على القلب والسمع
والغشاوة وقعت على البصر
ما الدليل ؟
في القرآن : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً }
إذًا :
الوقف : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ }
ثم نقول : { وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ }
ومن فوائد هذه الآية :
أن العلماء اختلفوا :
هل السمع أفضل من البصر أم أن البصر أفضل من السمع ؟
السمع أفضل لم ؟
قال بعض العلماء السمع هو : أفضل
لم ؟
لأن الله عز وجل قدمه
وما قدمه في القرآن :
هذه قاعدة :
أي شيء قدمه الله عز وجل في القرآن في الذكر هو المقدم وهو الأفضل إلا إذا جاء دليل آخر يخرج هذا
ما الدليل ؟
النبي عليه الصلاة والسلام لما حج وأراد أن يبدأ في السعى :
هل يبدأ من المروة أم من الصفا ؟
أشعر أصحابه رضي الله عنهم :
قال : (( أبدأ بما بدأ الله به ))
ما الذي بدأ الله به ؟
{ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ }
هذه هي القاعدة :
ما قدمه الله عز وجل في الذكر هو المفضل الا إذا جاء دليل آخر يخرج هذه القاعدة عن أصلها
إذًا :
قدمه الله
وقالوا : لأن السمع يدرك به جميع الجهات الست
تسمع الصوت من جهة اليمين
ومن جهة اليسار
من الأمام
من الخلف
من فوق
من تحت
في ظلام أو في ضياء
بينما البصر :
لا يدرك به من الجهات إلا ما كان مقابلك وكذلك لا يكون الا في النور
وبعض العلماء قال :
إن البصر أفضل
لم ؟
لأن البصر ترى به أشياء كثيرة ليس مقصورا على ما يسمع وإنما على الهيئات والأشياء المحسوسة الواقعة
والذي يظهر والعلم عند الله : أن السمع أفضل
لم
لأنه من حيث الواقع :
نجد أن هناك أناسا قد أخذ الله عز وجل أبصارهم وصاروا أئمة في الدين
وهم كثر والتاريخ يشهد بهذا
لكن لو كان أصما من حيث الأصل :
لا يمكن أن يتلقى
هذا هو الأساس
ولذلك قدمه عز وجل في الذكر :
{ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ }
تصور :
لو أن إنسانا ولد وهو أصم :
أيمكن أن يتلقى شيئا
ولذلك لا يمكن أن يتكلم
وهذا أصم أصلي
يختلف عن الأصم الطارئ
ومن فوائد هذه الآية :
أن فيه ردا على المعتزلة القدرية
ذكرتها لكم
الذين يقولون : إن العبد يخلق فعل نفسه
يعني : يقولون : أنتم أتيتم إلى هذه الصلاة لم يكن ذلك بإرادة الله وإنما من تلقاء أنفسكم
أنتم الذين خلقتم بأنفسكم أن تأتوا وأن تتعبدوا الله
وهذا ضلال مبين
فهذه الآية يرد بها عليه
لم ؟
لأن من ختم الله على قلبه فلا يمكن أن يصل إليه النور والهدى
ولذلك الآية التي مرت معنا في صفات المؤمنين : { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ }
ومن فوائد هذه الآية :
أنه قال : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ }
قلوبهم جمع
{ وَعَلَى سَمْعِهِمْ }
جمع وإلا مفرد ؟
مفرد
{ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ }
جمع
لماذا لم يجمع السمع ؟
السمع في اللغة العربية :
هذا مصدر :
سمع ـــــ يسمع ــــــ سمعا
هذا مصدر
المصدر خذوها قاعدة :
لا يثنى و لا يجمع
هذا من حيث الأصل
من حيث الأصل : المصدر لا يثنى و لا يجمع
ولذلك أفرد
لم ؟
لأنه مصدر
ومن فوائد هذه الآية :
أن هذا القلب سمي بهذا الاسم
كما يقال : قلبت الشواء على النار
ما معنى : قلبت الشواء على النار
يعني :رددته على النار مرة مرة
وهذا القلب :
يتقلب يتردد لتردد الخواطر عليه
