بسم الله الرحمن الرحيم
التفسير الشامل ـ تفسير سورة الشورى
من الآية (1) إلى (24) الدرس (227)
الشيخ/ زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تفسير سورة الشورى
﴿حمٓ (1) عٓسٓقٓ (2) كَذَٰلِكَ يُوحِيٓ إِلَيۡكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكَ ٱللَّهُ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ (3) لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡعَظِيمُ (4) تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرۡنَ مِن فَوۡقِهِنَّۚ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَيَسۡتَغۡفِرُونَ لِمَن فِي ٱلۡأَرۡضِۗ أَلَآ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ (5) وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَ ٱللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيۡهِمۡ وَمَآ أَنتَ عَلَيۡهِم بِوَكِيلٖ(6)﴾
سورة الشورى من السور المكية.
﴿حم * عسق﴾ هذه من الحروف المقطعة، وقد مر بيانها في أول سورة البقرة.
تنبيه على أثر لا يصح:
ذَكَر بعض المفسرين عند قوله: ﴿عسق﴾ أثرًا عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، أن حذيفة رضي الله عنه كان عنده فأتاه رجلٌ فسأله عن هذه الآية، فإذا به يكره هذا السؤال، فلما انصرف ابنُ عباس رضي الله عنهما، قال حذيفةُ رضي الله عنه:
“ألا أُخبرك لمَ كره ابن عباس ذلك، إن رجلًا من قومه ومن أهله سيكون له الملك، وسيخسف الله عز وجل به، لأن ﴿عسق﴾ تدل على كذا وتدل على كذا “
أثرٌ طويل، لكني أردتُ التنبيه عليه، من أنه أثرٌ غريبٌ مُنكرٌ ضعيفٌ لا يصح، فلا يثبت مثل هذا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ﴾ أي: مثل هذا الإيحاء، يوحي إليك يا محمد، ﴿وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ وقال: ﴿يُوحِي إِلَيْكَ﴾ ولم يقل: أوحى إليك، ﴿يُوحِي إِلَيْكَ﴾ مما يدل على أن الوحي مستمرٌ عليك يا محمد حتى يقبضك الله عز وجل، وهذا يدل على ثبوت الحجة على هؤلاء.
وكذلك أيضًا فيه تثبيتٌ لقلب النبي ﷺ:
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان:32].
﴿وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ مِن الرسل ﴿اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ فالله العزيز الحكيم هو الذي أوحى إليك، وأوحى إلى الأنبياء السابقين، فلستَ ببدعٍ من الرسل، وقال: ﴿العزيز الحكيم﴾ ومر معنا ذلك مفصلًا حين تنزيل القرآن قال عز وجل :
﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [الزمر:1] في أول تفسير سورة الزمر.
﴿لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ من حيث الملك والتصرف والتدبير.
﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ له العلو: علو الذات، وعلو القهر، وعلو الصفة،
وهو {الْعَظِيمُ﴾ عز وجل الذي يجب أن يُعظم، وأن يُحمد، وأن يُمجد ومن أعظم ذلك أن يُعظم عز وجل بالتوحيد.
﴿تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ﴾ من عظمة الله عز وجل، تكاد كل سماء تتشقق وتتشقق السماء التي فوقها،
ويدخلُ في ذلك أن مَن ادعى أن لله ولداً فإن ذلك يدخل ضِمنَ الآية، كما قال عز وجل: ﴿تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا﴾[مريم:90-91].
والملائكةُ مِن عظمة الله يسبحون بحمد ربهم، ومر معنا ذلك في أول سورة غافر ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ﴾ يستغفرون للمؤمنين كما في سورة غافر ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ [غافر:7] لأن الملائكة يحبون أهلَ الإيمان.
﴿أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ وأتى بالتنبيه هنا “ألا”، وأكد: “إن” ﴿أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ فمَن أذنب فالله يغفر له ذنبَه ويرحمه إن تاب إليه توبةً نصوحا.
