﴿بسم الله الرحمن الرحيـــــــم﴾
التفسير الشامل ـ تفسير سورة الجاثية
الدرس (232)
لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تفسير (سورة الجاثية) وهي من السور (المكية)
﴿حم﴾ (1) وهذه من الحروف المقطعة ومرَّ معنا بيانها في أول سورة البقرة.
﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ (2).
يعني هذا القرآن منزَّل من الله عز وجل ﴿الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ ومرت هذه الآية في أول سورة الزمر.
﴿إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (3).
في السماوات وفي الأرض آيات وعلامات لمن أراد الإيمان.
﴿وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ (4).
كل ذلك دلائل على ماذا؟ على أن الذي يجب أن يُفرَد بالتوحيد وأن يُعبَد هو الله عز وجل وحده. ﴿وَفِي خَلْقِكُمْ﴾ يعني تأملوا في خلقكم ﴿وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ﴾ يعني ما يبثُ وينشرُ من دابَّة ﴿آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ يعني عندهم تفكر فيوصلهم هذا إلى اليقين من أنَّ الذي أوجد هذه الأشياء هو الله الذي يستحق العبودية.
﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ (5).
﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ اختلاف الليل والنهار من حيث الطول والقِصَر وما شابه ذلك آية
﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ﴾ يعني من مطر، ومرَّ معنا سبب تسمية المطر بالرزق في سورة غافر ﴿وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا﴾] غافر: 13[
فقال الله عز وجل هنا ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ بعد أن كانت قاحلة جدباء ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾ تصريف الرياح حيثُ الجهات مرَّة تكون باردة، ومرَّةً تكون حارة، ومرَّةً تأتي بالعذاب، ومرَّةً تأتي مُبشرة بالمطر ﴿آيَاتٌ﴾ لمن؟ ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ ممن يُعمِلون عقولَهم حتى يعلموا أن الذي صرَّف هذه الأشياء هو اللهُ عز وجل وحده الذي يستحق العبودية.
﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ (6).
﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾ ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ﴾ لمَّا ذكر الله عز وجل الآيات الكونية الدالة على عظمة الله بيَّن هُنا الآيات الشرعية وهي آياتُ القرآن الدالة على عظمة الله عز وجل، ولذلك من بابِ التعظيم لها قال ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾ هذه الآيةُ يفسرها قوله تعالى:
﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ – ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾] القيامة: 18-19 [
﴿نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾ فهذا القرآن إنما نزل بالحق وتلاوتُه بالحق.
﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ (القرآن) سُمي هُنا بأنه حديث لأن الله عز وجل قال:
﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ﴾] الطور: 34 [
﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ ما أعظم هذا القرآن، إن لم يؤمنوا بهذا القرآن فبأي شيءٍ يؤمنون؟!
ولذلك ماذا قال الله عز وجل في آواخر سورة المرسلات؟
قال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ – وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ – فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ [المرسلات: 48-49-50 [
﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ وهذا يدل على أن تلك الآيات إنما جاءت مِن الله، فكيف يُعرضون عن الله وعن توحيد الله! وكيف يُعرضون عن آيات الله عز وجل!
﴿وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ (7)
﴿وَيْلٌ﴾ كلمة وعيد وتهديد ﴿لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ ﴿أَفَّاكٍ﴾ يعني عظيم وكثير الكذب، وهو أثيم يعني أنه بالغَ في الإثمِ مَبلَغَه، وهذا يدل على كُفْرِه.
﴿يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (8)
﴿يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ﴾ تلك الآيات نتلوها عليك بالحق يسمعها هذا وأشباهُه، فقال الله عز وجل ﴿يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ﴾ يدل على استمراره وعلى إصراره، وهذا يدل على خطورة الإصرار ﴿ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا﴾ يعني متكبرا ﴿كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا﴾ كأن حاله لم يسمعها فقط، وهذا يدل على شدة إعراضه ﴿كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا﴾ ولذلك في سورة لقمان: ﴿كَأَنْ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا﴾] لقمان: 7 [ يعني: صَمَماً وثِقْلاً.
