تفسير سورة الرعد من الآية (1) إلى (15 ) الدرس ( 142)

تفسير سورة الرعد من الآية (1) إلى (15 ) الدرس ( 142)

مشاهدات: 473

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الرعد من الآية الأولى إلى 15

لفضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري حفظه الله

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء و إمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين أما بعد

فنشرع بتوفيق منه وإعانة في تفسير سورةِ الرعد، وسورةُ الرعد اختلف المفسرون هل هي سورةٌ مكية أو سورةٌ مدنية؟ و ذكر كلٌّ منهم آثارا، والذي يظهرُ من خلالِ النظر في هذه السورة نجد أنها من السورِ المكية.

 والسور المكية تُعنى بالحديث عن أصول الدين، وأما بالنسبةِ إلى السور المدنية فتتحدثُ عن الأحكام، وأيضًا تتحدث عن أصول الدين لكنَّ الأحكام فيها أظهر.

{المر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ۗ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} (1)

{المر} هذه من الحروف الُمقطعة ومرَّ معنا تفسيرها في سورة البقرة

{ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ}

{ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ}:أي القرآن الكريم.

{وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} هذا عطف صفة على صفة، أي: هذا القرآن أُنزِلَ إليك من ربك خلافًا لمن قال {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} يعني الكتب السابقة ثم عَطَفَ القرآن على ذلك، لكن ليس هناك ذكرٌ للكتب السابقة و إنما الأظهر من أنها من بابِ عطف الصفات.

 {وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ}، {مِنْ رَبِّكَ}: دلَّ هذا على أن نزول الشيء يختلف باختلاف نزوله مقيدا أو مطلقًا، مرَّ معنا في تفسير سورة الأعراف: {يا بَني آدَمَ قَد أَنزَلنا عَلَيكُم لِباسًا يُواري سَوآتِكُم وَريشًا}  بيان التنزيل من الله عز و جل في هذه الأشياء فدل هنا على ماذا ؟ على أنَّ القرآن مُنَزَّلٌ من عند الله عز وجل و ليس مخلوقًا بل هو كلامه عز و جل.

 {وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} فدل هذا على ماذا؟ على أنَّ هذا القرآن حق لأنه نزل من الحق عز وجل ومن ثَم يطمئن كل مسلم إلى أنَّ هذا القرآنَ به الحق وبه الخير.

ولذا ماذا قال بعدها؟

{وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} لا يؤمنون بهذا القرآن مع ما فيه من الخير العظيم الذي به يتحصلون على ما ينفعهم في دينهم ودنياهم .

{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} (2)

{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} هذه دلائل تدل على عِظَمِ الله عز وجل و الذي يستحق العبودية وحَده {اللَّهُ الَّذِي} و لذا ذكر اسمه  في أول الأمر من باب التعظيم.

 {اللَّهُ}أي: المألوه المعبود مع المحبة والتعظيم، فإنكم تُقرون بتوحيد الربوبية فأقِروا بتوحيد الألوهية .

 {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} أي رُفعت السموات و ليس هناك عَمَد، خلافًا لمن قال لها عَمَد لكننا لا نراها، لكنَّ الصواب من أن السماوات رُفعت بغير عمد .

و لذا قال عزو جل :{وَيُمسِكُ السَّماءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرضِ إِلّا بِإِذنِهِ}  فدل على أنه ليس هناك أعمدة.

{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ}  وهذا الاستواء استواء يليق بجلاله وبعظمته.

 {ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ} ومر معنا تفصيلٌ لذلك في آيةِ الكرسي وفي آية الأعراف:  ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرضَ في سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ استَوى عَلَى العَرش}

 {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}  سخَّرها مُذللة مُنقادة كما قال عز و جل :

  {وَالشَّمسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمرِهِ} فهي مُذللة ومُنقادة بأمره عز وجل. {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} سَخَّرَهُما فهما يجريان بانتظامٍ دقيق.

 {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى}  وكلٌّ من الشمس و القمر يجري لأجلٍ مسمىً بانتظام كما قال تعالى:

﴿لَا الشَّمسُ يَنبَغي لَها أَن تُدرِكَ القَمَرَ وَلَا اللَّيلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ في فَلَكٍ يَسبَحونَ﴾

وأيضًا تنقضي آجالهما في وقت محدد وذلك إذا فنيَ هذا العالم وقامت الساعة فإنَّ الشمس والقمر يُكوَّران في النار كما ثبت في ذلك الحديث الصحيح عنه ﷺ

{كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} يدبر الأمر ولذا قال عز و جل:

﴿يُدَبِّرُ الأَمرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الأَرضِ ثُمَّ يَعرُجُ إِلَيهِ في يَومٍ كانَ مِقدارُهُ أَلفَ سَنَةٍ مِمّا تَعُدّونَ﴾ {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} فما يكون في هذا الكون فهو بتدبيرٍ منهُ عز وجل.

 {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ } يُبينُ الآيات الشرعية والآيات الكونية، ومنها ما مضى من شمسٍ و قمرٍ و سموات وقال هنا  {يُدَبِّرُ} و { يُفَصِّلُ } بصيغة الفعل المضارع ، لأنَّ هذا يدل على الاستمرار بينما خَلْقُ السماوات و الأرض انتهى.
 وتسخير الشمس والقمر جاء بصيغة الفعل المضارع كلٌ منهما يجري بانتظام دقيق.

{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ} فهو الذي يدبر الأمر ويفصل الآيات فلا عذر لأحد، ولذلك ماذا قال؟ {لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} وذلك فيه إثباتُ ماذا ؟ إثبات العلم التام المستلزم للعمل الذي به يخشى العبدُ أن يلقى اللهَ عز وجل على غير هدى.

{لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } خيفةً من أن يقولَ من يقول كما قال تعالى: {وَلَو تَرى إِذِ المُجرِمونَ ناكِسو رُءوسِهِم عِندَ رَبِّهِم رَبَّنا أَبصَرنا وَسَمِعنا فَارجِعنا نَعمَل صالِحًا إِنّا موقِنونَ}

لكن هذا اليقين لا ينفع لمَ؟ لأنَّ الأمورَ قد ظَهرت وانكشفت.  فقال عز وجل هنا: {لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} وهذا فضلٌ من الله عز و جل إذ جعل ما ذُكِر في هذه الآية دلائل لِخَلْقِه حتى يوقنوا وحتى يصلوا إلى العلم اليقين الذي ينفعهم .

{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا ۖ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ۖ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (3)

{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ}  لمَّا ذكر عز وجل ما يتعلق في أولِّ آية بالآيات الشرعية وهو الحديثُ عن القرآن الكريم ثَنَّى بِذكرِ الآيات الكونية العلوية، ثم ذكر هنا الآيات الأرضية {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ}  أي: بَسَطَها كما قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذي جَعَلَ لَكُمُ الأَرضَ ذَلولًا فَامشوا في مَناكِبِها ﴾.

 {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} و رواسي هي صفة لموصوفٍ محذوف مشهور وهو الجبال.

{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} كما قال تعالى: ﴿وَالجِبالَ أَوتادًا﴾

{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ

 وَأَنْهَارًا}: وجعل فيها أنهارًا لتنتفعوا من هذه الأنهار.

{وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}: أي جعل من الثمرات وأشجارها، وإنما ذَكَرَ الثمار لأن المِنَّة بها أعظم.

{وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}: يعني صنفين اثنين منهما، وكذلك جعل فيهما ما هو مقابلٌ للآخر الحلو مع الحامض، واليابس مع الرطب . {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}: أيضًا زوجين يدخل في ذلك الذكر والأنثى من هذه الأشجار وأكَّدَ ذلك بكلمة اثنين.

{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ}:يُغطي الليلَ النهار، يُغطي اللهُ عز وجل الليل بالنهار والعكس، كما قال تعالى:{يُغشِي اللَّيلَ النَّهارَ يَطلُبُهُ حَثيثًا}

{إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}: فيما مضى من ذِكرِ هذه الآيات في هذه الآية {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ويُمعنون الفكر حتى يعلموا أن من دَبَّرَ هذه الأشياء و من خَلَقَها هو اللهُ عز و جل.

{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)}

{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} ولم يقل و فيها مع أنَّ الأمرَ يعودُ إلى ما ذُكِرَ في الآيةِ الأولى من أنَّ الحديثَ عن الأرض من باب التأكيد {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ}: قطع يُجاورُ بعضها بعضًا من الأراضي، هذه أرضٌ بجنب أرض، أرض صالحة للزراعة و أرضٌ لا تصلُح للزراعة ، و اختلفت ألوانها و أشكالها و مع ذلك فسبحان مُدبر الأمور.

 فقال هنا: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ

 أَعْنَابٍ}  أي: وفي الأرض {جَنَّاتٌ} أي بساتين {مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ} :أيضًأ مع الأعناب زرع.

 {زَرعًا مُختَلِفًا أَلوانُهُ} زرع قد اختلفت ألوانه، وهذا يدل على اختلاف أنواع الحبوب.

{وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ}

و الصنوان: هو النخل الذي يَخرجُ من صُلبه نخل آخر، كما هو مشاهد {وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ} لمَ؟ لأن الصِّنوان هو المثيل، ولذا ثبت قولُه ﷺ: “إنَّ عَمَّ الرجل صِنو أبيه” أي: مثلُ أبيه سبحان الله!

{وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} أي: هنا ذكر ذلك من باب التأكيد من أنَّ النخيلَ منها ما هو صنوان و منها ما هو غيرُ صنوان.

 {يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ} أي: كلُّ ما مضى من أعناب ومن زروع ومن حبوب ومن نخيل

{يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ} :سواءً كان هذا الماء أُخرِج من بئر أو من نهر أو من مطر سبحان الله {يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ}   و مع ذلك {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} أي: في ما يُؤكل سبحان الله الأرضُ واحدة، ومعَ ذلك الثمارُ اختلفت و الحبوبُ اختلفت والنخيلُ اختلفت و الماءُ واحد و الأرضُ واحدة وتأمل سبحان الله،

و أضرب لكم مثلًا ما يسمى بالفلفل تجد أنه يُسقى بماءٍ واحد من أرضٍ واحدة هذا كبير و هذا صغير هذا حار وهذا أشد حرارة و هذا بارد سبحان الله، كل ذلك دلائل على عظمة الله ومرَّ معنا ذِكْرُ ما يتعلق بذلك أكثر في قوله تعالى :

{وَهُوَ الَّذي أَنزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخرَجنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيءٍ فَأَخرَجنا مِنهُ خَضِرًا نُخرِجُ مِنهُ حَبًّا مُتَراكِبًا}

قال هنا: {يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} سبحان الله ربما الشجرة الواحدة تأخذُ منها ثمرة و إذا بالثمرةِ التي تَقْرُبُ منها في نفس الشجرة وفي  نفس الغُصن إذا بها تختلفُ من حيثُ الطعم و من حيثُ اللون، وكل هذا يدل على أن هذا مُدبر هذه الأشياء هو الله عز و جل الذي يستحق العبودية.

{وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ}  ولذا قال: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ } أي في ما مضى {لَآيَاتٍ} دلائل وعِبَر .

{إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} من يُمْعِنُ العقل فَيَتَعَقَّل ويعلم أنَّ من فعل ذلك إنما هو الله الذي يستحق العبودية وحدَهُ عز وجل.

 {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)}

{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} مع ما مضى من تلك الدلائل {وَإِنْ تَعْجَبْ} يا محمد من تكذيبك مع علمهم بأنك أنت الصادقُ فيما يعرفونه عنك {فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} فعجبٌ قولُهم من إنكارِ البعث فعجبٌ قولهم : {أَءِذَا كُنَّا تُرَابًا أَءِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}،: أَءِذَا كُنَّا تُرَابًا: هم استبعدوا إذا كانوا ترابًا أن يُعيدهم الله عز وجل إلى خلقٍ  جديد.

 كما قال عز وجل في آيةٍ أخرى: ﴿وَقالَ الَّذينَ كَفَروا هَل نَدُلُّكُم عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُم إِذا مُزِّقتُم كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُم لَفي خَلقٍ جَديدٍ﴾

 وقال عز وجل: ﴿ثُمَّ سَوّاهُ وَنَفَخَ فيهِ مِن روحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمعَ وَالأَبصارَ وَالأَفئِدَةَ قَليلًا ما تَشكُرونَ﴾

﴿وَقالوا أَإِذا ضَلَلنا فِي الأَرضِ أَإِنّا لَفي خَلقٍ جَديدٍ}  وقال عز وجل عن هؤلاء: {فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ  أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} فمن كذَّبَ باليوم الآخر فهو كافر {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} بل كفروا بالله عز وجل مع وضوح تلك الدلائل

{أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَٰئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} حالُهم في الدنيا من عدمِ الإيمان كحالِ من غُلَّت يداه إلى عُنقه فلم يستطع أن يلتفتَ يمينًا ولا شمالًا فهو ممنوعٌ منه الهداية، لأنه طَمَسَ اللهُ عز وجل على بصيرته بسبب تكذيبه، ثم المَرَدُّ أيضًا في يوم القيامة إلى أنه يُغَلّ في نار جهنم .

{أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَٰئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِهُمْ فِيهَا خَالِدُون} الذين هم خالدون فيها (وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِهُمْ فِيهَا خَالِدُون) لا يخرجون منها.

{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ ۗ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ ۖ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)}

{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} هؤلاء الكفار،كفار قريش بعدما أخبرتَهم عن عذاب الله يوم القيامة يستعجلون به كما قال تعالى عن هؤلاء: ﴿وَقالوا رَبَّنا عَجِّل لَنا قِطَّنا قَبلَ يَومِ الحِسابِ﴾.

قال هنا {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ}أي: بالحالةِ السيئةِ من العذابِ و نحوه {قَبْلَ الْحَسَنَةِ} قبل السلامةِ والخير. { وَقَدْ خَلَتْ} أي: مضت . {مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ} أي: العقوبات التي أنزَلَها الله عز و جل في الأقوام السابقين فهي أمثلة تدل على أنَّ من كفر بالله عز وجل فإنَّ مصيرَه مصيرُهم.

 فقال عز وجل: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ} وهو صاحبً مغفرة وهنا تنصيصٌ على الصفة بالتصريح {عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ} فهو يغفرُ عز وجل مع ما يكونُ معهم من ظلم.

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} لمَّا ذَكَرَ الترغيب ذَكَر الترهيب للجمعِ بين الرجاء والخوف.

{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ۗ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ ۖ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)}

{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ من ربه } يقول هؤلاء الكفار للنبي ﷺ: هلَّا أُنزلت عليه آية كما أنزلت على الأنبياء السابقين كعصا موسى وناقة صالح وما شابه ذلك، وقد مر معنا ما يتعلقُ بذلك مُفصلا ومطولا  ومنوعاً في سورة الأنعام. {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَة ٌمِن رَبِّهِ} دل هذا على أنهم ما زالوا مستمرين لأنه قال {وَيَقُولُ} بصيغة الفعل المضارع التي تفيد الاستمرار.

{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} يعني: أنت يا محمد مُنذر أما الآيات فهي من أمورِ الغيب ولذا قال عز وجل : {وَيَقولونَ لَولا أُنزِلَ عَلَيهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ فَقُل إِنَّمَا الغَيبُ لِلَّهِ}  كما مر معنا توضيح ذلك في سورة يونُس.

وقال هنا: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِر} أي: تُنذر وتُخَوِّفُ الناسَ من عقاب الله.

 {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} ولكل قوم من الأمم السابقة هادٍ أي: رسول وداعٍ يدعوهم إلى دين الله عز وجل، وكلُّ ذلك بأمر الله عز وجل، ويدخل في ذلك قول من يقول الهادي هو الله، نعم فلا هدايةَ لأحد حتى لو عن طريقِ الرسل، لا هداية لأحد وهي هداية التوفيق والإلهام إلا بأمر الله عز وجل.

{وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} والرسل يبلغون ويهدون الناس هداية إرشاد، والهداية هداية التوفيق والإلهام من الله.

{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ۖ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ (8)}

{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَىٰ} ذكَر اسمه عز وجل مقدماً من باب التعظيم، ومن باب ماذا ؟ أنَّ من عَلِمَ بهذه الأشياء فهو الذي يستحق العبودية وحده.

{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَىٰ} أيُّ أنثى من بشر من حيوان  من حشرات، كلُّ ذلك يعلمُ عز وجل حَمْلَها.

 {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَىٰ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ}

 {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ}  أي: وما تنقص الأرحام ولذا كما قال تعالى: (وَغيضَ الماءُ) أي: نَقَصَ الماء {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ}

ولذا ثبت عنه قوله ﷺ: ” خمسٌ من أمورِ الغيب لا يَعلَمُهُن إلا الله” -ذَكَرَ منها- ويعلمُ ما تغيضُ الأرحام”  وقال هنا: {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَاد} ، ومر معنا أن الكلمة يمكن أن تُفسرَ بالكلمة التي تقارنها كما هنا: تغيض وتزداد فضد الزيادة النقصان،  وكما مر معنا في قوله تعالى: {أَن تَضِلَّ إِحداهُما فَتُذَكِّرَ إِحداهُمَا الأُخرى} ، وكما قال تعالى : ﴿وَقالَت طائِفَةٌ مِن أَهلِ الكِتابِ آمِنوا بِالَّذي أُنزِلَ عَلَى الَّذينَ آمَنوا وَجهَ النَّهارِ وَاكفُروا آخِرَهُ } إلى غير ذلك من الآيات.

 وقال عز وجل هنا: {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ} أي: ما تنقُصُه الأرحام بما يتعلق بالأجِنَّة: من زيادة من نُقصان، من حيثُ الجنين ، ومن حيثُ عُمُرُهُ ، ومن حيثُ ما يتعلق به، وكذلك ما يتعلق بالحيض وما يتعلقُ وبما يكون في الأرحام من حيض وما تزداد.

{وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ}: كلُّ شيء ليس فقط ما يتعلقُ بحملِ الإناث، وكلُّ شيءٍ مقدر {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} قَدَّرَه عز وجل ولذا كما قال عز وجل: {وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمرِهِ قَد جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيءٍ قَدرًا}

{وَكُلُّ شَيءٍ عِندَهُ بِمِقدارٍ}: ومن ذلك ما تُوَعَّدَ به هؤلاء الكفار من العذاب فإذن كلُّ شيء عنده بمقدار.

{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)}

{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ }: عالمُ الغيب أي :ما غاب عن الناس والشهادة أي: ما ظَهَرَ للناس.

{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ }: دل هذا على ماذا؟ على عِظَمِ الله عز وجل وله الصفاتُ العظيمة.

{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} الكبير: الذي هو أكبرُ من كلِّ شيء، وهو عز وجل الكبير المتعالي عن النقائص وهو الذي له العلو المُطلق { الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} والذي يستحق التعالي هو الكبير.

ومن ثَمَّ فإن فعل البشر من التعالي لا يجوز باعتباِر ماذا؟ أنهم أهلُ نقصٍ وفيهم نقص، ولذا قال ﷺ قال الله: “الكبرياءُ ردائي و العظمة إزاري فمن نازعني فيهما عذبته” كما ثبت عنه  ﷺ فيما يرويه عن ربه.

{سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)}

{سَوَاءٌ مِنْكُمْ} أي: مستوٍ منكم {َسوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ} أي: من أخفاه {مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} كما قال تعالى: {وَأَسِرُّوا قَولَكُم أَوِ اجهَروا بِهِ إِنَّهُ عَليمٌ بِذاتِ الصُّدورِ}

 وكما قال عز وجل في سورةِ طه:

{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}

فقال عز وجل هنا: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ} يعني: يستوي من أسرَّ منكم القول أو جَهَرَ به {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ}

{سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ} فالليلُ هو به الخفاء ومع ذلك يستخفي أكثر  {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} فالنهار هو الظهور، والسارب هو الظهور، يعني كلُّ ذلك سواء.

{وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} فاللهُ محيطٌ بكل شيء وعالمٌ بكل شيء، مَن أَسَرَّ قوله ومن أجهره، ومن هو قد اختفى بالليل مع شدةِ ظلام الليل أو ظهر ظهوراً واضحا مع ظهور النهار.

 وهذا هو التفسيرُ الذي هو أظهر من التفسير الآخر الذي يقول:

 من هو مستخف باليل بمعنى ظاهر بالليل، وسارب بالنهار يعني أنه داخلٌ في سربه مختفٍ بالنهار، لكنَّ القول الأول هو الأظهر.

{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (11)}

 فقال هنا: { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} أي: هذا الذي هو في سِربِه أو ظاهر يعني البشر، ابنَ آدم

 {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} يعني ملائكة يتعاقبون عليه بالحفظ كما قال ﷺ في الصحيح: “يتعاقبون فيكم ملائكة في الليل والنهار”.

{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} أي: من أمامه ومن خلفه {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (من) هنا سببية، بسبب أمر الله ، فإذا جاء أمرُ الله بموته أو ما شابه ذلك تخلَّوا عنه.

{يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم} فمن غيَّر ما بنفسه من الصلاح فاللهُ عز وجل يُعاقبه بالسوء، ومن غيَّر ما في نفسه من السوء إلى الصلاح فالله عز وجل يجزيه أحسنَ الجزاء.

 {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} وهذه تحمل ماذا؟ التهديدَ والترغيبَ ، فقال عز وجل هنا : {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا

 مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ} فلن يرده أحد فليتنبه أولئك الذين كما قال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ

 مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ} وقال هنا: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ} لن يرده من أحد.

{وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} أي: من والٍ يتولى أمورهم ويحفظهم لمَ؟ لأن الله عز وجل هو المدبر، ولذا في أول السورة قال: {يُدَبِّرُ الأَمرَ}

 فلا رادَّ لأمره {وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمرِهِ}.

{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12)}

{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} والبرقُ معروف يريكم الله عز وجل هذا البرق بين خوفٍ وطمع منكم، فمنكم من يطمع حينما يراه بنزول المطر، ومنكم من يخاف خِيفةً من أن تهطُلَ الأمطار الغزيرة، فإذا بها بأمر الله يحصلُ به ما يحصل من هلاكه أو من هلاك زروعه.

{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} فدل هذا على ضعفِكم، فواجبٌ عليكم أن تلتجئوا إلى الله وأن تعبدوا الله وأن تدعوا الله .

{ وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} السحاب الثقال التي ثَقُلت بالماء، كما مر معنا توضيحُ ذلك في سورة الأعراف:  ﴿وَهُوَ الَّذي يُرسِلُ الرِّياحَ بُشرًا بَينَ يَدَي رَحمَتِهِ حَتّى إِذا أَقَلَّت سَحابًا ثِقالًا سُقناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ}.

{وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} يُنشئها دل هذا على ماذا؟ على أنَّ هذا السحاب كما قال أهلُ النظريات من أنَّ ماءَ السحاب يحصل عن طريقِ تبخير الماء عن طريق الشمس ثم يصعد إلى غير ما ذكروه، فإنه منشأٌ كما قال بن القيم رحمه الله بأسبابٍ قدَّرها الله عز وجل كهذه الأسباب، لكن على من أخبر عليه أن يُبين تلك الأسباب قدرها الله وبأمرٍ من الله عز وجل.

{وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)}

{وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} والرعدُ كما ثبت بذلك الحديث الحسن “مَلَكٌ من الملائكة يزجر السحاب ويسوقه إلى حيثُ أمر الله” الرعد وهو: مَلَك مع ذلك الصوت المفزع الذي يكونُ منه فهو ُيسبح من خيفة الله خوفا من الله.

{وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} لأن الرعدَ يكونُ مع البرق في غالبِ الأحوال.

 {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} أيضًا ليس المَلَك الرعد فقط هو الذي يسبح، الملائكة كلها تسبح خيفةً من الله، فما بالُ البشر الذين لا يؤمنون ما بالُهم يُعرضون عن الله عز وجل مع تلك الدلائل العظيمةِ له عز وجل.

 وقال هنا: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} والصواعق هي النارُ المُحرقة التي يرسلها الله عز وجل على من يشاء، ولذا جاء في حديثٍ اختُلِفَ فيه من أنَّ رجلا لما بعث إليه النبيُّ ﷺ  يدعوه إلى الإسلام فقال: “من ربك؟ أهو من ذهب أم من فضة ؟ فعاند، فأرسل اللهُ عليه صاعقةً من السماء فذهبَتْ برأسه”

 فقال هنا: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ} مع تلك الدلائل يجادلون في الله وفي توحيدِ الله عز وجل مع تلك الدلائل، فنعوذ بالله من طَمْسِ البصائر.

{وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ} وفي توحيدِ الله مع تلك الدلائل الواضحة فنعوذُ بالله من طمس البصائر.

{وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} شديدُ المكر، شديدُ القوة، شديدُ الأخذ والعقوبة، أفلا يتعظ هؤلاء؟ كما قال عز وجل:  ﴿وَمَكَروا مَكرًا وَمَكَرنا مَكرًا وَهُم لا يَشعُرونَ} .

{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ۖ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ۚ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)}

 فقال عز وجل هنا: {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ}13 { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ}، دعوة التوحيد .الدعاءُ له ، الدعاء والعبادة لا تكون إلا له.

 {َلهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} التوحيدُ لا يجوزُ أن يُصرفَ لغير الله ولذا قال عز وجل: ﴿أَلا لِلَّهِ الدّينُ الخالِصُ وَالَّذينَ اتَّخَذوا مِن دونِهِ أَولِياءَ ما نَعبُدُهُم إِلّا لِيُقَرِّبونا إِلَى اللَّهِ زُلفى}   {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} فمن أراد الحق فليدعُ اللهَ عز وجل ولْيجعل هذا التوحيد خالصًا لله.

 {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} أبدًا {لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى

 الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ } حالُهم إذا طلبوا غيرَ الله حالُهم كحالِ من بَسَطَ كفيه إلى البئر حتى يأتيَ الماءُ من البئر إلى فمه، وحالُه كحالِ مَن جَعَلَ الماءَ في كفيه ويظن أن هذا الماء سيبقى وإذا به يزول ولا ينتفع به، وكذلك هم بما يتعلق بدعوةِ هؤلاء كحال من يتبع السراب يظن أنه ماء.

قال عز وجل: {إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ}،وإن كانت تلك التفاسيرُ داخله فتدخل في ذلك، إلاَّ أن القولَ الأول هو الأقوى ولا يمنع من دخولِ ما مضى.

{إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِه} قال: {وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} فدل هذا على أن من يدعو غيرَ الله، من يستغيثُ بغير الله فإنه لا يجد خيرًا، ولا يجد الضرَّ قد اندفع عنه بل يجدُ الخسارة.

ولذا قال عز وجل: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} إلا في زوال وذهاب لمَ؟ لأنهم إنما يدعون من لا يملكُ النفع ولا يدفعُ الضر.

{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ۩ (15)}

{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} بيَّنَ هنا أنَّ هؤلاء البشر إن لم يسجدوا لله ويدعوه ويطيعوه فإنَّهُ والحالةُ هذه فإنَّ الخلائقَ مما في السموات والأرض قد ذُلِلَت وانقادت له عز وجل فالسجود هنا هو الانقياد.

{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} فالمؤمن طواعية بقلبه وببدنه، وأما الكافر فبذاته وبظله وإن لم يكن ساجدًا بقلبه وبجوارحه.

فقال هنا: {طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ} أي: أن الظلال تسجد أيضًا لله عز وجل، تسجد في أي وقت.  {وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوّ} من الفجر إلى طلوعِ الشمس.

{وَالآصالِ} من بعد العصر إلى غروب الشمس {وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوّ وَالآصال}  كما قال تعالى: ﴿أَوَلَم يَرَوا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ اليَمينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُم داخِرونَ﴾.