ــــــــــــــــــــــ
{وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَ ٱللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيۡهِمۡ وَمَآ أَنتَ عَلَيۡهِم بِوَكِيلٖ(6)﴾
﴿والذين اتخذوا﴾: وهم الكفار، والذين اتخذوا من دون الله عز وجل أولياء ﴿اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ﴾ اللهُ شاهدٌ عليهم، وسيحصي عليهم أعمالهم، وسيحفظ أعمالهم
﴿وَمَا أَنْتَ﴾ يا محمد ﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ ما عليك إلا البلاغ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿وَكَذَٰلِكَ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ قُرۡءَانًا عَرَبِيّٗا لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَتُنذِرَ يَوۡمَ ٱلۡجَمۡعِ لَا رَيۡبَ فِيهِۚ فَرِيقٞ فِي ٱلۡجَنَّةِ وَفَرِيقٞ فِي ٱلسَّعِيرِ (7) وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَهُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَلَٰكِن يُدۡخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحۡمَتِهِۦۚ وَٱلظَّٰلِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَۖ فَٱللَّهُ هُوَ ٱلۡوَلِيُّ وَهُوَ يُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ (9) وَمَا ٱخۡتَلَفۡتُمۡ فِيهِ مِن شَيۡءٖ فَحُكۡمُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبِّي عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ (11) لَهُۥ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقۡدِرُۚ إِنَّهُۥ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ (12)﴾
﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا﴾ أي كما أوحينا إلى الأنبياء السابقين ﴿أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ لتحذِّر أمَّ القرى وهي مكة، ﴿ومن حولها﴾ وهذا يدل على أن مكة هي أم القرى، ويدل هذا على أن النبي ﷺ مبعوثٌ لجميع الناس، وتدل عليه آياتٌ كثيرة ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف:158] وجاءت السُنة المُطهرة ببيان ذلك.
﴿وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ﴾ وتُحَذر من يوم الجمع وهو يوم القيامة، يوم يجمع الله عز وجل الخلائق ﴿قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ [الواقعة:49-50] ﴿هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ﴾ [المرسلات:38].
﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ لا شك فيه.
وفي يوم القيامة ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ في النار.
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ لو شاء الله أن يجعلهم على أمة التوحيد فإنه يجعلهم على ذلك ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأنعام:35] إلى غير ذلك من الآيات، لكنه عز وجل أراد بحكمته أن يميز أهلَ الإيمان من أهلِ الكفر، فقال الله عز وجل: ﴿وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ﴾ ومن ثَمّ فإن على العبد أن يفزع إلى الله، وأن يدعو الله أن يهديه، وأن يثبته
﴿وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ﴾ ودل هذا على أن من اهتدى فهذا برحمةٍ من الله
﴿وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ﴾ ليس لهم ولي يأتي إليهم بالخير، ولا نصير يدفع عنهم الشر لا في الدنيا ولا في الآخرة.
﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾ أتى بهذا من باب الإنكار على هؤلاء، لأنه قال في الآيات السابقات ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾ [الشورى:6] قال هنا من باب الإنكار ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ﴾ هو الذي يجب أن يُتولى ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [المائدة:56].
﴿فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ المَوْتَى﴾ لا هؤلاء، بل هو كما قال تعالى:
﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ ما اختلفتم في أي شيء فإن حكمَه في هذا الشرع وهذه الآية نظير قوله تعالى:
﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء:59].
وأيضًا: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ فاللهُ يحكم بحكمه فيبين الحق من الباطل، وأيضًا هو عز وجل يحكم يومَ القيامة بحكمه الجزائي، فيدخل أهل الجنة الجنة، ويدخل أهل النار النار.
﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي﴾ ذلكم من له تلك الصفات والأفعال العظيمة ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ وهذا يدل على أنه جمع بين التوكل والإنابة، كما قال شُعيب: ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾[هود:88] وذلك في قوله تعالى: ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ [الفاتحة:5] فلا قدرةَ للعبد على عبادة الله ولا على الإنابة إلا بعونٍ من الله، وبالتوكل على الله، قال هنا:
﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ أي: أني أرجع إليه بالعبادة والطاعة لا إلى غيره.
ــــــــــــــــــــــ
﴿فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ مبدعهما على غير مثالٍ سابق، فأين عقولكم كيف تجعلون معه أولياء!؟
﴿جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾ تأملوا في أنفسكم: جعل لكم أزواجًا من أنفسكم لتتزوجوا بهن ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الروم:21].
﴿وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا﴾ يعني: أصنافًا إناثا وذكورا
﴿يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ﴾ أي يخلقكم في هذا الجُعل فتتناسلون عن طريق الزواج.
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ ليس هو كأنتم، بل هو الواحد عز وجل، أما أنتم فأصناف، ولذلك قال الله عز وجل: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ [الذاريات:49-50]، وقال عز وجل هنا: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ وهذا من باب التأكيد ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ سبحان الله! مع أنه سمى المخلوق سميعًا بصيرا ﴿فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾[الإنسان:2] لكن السمع الذي للمخلوق والبصر يليقُ به، والذي لله يليق به عز وجل لا يشابه سمْعَ ولا بصَرَ المخلوق،
ولذلك بعضُ الناس يُنكر صفات الله ويُحرفها، ويقول: حتى لا يقع المخلوق مشابهًا للخالق! فنقول: الله لا يُقاسُ بِخَلْقِه، فإذا أثبت لنفسه اسمًا أو صفة، أو أثبت له النبي ﷺ اسمًا أو صفة فلنثبتها بما يليقُ بجلاله وبعظمته من غير تمثيل، ولا تكييف، ولا تشبيه، ولا تحريف، ولا تُشابه صفات ولا أسماء المخلوق، ولذلك لما نفى أن يكونَ له مثيل قال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء﴾ أثبت ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ والكلامُ حول هذه الآية طويل، وقد بَينت ذلك في مواطن غير هذا الموطن.
ــــــــــــــــــــــــــــ
قال الله عز وجل: ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ له مفاتيح السموات والأرض، قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ [الحجر:21] مَن أراد أن يطلب الخير فمن الله، ولذلك قال بعدها: ﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾ يوسع الرزق لمن يشاء من عباده، {وَيَقْدِرُ﴾ يعني يضيق عليه،
يوسع على هذا ويضيق على هذا، وأحياناً الإنسان في ذاته يُضَيِّقُ اللهُ عليه في حال، ثم يوسع الله عليه في حال أخرى، والعكس كذلك
﴿إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فلا يخفى عليه حالُك، فهو {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ وهو عليمٌ بما هو أصلحُ لك مِن فقرٍ أو مِن غنى.
﴿۞شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحٗا وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَمَا وَصَّيۡنَا بِهِۦٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓۖ أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِۚ كَبُرَ عَلَى ٱلۡمُشۡرِكِينَ مَا تَدۡعُوهُمۡ إِلَيۡهِۚ ٱللَّهُ يَجۡتَبِيٓ إِلَيۡهِ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَن يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوٓاْ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۚ وَلَوۡلَا كَلِمَةٞ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى لَّقُضِيَ بَيۡنَهُمۡۚ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُورِثُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لَفِي شَكّٖ مِّنۡهُ مُرِيبٖ (14) فَلِذَٰلِكَ فَٱدۡعُۖ وَٱسۡتَقِمۡ كَمَآ أُمِرۡتَۖ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡۖ وَقُلۡ ءَامَنتُ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِن كِتَٰبٖۖ وَأُمِرۡتُ لِأَعۡدِلَ بَيۡنَكُمُۖ ٱللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمۡۖ لَنَآ أَعۡمَٰلُنَا وَلَكُمۡ أَعۡمَٰلُكُمۡۖ لَا حُجَّةَ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمُۖ ٱللَّهُ يَجۡمَعُ بَيۡنَنَاۖ وَإِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ (15) وَٱلَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِي ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا ٱسۡتُجِيبَ لَهُۥ حُجَّتُهُمۡ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمۡ وَعَلَيۡهِمۡ غَضَبٞ وَلَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدٌ (16)﴾
﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ﴾ شرع اللهُ عز وجل لهذه الأمة هذا الدين ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ﴾ ما هو؟ ﴿مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ هنا قدم نوحًا على النبي ﷺ، مع أنه قُدِّمَ النبي ﷺ في آيات كثيرة ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [النساء:163] ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ﴾ [الأحزاب:7].
قدم اللهُ عز وجل نبيه محمدًا ﷺ في آيات كثيرة لشرفه عليه الصلاة والسلام ولفضله، لكن لماذا قُدم نوحٌ هنا؟
ج/ من باب أن يبين لكفار قريش أن الدين الذي جاء به محمدٌ ﷺ في آخر الزمن هو الدين الأول الذي جاء به نوح، فلا فرقَ بينهما، وهذا يدل على ما يتعلق بالتوحيد، فدعوة الأنبياء واحدة من حيث التوحيد، أما من حيث الشرائع:
﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة:48].
﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا﴾ مَا وَصَّى بِهِ: أمَرَ به وعهِدَ إلى نوح، عهد الله عز وجل إلى نوح ووصاه بأن يقومَ بهذا الأمر.
فقال الله عز وجل: ﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ يعني يا محمد ﴿وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى﴾ وذكر هؤلاء الأنبياء لأنهم هم أولوا العزم من الرسل كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ [الأحزاب:7] فقال الله عز وجل مُبينًا أن هذا الدين الذي أتى به محمدٌ ﷺ يدعو إلى التوحيد كما هو الدينُ الذي أتت به الرسل وأتى به هؤلاء الأنبياء وهو الدعوة إلى التوحيد، ولذلك قال تعالى:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء:25].
﴿وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى﴾ ما هو؟ ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ﴾ يعني اثبتوا على الدين وأقيموه ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾ [الروم:30] يعني على التوحيد ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ﴾ و “أن” هنا تفسيرية ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ﴾ وانتبهوا ﴿وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ لا تتفرقوا في هذا الدين ﴿كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾ عظُمَ على المشركين يا محمد ما تدعوهم إليه من التوحيد لأنهم يتخذون أولياء من دون الله عز وجل
﴿اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ لأنهم قالوا: كيف يوحى إلى محمد؟ ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام:124] ﴿اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ يختار مَن يشاء للنبوة، يختار من يشاء للهداية، ﴿وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ دل هذا على أن مَن يحرص على الإنابة على طاعة الله والرجوع إلى الله أنه يُهدى، ولذلك قال عز وجل ﴿وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ﴾ [الرعد:27].
﴿وَمَا تَفَرَّقُوا﴾ تلك الأمم التي أتتهم الرسل عليهم الصلاة والسلام ﴿إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ ومِن هؤلاء اليهود الذين في عصر النبي ﷺ، كانوا يقولون سيُبعث نبيٌّ في آخِرِ الزمن فنتبعه، ومع ذلك لما بُعث لم يتبعوه! فقال الله عز وجل هنا: ﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ وذلك بسبب البغي والتطاول والحسد، ما وقفوا هذا الموقف إلا وعندهم علم لم يتفرقوا عن جهل تفرقوا عن علم، قامت عليهم الحجة، سبب هذا التفرق: البغي والحسد للنبي ﷺ ولهؤلاء الأنبياء
﴿وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ أي لولا كلمة سبقت من الله بتأخير العذاب عن هؤلاء الذين في عصرك يا محمد {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ إلى وقتٍ مسمى إلى انقضاء آجالهم، أو لحكمة أرادها عز وجل أن الله سيُخرج مِن أصلابهم مَن يعبد الله لا يشرك به شيئاً ﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ بين أهل الإيمان وبين أهلِ الباطل.
﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ﴾ يعني الذين أورثوا الكتاب من بعد الرسل لفي شكٍ منه والكتاب هنا الكتب
﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ من بعد الرسل
﴿لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ﴾ أي أن هذا الشك جعلهم مترددين حيارى.
ولذلك قال: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ﴾ بعدما ذُكر لك وبعد تلك الدلائل، فلذلك يا محمد لتثبت على دينك، فادعُ هؤلاء إلى الدين الحق ﴿فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ واستقم كما أمرتَ وهذا يدل على أن الاستقامة إذا لم تكن على شرع الله فهي باطلة، كمن يستقيم على بدع ويعبد الله على بدع وخرافات!
﴿وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ لأن ما يُخالف الكتاب هو اتباع لأهوائهم، وحاشاه ﷺ أن يتبع أهواءَهم، لكن هذا إذا كان موجهًا للنبي ﷺ فغيرُه من باب أولى.
﴿وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ﴾ آمنتُ بكل كتابٍ أنزله الله على الأنبياء السابقين ﴿وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾ أنني أعدل بينكم إذا تحاكمتم إليّ.
﴿اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ﴾ فلا مَزيَّة لكم علينا ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُم﴾ قال الله عز وجل في سورة البقرة: ﴿قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾ [البقرة:139].
﴿لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ﴾ لا خصومةَ ولا جدال الآن بيننا وبينكم، لأن الحق واضح ﴿اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا﴾ يعني: وبينكم
﴿وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ وإليه المرجع فسيجازي كل إنسانٍ بما عمل.
﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ﴾ يُحاجون في توحيد الله، وفيما يتعلقُ بدين الله:
﴿مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ﴾ من بعد ما استجاب له المؤمنون ﴿حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ باطلة ومدفوعة ﴿وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ﴾ غضب من الله، لأنهم عرفوا الحق فأعرضوا عنه ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ ومِن هنا فيه إثباتُ صفةِ الغضب لله عز وجل بما يليق بجلاله وبعظمته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ وَٱلۡمِيزَانَۗ وَمَا يُدۡرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٞ (17) يَسۡتَعۡجِلُ بِهَا ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِهَاۖ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مُشۡفِقُونَ مِنۡهَا وَيَعۡلَمُونَ أَنَّهَا ٱلۡحَقُّۗ أَلَآ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُمَارُونَ فِي ٱلسَّاعَةِ لَفِي ضَلَٰلِۭ بَعِيدٍ (18) ٱللَّهُ لَطِيفُۢ بِعِبَادِهِۦ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُۖ وَهُوَ ٱلۡقَوِيُّ ٱلۡعَزِيزُ (19) مَن كَانَ يُرِيدُ حَرۡثَ ٱلۡأٓخِرَةِ نَزِدۡ لَهُۥ فِي حَرۡثِهِۦۖ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرۡثَ ٱلدُّنۡيَا نُؤۡتِهِۦ مِنۡهَا وَمَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ (20)﴾
﴿اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ﴾ هنا ذَكَر اسمه عز وجل في أول السياق من باب التعظيم له والتعظيم لهذا القرآن ﴿الله الذي﴾ يا كفار قريش تأملوا في هذا القرآن الذي هو أعظم الكتب ﴿اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ متلبسًا بالحق ليس به باطل ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ﴾ [فصلت:42].
﴿وَالْمِيزَانَ﴾ دل هذا على أنه لا يقوم للناس مصالح إلا بالعدل، وبشرع الله عز وجل ولذلك قال اللهُ عز وجل: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد:25].
فقال اللهُ عز وجل: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ ومن ثَمّ فإن الله عز وجل قد أخفاها حتى على النبي ﷺ، فلا يعلمُ بها نبيٌ مرسل ولا ملك مُقرب، وذلك لأنه ﷺ كما ثبت عنه قال: «بُعِثْتُ والسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ».
﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا﴾ لماذا يستعجلون بها؟ يستعجلون عذاب الله ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ مع أنهم مؤمنون ﴿مُشْفِقُونَ مِنْهَا﴾ يعني خائفون، لأنهم يخشون أن يأتوا إلى الله عز وجل بأعمالٍ فيها ما فيها من الشوائب ﴿وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ﴾ لا مرية فيها
﴿أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ﴾ يجادلون في الساعة ﴿لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ﴾.
﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ﴾ الله لطيف بعباده فيُوصل إليهم الخير من حيث لا يحتسبون، ويدفع عنهم الشر من حيث لا يحتسبون ﴿يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ﴾ يعني هو عز وجل يرزق الجميع، لكن هنا ﴿يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ﴾ أي يوسع على من يشاء من عباده عز وجل
﴿وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ﴾ يعني لا يستعصي عليه أمر، فهو عز وجل قويٌ وعزيزٌ، فلا يُنالُ بسوء وهو الغالب.
﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ﴾ يعني لا تلتفتوا إلى هذه الدنيا وإلى متعها،
﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ﴾ مَن كان يريد أن يحظى من أجل الآخرة ويعمل العمل الصالح ﴿ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ﴾ بأعماله الصالحة ﴿نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ﴾، ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ [الأنعام:160].
﴿وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا﴾ يريد بعبادته التي يقومُ بها رياءً أو شيئًا من أمور الدنيا ﴿وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾
وهذا كما قال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ﴾ [هود:15].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿أَمۡ لَهُمۡ شُرَكَٰٓؤُاْ شَرَعُواْ لَهُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمۡ يَأۡذَنۢ بِهِ ٱللَّهُۚ وَلَوۡلَا كَلِمَةُ ٱلۡفَصۡلِ لَقُضِيَ بَيۡنَهُمۡۗ وَإِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ (21) تَرَى ٱلظَّٰلِمِينَ مُشۡفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعُۢ بِهِمۡۗ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فِي رَوۡضَاتِ ٱلۡجَنَّاتِۖ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمۡۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ (22) ذَٰلِكَ ٱلَّذِي يُبَشِّرُ ٱللَّهُ عِبَادَهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِۗ قُل لَّآ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ أَجۡرًا إِلَّا ٱلۡمَوَدَّةَ فِي ٱلۡقُرۡبَىٰۗ وَمَن يَقۡتَرِفۡ حَسَنَةٗ نَّزِدۡ لَهُۥ فِيهَا حُسۡنًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ شَكُورٌ (23) أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗاۖ فَإِن يَشَإِ ٱللَّهُ يَخۡتِمۡ عَلَىٰ قَلۡبِكَۗ وَيَمۡحُ ٱللَّهُ ٱلۡبَٰطِلَ وَيُحِقُّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ (24)﴾
﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ أين عقولهم؟!
أجعلوا لله عز وجل شركاء يُشرعون لهم ما لم يأذن به الله، ليس هناك من يستطيع أن يأتي بالشرائع إلا الله عز وجل، فلم يأذن الله عز وجل لأحدٍ أن يُشرع لخلقه ﴿وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ ولولا كلمة الفصل أنه عز وجل سيمهلهم ولا يستأصلهم لقضي بينهم في هذه الدنيا
﴿وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ في يوم القيامة.
﴿تَرَى الظَّالِمِينَ﴾ في يوم القيامة ﴿مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا﴾ خائفين مما اكتسبوه من الذنوب، كما قال عز وجل: ﴿وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾ [الكهف:49].
ومع هذا الخوف فلا ينفعهم ﴿وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ﴾ العذاب واقعٌ بهم.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ وهذا هو الصنف الطيب، ﴿فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ} يعني في الروضات المرتفعة البهية الزكية التي بها الخضرة وبها المياه
﴿ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾.
﴿لهم ما يشاءون﴾: ما يشاؤون من النعيم عند ربهم ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ﴾ هذا هو الفضل الكبير الذي تفضل الله عز وجل به عليهم.
﴿ذَلِكَ الَّذِي﴾ يعني ما مضى من ثوابٍ لهؤلاء المتقين ﴿ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ المؤمن الذي يعمل الصالحات هذا الذي بُشر به وسيلقاه فيه الآخرة.
﴿قُلْ﴾ قل يا محمد لهؤلاء ﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ أجرًا من هذه الدنيا من مالٍ أو ما شابه ذلك ﴿إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ إلا أن تودوني في قرابتي، بمعنى أنكم تتركونني ولا تؤذونني فتجعلونني أبلغ رسالة ربي هذا هو أجري عندكم، لأن مقتضى ذلك: أن القريبَ لا يؤذي قريبَه، فليست في الحقيقة ليس أجرا، بل هو حقٌ عليكم، ﴿إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ ولذلك ثبت في المسند كان ﷺ يطوف في موسم الحج ويقول: ” ألا رجلٌ يحمِلُني إلى قومِهِ لأبلِّغ كلام ربي فإنَّ قريشًا قد منعوني أن أبلِّغَ كلامَ ربِّي».
وقال بعض المفسرين: ﴿إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ لا أسألكم أجراً إلا أن تحفظوا قرابتي فلا تتعدوا على قرابتي ولا على أهل بيتي.
وقال بعضُ المفسرين: ﴿إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ يعني إلا أن تتقربوا إلى الله بالعبادة، فهذا الذي أسألكم وهذا هو أجري، وإن كان الأول هو أظهر ولا مانع من دخول هذين الأمرين، وإن كان الأول هو الأقرب لأن السياق يدل عليه.
﴿وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً﴾ يعني من يعمل حسنة ﴿نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا﴾
﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ [الأنعام:160].
﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ غفورٌ يغفر الذنب لمن تاب إليه، وشكور يعني أن من أتى بالعمل الصالح ولو كان قليلاً فإنه يثيبه الأجر العظيم.
﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ فنسبوا ذلك أنه افتراء من النبي ﷺ ﴿فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ﴾ قال بعض العلماء: “يختم” هنا بمعنى أنه يربط على قلبك ويثبت قلبك، وإذا كان هذا القول دل هذا على أن الختم كما يكون في الحالة السيئة يكون أيضًا بمعنى الحالة الطيبة وهو الربط والثبات على القلب.
ولكن هناك قولٌ آخر: ﴿فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ﴾ بمعنى: أنه يختم على قلبك يا محمد فيعاقبك يا محمد، كما قال الله عز وجل: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾ [الحاقة:44-46].
﴿وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ﴾ ويمحُ هنا حُذفت الواو ليست لأنها معطوفة على المجزوم ﴿يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ﴾ وإنما هي مستأنفة، لأن الله عز وجل يمحو الباطل دائمًا وليس كالختم الذي هو مُرتبٌ على المشيئة، ولكن لماذا حُذفت الواو؟ لما حُذفت الواو من حيث النطق من باب التخفيف حُذفت من حيث الكتابة، ولها نظائر ﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ [العلق:18] ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ [الأنبياء:18].
﴿وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ﴾ وهذا يدل على أن الختم الأظهر والأرجح أنه على معناه الأساسي؛ معناه الأصلي.
﴿وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ﴾ وهذا يدل على أنه عز وجل يُحق الحق بكلماته فهو يريد ذلك، فالحق ثابت، والحق منصور.
﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ إنه عليمٌ بما تكنه الصدور.