فقال الله عز وجل: ﴿كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ وهذا من باب التهكم لأن البشرى إذا أُطلقت تكونُ للخير، وإذا قُيدت بالخير تكون للخير، وإذا قُيدت بالشر فكما هُنا ﴿فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ من باب التبكيت والتحقير له، من أن الذي بُشِرَ به ما بُشرَ بخير وإنما بُشِرَ بعذاب أليم مؤلم.
﴿وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ (9)
﴿وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا﴾ مع ذلك كله، مع صدوده ﴿اتَّخَذَهَا هُزُوًا﴾ يعني جعلها محلاً للسخرية ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ يُهِينُهُم ويُحَقِّرُهُم لأنه لمَّا أراد أن يتكبر أهانه اللهُ عز وجل، ويريد أن يتكبر على الحق، بل ويسخر بآيات الله عز وجل ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾.
﴿مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (10)
﴿مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ﴾ يعني من أمامهم جهنم؛ أو من خلفهم على القول الآخر، ولكن الأظهر والأكثر على أن المراد: من أمامهم.
﴿مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ﴾ ويكفي هذا في شدة العذاب.
﴿وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا﴾ لا يُفيدهم ما كسبوه في هذه الدنيا من أموال وأولاد ومناصب ومقامات وأملاك، كما قال تعالى: ﴿مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾] المسد: 2 [
﴿وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ﴾ حتى مَن اتخذوهم أولياء يطلبون منهم النفع؛ ويطلبون منهم دفع الضر فإنهم يتبرؤون منهم يوم القيامة
﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ شديدٌ غليظ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ﴾ (11)
﴿هَذَا هُدًى﴾ يعني هذا القرآن هدى، من يهتدي به هو الموفق ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ يعني من لم يؤمن به ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ من الآيات الشرعية، وأيضاً من الآيات الكونية المتقدمة في أول السورة ﴿لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ﴾ ذلكم العذاب من رجز و(الرجز) هو أسوأ العذاب كما مرَّ معنا تفسيره في آيةٍ أخرى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (12)
﴿اللَّهُ﴾ وهذا يدل على ماذا؟ يدل على عظمة الله وقدَّم اسمه ﴿اللَّهُ﴾ لكي يُعلِمَ هؤلاء أنه هو الله المعبود الذي لا يستحق العبودية إلا هو.
﴿اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ﴾ كما في آيات أخرى ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ﴾] ابراهيم: 32 [أيضاً سخر البحر وذلّلَهُ.
﴿سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ﴾ يعني السُفن فيه بأمره ﴿وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ يعني في التجارة وما شابه ذلك. ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ على تلك النعم وعلى ذلك التسخير، ومرَّ مِثلُ هذه الآية في أكثر من موطن وبيان ما يتعلق بها.
﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (13)
﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾ ﴿وَسَخَّرَ﴾ يعني ذلل لكم ما في السماوات وما في الأرض ﴿جَمِيعًا مِنْهُ﴾ يعني كلُّ ذلك مُذَلّل لكم، يعني أن ما في السماوات وما في الأرض مُسَخر لكم ﴿جَمِيعًا مِنْهُ﴾ كل ذلك منه عز وجل، وهذا يدل على ماذا؟
على أن ذلك كائنٌ من عنده بِخَلْقِه عز وجل، لا أن السماوات والأرض منه عز وجل، ولذلك رددنا بهذه الآيات على قول مَن يقول: من أن عيسى هو ابنُ الله، في قوله تعالى في آواخر سورة النساء ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾] النساء: 171[
﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾ ولذلك تجد أن الأرض سخر اللهُ عز وجل لنا أن نُخرج كنوزها، وأنبتنا لنا الأرض، والسماء تنزلُ منها الأمطار وما شابه ذلك.
فقال الله عز وجل: ﴿جَمِيعًا مِنْهُ﴾ منه لا من غيره
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ مَن يتفكر في هذا؟
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾] آل عمران: 190[
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (14)
﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ﴾ يعني للذين لا يخافون ﴿أَيَّامَ اللَّهِ﴾ يعني عقاب الله، وذلك لأنه في أول الإسلام كان بعضُ الصحابة يُؤذى من كفار قريش؛ فأومروا في أول الإسلام من أنهم يصبرون ويحتسبون، قال تعالى: ﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾] البقرة: 109[ ومرَّ معنا ذلك مفصلاً في سورة البقرة، وفي سورة الأنفال، وسورة التوبة فيما يتعلق بمراتب الجهاد.
﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ فكل قوم سيُجازى بما كسب، ومن ذلك أنكم إذا غفرتم في مثل هذا الأمر فإنكم تُجزَون على أعمالكم الحسنة.
﴿لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ ولذلك هُنا بيَّنَ بعدها حال كل صِنف.
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ (15)
فيحاسبكم وحساب من غير ظلم، ولذلك قال تعالى كما بيَّنَ هذه الآية قال:
{مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾] فصلت: 46[
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (16)
بني إسرائيل وهم (اليهود)
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ﴾ يعني تسلَّ يا محمد بما جرى للأنبياء السابقين.
{الْكِتَابَ﴾ ويشمل ذلك الكتب (التوراة والإنجيل والزبور)
﴿وَالْحُكْمَ﴾ وهو الحكم بين الناس والإصابة في القول، وفي العمل.
﴿وَالنُّبُوَّةَ﴾ فالنبوة كثيرة فيهم ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا﴾ ]المائدة: 20 [
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾ هذا فيما يتعلق بالنعم الدينية ﴿وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ هذا فيما يتعلق بالأمور الدنيوية ﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ ومرَّ تفصيلُ ذلك، يعني: “على عالَمي زمانِهم”.
﴿وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ (17)
﴿وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ﴾ وآتيناهم بينات ودلائل ﴿مِنَ الْأَمْرِ﴾ ومن ذلك تلك الكتب التي أنزلها اللهُ عز وجل على أنبيائه ﴿فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ ﴿ما اختلفوا﴾ يعني في أمرِك يا محمد ﴿إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ﴾ لم يختلفوا عن جهل بل اختلفوا عن علم؛ سببُ هذا الاختلاف هو البغي، والتطاول، والحسد ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾
أي فيما كانوا يختلفون فيه، وهذا أيضاً يدخل فيه ويشمل اختلافهم على أنبيائهم، ولذلك النبي ﷺ كما ثبت عنه قال:
” فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ، وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ “
فماذا قالت اليهود في عيسى عليه السلام؟ قالوا إنه ابن زانية! إلى غير ذلك من أقوالهم الفاسدة
﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (18)
أنت يا محمد ﴿جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ﴾ والشريعة هي (ما يكون فيها من تصبب المياه) من حيثُ اللغة العربية، وذلك لأن المياه هي سبب الحياة، حياة الأبدان، أيضاً هذه الشريعة حياة للقلوب.
﴿عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ﴾ من أمر الله عز وجل ﴿فَاتَّبِعْهَا﴾
﴿وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ممن يريدون أن يصرفوك عن هذه الشريعة.
﴿إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾ (19)
﴿إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ وهو ﷺ ما كان متبعاً ولن يتبع أهواءهم، لكن في هذا التحذير لمن يأتي مِن أمته.
﴿إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ فإنهم لا يستطيعون أن يدفعوا عنك شيئاً إذا أراده الله عز وجل، ولذلك في سورة البقرة:
﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ ] البقرة: 145 [
فقال الله عز وجل: ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ يعني لا يتولى الظالم إلا مَن هو ظالمٌ مثلُه ﴿وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ ولذلك ماذا قال عز وجل لمَّا ذكر خصام أهل النار بين الجن وبين الإنس؟ قال الله عز وجل:
﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ ] الأنعام: 129 [
فقال الله عز وجل: ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾ يعني مَن أتقى فالله وليه، ولاية خاصة تأييد، ونصرة، ورزق، وخير ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾ فلا تتولَّ الظالمين، ولذلك ماذا قال عز وجل؟
﴿وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾
﴿هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ (20)
﴿هَذَا بَصَائِرُ﴾ يعني هذا القرآن ﴿بَصَائِرُ لِلنَّاسِ﴾ لم يقل بصيرة ﴿بَصَائِرُ﴾ يعني منْ أنَّ مَن تمعن فيه فإنه سيُبصر الحق، ولذلك ماذا قال عز وجل عن التوراة؟ قال:
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ﴾] القصص: 43 [
قال عن القرآن هُنا ﴿هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ﴾ لمن أراد أن يُبصر الحق ﴿وَهُدًى﴾ لمن أراد الهداية من الضلالة ﴿وَرَحْمَةٌ﴾ لمن أراد رحمة الله عز وجل له في الدنيا وفي الاخرة.
﴿لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ لمن هم يوقنون، مَن هم؟ في أول السورة قال الله عز وجل:
﴿إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ ما الذي بعده؟ ﴿وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ فقال الله عز وجل هُنا: ﴿هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ (21)
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا﴾ ﴿اجْتَرَحُوا﴾ يعني عملوا السيئات ﴿اجْتَرَحُوا﴾ يعني فعلوها بجوارحهم.
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ ساء هذا الحكم، يعني أيظنون أن نجعل هؤلاء الذين اجترحوا السيئات كالمؤمنين! أن نجعل حياتهم سواء في الدنيا؟! كلاَّ، فحياة هؤلاء حياة طيبة:
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ ] النحل: 97 [
﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾ ] طه: 123 [
أما حياة أولئك ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾] طه: 124 [
كما أن حياة هؤلاء لا تستوي مع حياة أهل الأيمان، أيضاً ممات هؤلاء لا يستوي مع ممات هؤلاء، هؤلاء إذا ماتوا وهم أهل الإيمان: ﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا﴾] الأنعام: 93 [
أما أولئك ﴿أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾ ] الأنعام: 93 [
وأيضاً في يوم القيامة بعد أن يُحيهم الله عز وجل ما مصير أهل الإيمان؟ الجنة.
أما مصير هؤلاء؟ في النار، فدل هذا على الإنكار على هؤلاء.
﴿أَمْ حَسِبَ﴾ يظن ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾
لكمال عدله ولحكمته لا يجعل هؤلاء سواء.
﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ الآية
] ص: 28 [ ﴿سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾
﴿وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ (22)
﴿وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ يعني ما خلقهما باطلاً، وإنما خلقهما بالحق ولأجل الحق من أجل أن يُقام هذا الدين، وأن يُعبد الله عز وجل وحده كما مرَّ معنا توضيحها في أكثر من آية.
﴿وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾
﴿وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ﴾ يعني بعد أن تنتهي هذه الدنيا تُبدل السماوات والأرض، وبعدها يأتي الجزاء ﴿بِمَا كَسَبَتْ﴾ من خير أو شر ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ لكمال عدله عز وجل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ (23)
﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ يعني إنه اتخذ إلهه هواه كما مرَّ معنا في سورة الفرقان
﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا﴾ الآية] الفرقان: 43 [
حتى إن بعضهم إذا عبَدَ صنماً مثلاً لونُه أبيض فإنه إن رأى من هو أحسن منه تركه وعبَدَ غيرَه! وهذا يشمل كل مَن اتّبع هواه؛ وجعل هواه إلهاً له وليس خاصاً فقط بما يتعلق بالأصنام، ولذلك مَن جعل الدنيا كلَّها هواه بحيث عطَّل دينَ الله وجعل الدنيا همَّه وجعلها مبتغاه فإنه تصدُقُ عليه هذه الآية ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ يعني على علم من الله بإنه يستحق الضلال؛ لأنه انصرف عن دين الله ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ الآية] الصف: 5 [
ويُحتمل أيضاً على القول الآخَر -ولا تعارض بينهما- ﴿عَلَى عِلْمٍ﴾ يعني أضله الله على علم يعني على علم لمَّا أتى الهدى والخير لهذا الإنسان فإنه أتاه العلم فقامت الحجة عليه
﴿وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾
﴿وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ﴾ والختم هُنا يدل على الإستيثاق بحيث لا يخرج شيء ولا يدخل شيء، فلا يخرج الكفر ولا يدخل الإيمان ﴿وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً﴾ يعني غِطاء وهذا كما قال تعالى:
﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ ثم قال: ﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾
الآية] البقرة: 7[ فالغشاوة للأبصار والختم على السمع والقلوب.
﴿فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ﴾ ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ﴾
الآية] الشورى: 44 [ يعني بعد هذه من سيهديه، ﴿فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ﴾
﴿أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ أين تذكركم؟! يعني اقبلوا على الدين حتى لا يَختم اللهُ عز وجل على حواسكم.
وقالوا مع هذا كله مع تلك الدلائل
﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ (24)
﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾ بمعنى أننا نموت ويحيى أبناؤنا، وبعضنا يموت وبعضنا يحيى ﴿وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾ وما يهلكنا إلا مرور الزمن، وهذا كذِبٌ منهم؛ لأن الدهر لا يُهلك أحداً! فهو خَلقٌ مِن خَلْقِ الله، ولذلك في الحديث الصحيح قال الله عز وجل:
” يؤْذِينِي ابنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ، وأنا الدَّهْرُ، بيَدِي الأمْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ والنَّهارَ “
فالدهرُ مخلوق، ثم أيضاً هم محجوجون من حيث الشرع؛ لأنهم لمَّ قالوا ﴿وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾ ماذا قال تعالى عنهم؟ ﴿وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ﴾ مِن حُجة ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ ما هو إلا ظن.
حتى من حيث الحس: هم محجوجون، فكم من إنسان كنوح عليه السلام مثلاً مرَّت عليه سنوات طويلة ومع ذلك ما أهلكه الدهر، وبعضُ الأطفال يخرجُ من بطن أمه بعد أيام ويموت، إذًا: لم يهلكه الدهر، دلَّ على أن الذي أهلكه هو الله عز وجل.
﴿إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ وهذا فيه الرد على أهل الطبيعة؛ الذين يقولون إن الطبيعة تخلق نفسها وليس هناك خالق! -تعالى الله عن قولهم علواً كبيرا- ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾.
﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (25)
﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ﴾ تتلى عليهم آياتُ الله من هذا القرآن واضحات ﴿مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ﴾ سمَّها حجة مع إنها ليست بحجة ﴿مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ﴾ يعني من باب التنزل مع هؤلاء؛ لأنهم سموا ذلك حجة، وأيضاً فيه ماذا؟ فيه التحقير لهؤلاء -كيف تجعلون هذا القول حجة- أين عقولُكم ﴿مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾ (حجتهم) خبر كان مقدم منصوب (إلا أن قالوا) اسمها
﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ يقول إن كنتم صادقين فيما تقولون لتأتوا بأبائنا.
﴿قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (26)
﴿قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ يحييكم من العدم ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ في هذه الدنيا ﴿ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ ويتضمن الجمع حياة أخرى ﴿ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ لا شك في هذا اليوم ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ لمَ؟ لِبُعدِهِم عن هذا القرآن الذي به العلم النافع والهدى.
﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ﴾ (27)
﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ من حيث التدبير والتصريف فتأملوا في ذلك.
﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ﴾ يعني الكافرون؛ لأنهم بنوا أحوالَهم على الباطل، وخُسرانهم في كل وقت، لكنه يتضح في يوم القيامة كما قال تعالى: ﴿وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ﴾ الآية] غافر: 78 [ ﴿وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾ الآية] غافر: 85 [
﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ﴾
﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (28)
﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً﴾ من عِظَم هذا اليوم، كل أمة منفردة وحدها ﴿جَاثِيَةً﴾ جثت على ركبها مما يدل على عِظم هذا اليوم.
﴿كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا﴾ يعني إلى كتابِ أعمالها ﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ما ظلمكم الله.
﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (29)
﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ﴾ قال تعالى: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾] الإسراء: 14 [ ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ﴾ لا ظلمَ فيه ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ﴾ النسخ هنا ليس بمعنى الإزالة كما في قوله تعالى ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾ ] البقرة: 106 [ لا، النسخ هُنا بمعنى الإثبات ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ﴾ يعني نُثبت وذلك بأنه يؤخذ من اللوح المحفوظ ،لأن ما قُدِر في هذه الدنيا كُتِبَ في اللوح المحفوظ، قال ﷺ كما ثبت عنه: ” إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، فَقَالَ لَهُ : اكْتُبْ. قَالَ : رَبِّ، وَمَاذَا أَكْتُبُ ؟ قَالَ : اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، فَجَرَى الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كائن إلى يوم القيامة “.
﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فالناس حينها يكونون على صنفين:
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ﴾ (30)
﴿فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ﴾ فينالون الخير من الله ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ﴾ الفوز الواضح الذي لا مِريةَ ولا شك فيه، فوضوحه واضح تماما.
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾ (31)
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾ قال الله عز وجل موبخاً لهم حالَهم لمَّ كانوا في الدنيا يستكبرون فقال الله عز وجل:
﴿وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾ (32)
﴿وَإِذَا قِيلَ﴾ وإذا قيل لهؤلاء في الدنيا ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ من إنه سيبعثكم يوم القيامة.
﴿وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا﴾ يعني لا شك فيها ﴿قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ﴾ يعني ما نعلم ما الساعة!
﴿إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾ يعني لسنا بموقنين بما تقولون،
وهذا والعلم عند الله كما بينا في قوله تعالى: ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ﴾] الدخان: 9 [ في سورة الدخان بينا تفصيلاً واضح هل كان منهم مَن يشك؟ أم أن الكل يجحد؟
﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ (33)
﴿وَبَدَا لَهُمْ﴾ يعني ظهر لهم ﴿سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا﴾ أي عاقبة ما عملوه من الأعمال السيئة، كما قال تعالى: ﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا﴾ ] الزمر: 42 [ وهُنا قال: ﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ أي أحاط بهم ما كانوا به يستهزؤون في الدنيا مِن آيات الله كما قال عز وجل في أول السورة: ﴿وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا﴾.
﴿وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ (34)
﴿وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ﴾ أي نترككم في العذاب كما تركتم دين الله ﴿كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ وقد مرَّ معنا ما يتعلق بهذا النسيان في سورة الأعراف مفصلا.
﴿وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ﴾ مثواكم النار ﴿وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ لا أحدَ ينصركم.
﴿ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ (35)
﴿ذَلِكُمْ﴾ يعني العذاب سببُه ﴿ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾ وفي أول السورة:
﴿وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا﴾.
﴿وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ غرتكم بمُتَعِها وزخارفها
﴿فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا﴾ يعني من النار ﴿وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ يعني أنهم لا يُطلب منهم أن يرضوا الله عز وجل للرجوع إلى لدنيا أو للاعتذار.
﴿فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (36)
﴿فَلِلَّهِ الْحَمْدُ﴾ فهو المحمود عز وجل على جميع أفعاله ﴿فَلِلَّهِ الْحَمْدُ﴾ ولذا قال: ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ إذاً مَن ربُّ السماوات ومَن ربُّ الأرض ومَن ربُّ العالمين؟
هو الذي يستحقُّ الحمد، وأعظم ما يُحمد الله عليه هو التوحيد.
﴿فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
﴿وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (37)
﴿وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ولذلك قال ﷺ كما في الحديث الصحيح:
” الكِبرياءُ رِدائي، والعظَمةُ إزاري، فمَن نازعَني واحدًا منهما عذَّبتُه “
﴿وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ} له الكبرياء فلا يجوزُ لأحد أن يتكبر؛ فالكبرياء كله لله عز وجل.
﴿وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وأيضاً يعظمه ويمجده أهلُ السماوات وأهل الأرض
﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ العزيز القوي الغالب الذي لا يُنالُ بسوء، وهو الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها، وهو الذي يستحق أن يُحمد عز وجل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبهذا ينتهي تفسير سورة الجاثية.