ولذلك على المسلم :
أن يتعاهد قلبه
مما دعا النبي عليه الصلاة والسلام – كما عند الترمذي لما سئلت أم سلمة رضي الله عنها :
ما كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في بيتك ؟
قالت :
كان يقول : (( اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ))
ولذلك :
قال عليه الصلاة والسلام – مشبها القلب – قال كما عند ابن ماجه :
قال : (( مثل القلب كمثل ريشة في فلاة تقلبها الريح ظهرا لبطن ))
ريشة في الصحراء وتأتي الرياح :
مرة هكذا
ومرة هكذا
ومن ثم :
فإننا بحاجة إلى أن نلجأ إلى الله أن يثبت قلوبنا على طاعته ولاسيما في زمن الفتن التي تكثر في ذلك الزمن أو في هذا الزمن على العبد أن يحرص على أن يتعاهد قلبه وأن يلجأ إلى الله أن يحفظ قلبه
ومن فوائد هذه الآية :
أنه جل وعلا عاقبهم بعقابين :
حاضر وآجل
ما هو الحاضر ؟
{ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
العاجل : أنهم حرموا من الانتفاع بهذه الجوارح هذا عقاب آجل
عقاب آجل : { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
ولذا :
نكره عز وجل مما يدل على أنه عظيم ولا تسأل عن عظمة عذاب الله عز وجل
ما الدليل ؟
آيات كثر :
منها في سورة الفجر:
{ فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) }
يعني : ليس هناك عذاب أشد من تعذيب الله عز وجل إذا عذب العبد
ومن فوائد هذه الآية :
أن كلمة العذاب معناها في اللغة :
المنع
ولذلك يسمى الماء الطيب السائغ يسمى بالعذب
يقال : هذا ماء عذب
لم ؟
لأنه يمنع صاحبه من العطش
كيف يكون العذاب على هؤلاء ؟
ماذا يمنعهم ؟
يمنعهم : من أن ينالهم ما يلائمهم
إذا كان الإنسان في عذاب نسأل الله السلامة والعافية فإنه يمنع بهذا العذاب من الخير الذي لو أتاه
وهذا إن دل يدل على ماذا ؟
يدل على حاجتنا إلى اللغة العربية
بكل صراحة الناس في هذا الزمن أعرضوا عنها و لا يرغبون فيها ويقولون : هي صعبة
لا ليست بصعبة
لكن المشكل ماذا ؟
المشكل :
أن الأجيال أشغلوا بأشياء أخرجتهم عن هذه اللغة التي لا توازيها أي لغة أخرى
يعني : بإمكان حركة واحدة تغير معنى الكلمة
حركة واحدة : إما فتح، إما كسر يتغير معنى الكلمة برمتها
وهذا يدل على شمولية اللغة العربية
وأنه من فهم كلام اللغة العربية فهم كلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام
لأنك حينما تسمع بعض القصائد ولا أشن هجوما على الشعر النبطي
لكن حينما تسمع الشعر النبطي فيه من المعاني شيء لا يُضاهى لكن للأسف كأنه يسولف
يعني : ما تشعر بالقوة مع ان الناس تعلقوا بهذه الأشياء وتعلقوا بهذه الأشعار
الشاهد من هذا :
أن هذه اللغة لغتنا ويجب أن نحرص عليها
ولذلك لتعلم :
أنه ما تغيرت لهجتنا إلا لما دخل المستشرقون إلى المسلمين ثم إذا بهم يجمعون بعض الكلمات بعضها مع بعض حتى تذهب اللغة العربية ولا يبقى لها قرار
لم ؟
لماذا استهدفوا اللغة العربية ؟
لأنها لغة القرآن
لأنها لغة النبي عليه الصلاة والسلام
وبالتالي علينا ألا نستصعب هذا الأمر
لا يقل أحد : والله إن اللغة العربية صعبة القواعد الإعراب صعب
ليس هناك ما هو صعب
ولكن على المسلم أن يتقي الله في هذا الأمر
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم في دينه وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح