بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الشورى ﴿ مكية﴾
من آية 25 إلى آخر السورة
﴿الدرس 228﴾
للشيخ زيد بن مسفر البحري
———————————
﴿وَهُوَ ٱلَّذِي يَقۡبَلُ ٱلتَّوۡبَةَ عَنۡ عِبَادِهِۦ وَيَعۡفُواْ عَنِ ٱلسَّيِّـَٔاتِ وَيَعۡلَمُ مَا تَفۡعَلُونَ ﴿25﴾ وَيَسۡتَجِيبُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضۡلِهِۦۚ وَٱلۡكَٰفِرُونَ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدٞ ﴿26﴾ ۞وَلَوۡ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرِّزۡقَ لِعِبَادِهِۦ لَبَغَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٖ مَّا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ بِعِبَادِهِۦ خَبِيرُۢ بَصِيرٞ ﴿27﴾ وَهُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ ٱلۡغَيۡثَ مِنۢ بَعۡدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحۡمَتَهُۥۚ وَهُوَ ٱلۡوَلِيُّ ٱلۡحَمِيدُ ﴿28﴾ وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٖۚ وَهُوَ عَلَىٰ جَمۡعِهِمۡ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٞ ﴿29﴾ وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِيكُمۡ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖ ﴿30﴾ وَمَآ أَنتُم بِمُعۡجِزِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِۖ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٖ ﴿31﴾﴾
﴿وَهُوَ الَّذي يَقبَلُ التَّوبَةَ عَن عِبادِهِ﴾ فهو عز وجل يحب من عباده أن يتوبوا
{عَن عِبادِهِ﴾ ولم يقل: يقبل التوبة من عباده؛ أي: أنه أتى بكلمة {عَن} التي تفيد المجاوزة يعني: يقبل التوبة ويتجاوز عن ذنوبهم ﴿َويَعفو عَنِ السَّيِّئَاتِ﴾ يتجاوز عن الذنوب.
﴿وَيَعلَمُ ما تَفعَلونَ﴾ فلا يخفى عليه خافية
﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَخفى عَلَيهِ شَيءٌ فِي الأَرضِ وَلا فِي السَّماءِ﴾ [آل عمران: 5].
﴿وَيَستَجيبُ الَّذينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ قال بعض المفسرين: أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستجيبون لربهم، وقال بعض المفسرين: إنما قوله: ﴿وَيَستَجيبُ الَّذينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ أنه يُجيبُ دعوةَ المؤمنين لأنه قال بعدها: ﴿وَيَزيدُهُم مِن فَضلِهِ﴾
ولا مانع أيضًا من دخول القول الآخر لأن الله ما استجاب دعاءهم إلا لأنهم استجابوا لشرعه.
﴿ وَالكافِرونَ لَهُم عَذابٌ شَديدٌ﴾ وَالكافِرونَ لَهُم عَذابٌ شَديدٌ غليظٌ مؤلم.
ـــــــــــــــــــــــــ
﴿وَلَو بَسَطَ اللَّهُ الرِّزقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوا فِي الأَرضِ﴾ لو بسط اللهُ الرزقَ لجميع الخلق لبغوا في الأرض؛ وذلك لأنه إذا زادت النعم فإنهم حينها يتفاخرون ويتباهون في ذلك فيبغي بعضُهم على بعض ويتطاول بعضهم على بعض، فيريد بعضهم أن يكون أحسن من الآخر، بل إنه كلما حصلت له نعمة أراد النعمة الأخرى، وهكذا وهكذا….
وهذا رحمةٌ من الله، لكنه يبسط الرزق لمن يشاء من عباده
﴿ وَلكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ﴾ حسب حكمته وحسب مشيئته
﴿وَإِن مِن شَيءٍ إِلّا عِندَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلّا بِقَدَرٍ مَعلومٍ﴾ [الحجر: 21]
﴿إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبيرٌ بَصيرٌ﴾ فهو خبير وبصير بعباده فيعرف ما هو أصلحُ لهم وأنفع لهم.
﴿وَهُوَ الَّذي يُنَزِّلُ الغَيثَ﴾ المطر ﴿مِن بَعدِ ما قَنَطوا﴾ يئسوا
﴿وَيَنشُرُ رَحمَتَهُ﴾ والرحمة هنا المطر
﴿وَيَنشُرُ رَحمَتَهُ﴾ حسبما يشاء عز وجل فَيُصيبُ بِهِ مَن يَشاءُ من عباده كما قال تعالى: ﴿فَيُصيبُ بِهِ مَن يَشاءُ وَيَصرِفُهُ عَن مَن يَشاءُ﴾ [النور: ٤٣]
﴿وَهُوَ الوَلِيُّ الحَميدُ﴾ الذي يجب أن يُتولى هو الله ولذلك قال تعالى في أول السورة:
﴿أَمِ اتَّخَذوا مِن دونِهِ أَولِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الوَلِيُّ﴾ [الشورى:9]
فقال هنا: ﴿وَهُوَ الوَلِيُّ الحَميدُ﴾ المحمود على أفعاله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿وَمِن آياتِهِ خَلقُ السَّماواتِ وَالأَرضِ﴾ فلْيُتأَمّل في السماوات والأرض وما أبدع الله فيهما ﴿وَما بَثَّ فيهِما مِن دابَّةٍ﴾ يعني ما نشر وبثّ وفرّق فيهما من دابة.
وبعض المفسرين قال: ﴿فيهِما﴾ المقصود الأرض، لأن السماء ليس فيها دواب. وبعض المفسرين قال: إن كل من يدب يطلق عليه دابة.
ومِن ثمّ كما بيّن ابن كثير رحمه الله أنه كما أن الدواب تكون في الأرض، أيضًا مما يكون في السماء مما يدب عليها.
﴿ وَهُوَ عَلى جَمعِهِم إِذا يَشاءُ قَديرٌ﴾ يعني: هو عز وجل ﴿عَلى جَمعِهِم﴾
كما قال عز وجل في أول السورة ﴿ لِتُنذِرَ أُمَّ القُرى وَمَن حَولَها وَتُنذِرَ يَومَ الجَمعِ﴾ [الشورى:7] قال هنا:﴿وَهُوَ عَلى جَمعِهِم إِذا يَشاءُ قَديرٌ﴾ ولذلك قوله عز وجل:
﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ﴾[البقرة:20] أبلغ من قول القائل: الله على ما يشاء قدير، فتنبه! إذا قلت شيئًا فقل: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ، ولا تقل: إن الله على ما يشاء قدير، لماذا؟
ج/ لأنه قد يُفهم من ذلك أنه قدير على الذي يشاؤه، والذي لا يشاؤه لا يقدر عليه، تعالى الله عن ذلك! فالله عز وجل قدير على ما يشاؤه وعلى ما لا يشاؤه،
وهنا المشيئة ليست معلقة بالقدرة ﴿وَهُوَ عَلى جَمعِهِم إِذا يَشاءُ قَديرٌ﴾ بل المشيئة تتعلق بالجمع، يعني إذا شاء أن يجمعهم جمعهم عز وجل، ومن ثم يُتنبه لهذا الأمر وأيضًا حديث النبي ﷺ عن ذلك الرجل في الحديث الصحيح؛ ذلك الرجل الذي هو آخر من يدخل الجنة قال الله عز وجل لما أدخله: “وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ “.
لا يُفهم منها هذا الفهم، لكن لما أدخله الجنة -شيءٌ وقع- ماذا قال؟
“وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ “
ولذلك لو أن شيئًا وقع، فقُلْتَ لما وقع: [الله على ما يشاء قادر] فلا إشكال في ذلك لأنه وقع، لكن لو تُخبر عن شيء لم يقع فلا تقل الله على ما يشاء قادر، قل: [إن الله على كل شيء قدير] على كل شيء قدير مما يشاؤه ومما لا يشاؤه عز وجل.
﴿وَما أَصابَكُم مِن مُصيبَةٍ﴾ أي مصيبة ﴿ فَبِما كَسَبَت أَيديكُم﴾ يعني بسبب أيديكم: أعمالكم، وهنا نُسب الكسب إلى اليد لأن اليد هي أغلب ما تُمارس الشيء.
﴿وَيَعفو عَن كَثيرٍ﴾ لأنه لو يؤاخِذُنا بكل ما نعمل لهلَكنا ﴿وَلَو يُؤاخِذُ اللَّهُ النّاسَ بِما كَسَبوا ما تَرَكَ عَلى ظَهرِها مِن دابَّةٍ﴾ [فاطر:45]
وإنما إن عاقبَ فإنما ببعض الأشياء ﴿ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرِّ وَالبَحرِ بِما كَسَبَت أَيدِي النّاسِ لِيُذيقَهُم بَعضَ الَّذي عَمِلوا لَعَلَّهُم يَرجِعونَ﴾ [الروم:41]
﴿وَما أَنتُم بِمُعجِزينَ فِي الأَرضِ﴾ أي: أنكم لستم بفائتين اللهَ عز وجل لا في الأرض ولا في السماء كما في الآيةِ الأخرى؛ يعني لو كنتم في أي بقعة من بقع الأرض فلن تفوتوا الله عز وجل، في قارب، في جبل، في سهل، في وادٍ فلن تفوتوا الله عز وجل،
ولذلك هنا لم يذكر السماء وذكرها في آيات أخرى ﴿وَما أَنتُم بِمُعجِزينَ فِي الأَرضِ وَلا فِي السَّماءِ﴾ [العنكبوت:22] يعني لو كنتم ممن يسكن السماء فلن تفوتوا اللهَ عز وجل ولستم بمعجزين الله وسيعذبكم الله، لكن ذكر الأرض هنا من باب أنكم لو كنتم في أي بقعة من بقع الأرض فلن تُعجزوا الله عز وجل ﴿وَما أَنتُم بِمُعجِزينَ فِي الأَرضِ﴾، ﴿وَما لَكُم مِن دونِ اللَّهِ﴾ ليس لكم من دون الله ﴿من وَلِيٍّ﴾ بمعنى أنه يتولاكم ويأتي إليكم بالخير و ﴿ولا نَصيرٍ﴾ يدفع عنكم الشر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِ ٱلۡجَوَارِ فِي ٱلۡبَحۡرِ كَٱلۡأَعۡلَٰمِ (32) إِن يَشَأۡ يُسۡكِنِ ٱلرِّيحَ فَيَظۡلَلۡنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهۡرِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٍ (33) أَوۡ يُوبِقۡهُنَّ بِمَا كَسَبُواْ وَيَعۡفُ عَن كَثِيرٖ (34) وَيَعۡلَمَ ٱلَّذِينَ يُجَٰدِلُونَ فِيٓ ءَايَٰتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٖ (35) فَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيۡءٖ فَمَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَٱلَّذِينَ يَجۡتَنِبُونَ كَبَٰٓئِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡفَوَٰحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمۡ يَغۡفِرُونَ (37) وَٱلَّذِينَ ٱسۡتَجَابُواْ لِرَبِّهِمۡ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَمۡرُهُمۡ شُورَىٰ بَيۡنَهُمۡ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ (38)﴾
﴿وَمِن آياتِهِ﴾ آياتُه كثيرة الدالة على عظمته ووجوب توحيده، لكن من بين الآيات تلك السفن ﴿وَمِن آياتِهِ الجَوارِ﴾ السفن ﴿فِي البَحرِ﴾ لأنها تجري في البحر ﴿كَالأَعلامِ﴾ مثل الجبال لأن الجبل عَلَم عند أهل الصحراء وأهل البادية، فإنهم يجعلونه علامات لهم على الطرق، فكأن هذه كالجبال مع عِظَمِها وكِبَرِها وما شابه ذلك إذا بها تجري في البحر بأمر الله عز وجل.
﴿إِن يَشَأ يُسكِنِ الرّيحَ﴾ لأنها لا تجري إلا عن طريق الريح بأمر الله ﴿فَيَظلَلنَ﴾ أي تلك السفن ﴿ رَواكِدَ عَلى ظَهرِهِ﴾ ثابتة على ظهر البحر
﴿ إِنَّ في ذلِكَ﴾ يعني فيما مضى ﴿ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ﴾ الصبار: إذا أتى إليه البلاء صبر ﴿شَكورٍ﴾ إذا أتت إليه النعماء شكر الله عز وجل.
﴿إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكورٍ﴾ قدّم الصبار والشكور من باب الاهتمام بأن العبد وهو سائر في هذه الدنيا لن يخلو: إما إلى سراء أو ضراء؛ إن أتاه ما يسره: الشكر، وإن أتاه ما لا يلائمه من فقر وشر ونحو ذلك: فعليه بالصبر، كما قال النبي ﷺ عند مسلم: ” عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ “
﴿إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكورٍ﴾ أتت هذه معترضة لأنه قال بعدها
﴿أَو يوبِقهُنَّ بِما كَسَبوا﴾ أي يهلك تلك السفن ﴿بِما كَسَبوا﴾ بذنوبهم
﴿ وَيَعفُ عَن كَثيرٍ﴾ هنا لأنها مجزومة فحُذِفت الواو.
﴿وَيَعلَمَ الَّذينَ﴾ هنا قال: ﴿وَيَعلَمَ﴾ مع أنها معطوفة على ما سبق لكن لماذا نصبها؟
قال بعض المفسرين: لأنه لما كثُر الجزم فإنه غُيِّر من حيث الأسلوب إلى حركة أخرى -لتوالي حركات الجزم-، وأخفّ الحركات هي الفتح ﴿وَيَعلَمَ ﴾
أو كما قال بعض المفسرين: فعل ذلك [لينتقمَ ويعلمَ]: واو المعية، وقيل غير ذلك.
﴿وَيَعلَمَ الَّذينَ يُجادِلونَ في آياتِنا ما لَهُم مِن مَحيصٍ﴾
من يجادل في آيات الله ويعارض آيات الله ﴿ما لَهُم مِن مَحيصٍ﴾ ما لهم مهرب ولا منجى من عذاب الله لا في الدنيا ولا في الآخرة.
﴿فَما أوتيتُم مِن شَيءٍ فَمَتاعُ الحَياةِ الدُّنيا﴾ مهما أُعطيتَ من أي شيء من مُتَعِ الدنيا ولو عَظُم في عينك وفي أعين الناس: ﴿فَمَتاعُ الحَياةِ الدُّنيا﴾
ولذلك في الآية الأخرى قال: ﴿وَما أوتيتُم مِن شَيءٍ فَمَتاعُ الحَياةِ الدُّنيا وَزينَتُها وَما عِندَ اللَّهِ خَيرٌ وَأَبقى أَفَلا تَعقِلونَ﴾ [القصص:60]
قال هنا: ﴿وَما عِندَ اللَّهِ خَيرٌ وَأَبقى﴾ لمن؟ ﴿لِلَّذينَ آمَنوا وَعَلى رَبِّهِم يَتَوَكَّلونَ﴾
جمعوا مع الإيمان التوكل على الله: تفويض الأمور إلى الله عز وجل فيما يتعلق بأمور دنياهم من رزق وما شابه ذلك، وفيما يتعلق بأمور دينهم بأن يثبتهم الله وأن ينصرهم الله.
{وَٱلَّذِينَ يَجۡتَنِبُونَ كَبَٰٓئِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡفَوَٰحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمۡ يَغۡفِرُونَ} (37)
﴿وَالَّذينَ يَجتَنِبونَ كَبائِرَ الإِثمِ وَالفَواحِشَ﴾ سبحان الله! من صفات هؤلاء: أنهم يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، مرّ معنا تعريف الكبيرة عند قوله تعالى: ﴿إِن تَجتَنِبوا كَبائِرَ ما تُنهَونَ عَنهُ نُكَفِّر عَنكُم سَيِّئَاتِكُم﴾ [النساء:31]
لا يدل هذا على أن الإنسان يُقدم على الصغائر! لكن هذا فيه بيان رحمة الله عز وجل؛ أن من ترك الذنوب الكبائر سيغفر الله له الصغائر.
وتأمل قال: ﴿يَجتَنِبونَ﴾ بصيغة الفعل المضارع الذي يدل على الاستمرار دائمًا في اجتناب هذه الذنوب إلا إن وقعت به لمّة من كبيرة ثم تاب بعدها فإن الله عز وجل يغفر له، كما قال عز وجل:
﴿لِيَجزِيَ الَّذينَ أَساءوا بِما عَمِلوا وَيَجزِيَ الَّذينَ أَحسَنوا بِالحُسنَى – الَّذينَ يَجتَنِبونَ كَبائِرَ الإِثمِ وَالفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ﴾ [النجم:31-32] اللمم: هي الصغائر، أو ﴿اللَّمَمَ﴾: الكبيرة التي يلم بها الإنسان ثم يتذكر وعيد الله ثم يعود.
قال هنا: ﴿وَالَّذينَ يَجتَنِبونَ كَبائِرَ الإِثمِ وَالفَواحِشَ﴾ الفواحش من ضمن الكبائر وهي: ما فَحُش في الشرع، وأعظم ما يُطلق على الزنا، لكن أفرد الفواحش باعتبار أنها تتعلق بلذة النفس؛ من باب تقبيحها فهو من باب عطف الخاص على العام.
﴿وَإِذا ما غَضِبوا هُم يَغفِرونَ﴾ إذا غضبوا على أحد ﴿هُم يَغفِرونَ﴾ يتجاوزون عنه.
ومن ثَم: فإن كلمة المغفرة قد تُطلق إصدارًا على العبد؛ فالعبد يغفر لكن مغفرة نسبية [عن حقه] لكن الذي يغفر الذنوب جميعًا هو الله عز وجل وحده.
﴿ وَإِذا ما غَضِبوا هُم يَغفِرونَ﴾ سبحان الله دل هذا على قوة ثباتهم
وعلى أنهم يُمسكون أنفسَهم عند الغضب؛ يغفرون متى؟ لا عند زوال الغضب بل في حال الغضب فإنهم يغفرون ويتجاوزون.
﴿وَالَّذينَ استَجابوا لِرَبِّهِم﴾ إذ أنهم استجابوا لشرع الله عز وجل وعملوا به
﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا استَجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسولِ إِذا دَعاكُم لِما يُحييكُم﴾ [الأنفال:24]
ولذلك في أواخر السورة قال ﴿استَجيبوا لِرَبِّكُم مِن قَبلِ أَن يَأتِيَ يَومٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ [الشورى:47].
﴿وَأَقامُوا الصَّلاةَ﴾ مع أن إقامة الصلاة من الاستجابة لدين الله عز وجل لكن لعظمها أفردها. ﴿وَأَمرُهُم شورى بَينَهُم﴾ وَأَمرُهُم شورى بَينَهُم: يعني يتشاورون فيما بينهم وهذا يدل على لطفِ قلوبِهم لأن كلًا منهم يأخذ برأي الآخر؛ يتشاور معه، وهذه سنة نبوية ولذلك قال تعالى: ﴿ وَشاوِرهُم فِي الأَمرِ﴾ [آل عمران:159] والنبيُّ ﷺ كان يشاور أصحابه لكن فيما يتعلق بالمصالح الدنيوية، أما ما يتعلق بالدين؛ فإن الدين يجب أن يُطبّق من غيرِ استشارة.
﴿وَمِمّا رَزَقناهُم﴾ من بعض ما رزقناهم ﴿ يُنفِقونَ﴾.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿ وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلۡبَغۡيُ هُمۡ يَنتَصِرُونَ (39) وَجَزَٰٓؤُاْ سَيِّئَةٖ سَيِّئَةٞ مِّثۡلُهَاۖ فَمَنۡ عَفَا وَأَصۡلَحَ فَأَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ (40) وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعۡدَ ظُلۡمِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَا عَلَيۡهِم مِّن سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَظۡلِمُونَ ٱلنَّاسَ وَيَبۡغُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّۚ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ (42) وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ﴾
﴿وَالَّذينَ إِذا أَصابَهُمُ البَغيُ﴾ يعني: الاعتداء من غيرهم ﴿هُم يَنتَصِرونَ﴾ سبحان الله ينتصرون! كيف يُوَفَق بين هذه وبين الآية التي قبلها:
﴿ وَإِذا ما غَضِبوا هُم يَغفِرونَ﴾[الشورى:37]؟
﴿وَالَّذينَ إِذا أَصابَهُمُ البَغيُ هُم يَنتَصِرونَ﴾ يعني أنهم إذا كانوا في موقف ربما يُنسَب إليهم أنهم ضعفاء فإنهم لا يعفون بل إنهم ينتصرون لحقهم، لماذا؟
ج/ لأن المؤمن لا يحق له أن يَجبُن حتى يُنسب إليه الجُبن، وإنما إذا كان يعفو فيعفو عن مقدرة، لكن لو نُسِب إليه أنه ضعيف فإنه لا يعفو بل يكون كما قال تعالى: ﴿وَالَّذينَ إِذا أَصابَهُمُ البَغيُ هُم يَنتَصِرونَ﴾ ولو انتصروا لينتبهوا فلا يعتدون
﴿وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثلُها﴾ ووُصِف الانتصار بأنه سيئة من باب الصورة فقط
وإلا فالانتصار للنفس ممن ظلم ليس سيئة
﴿ فَمَن عَفا وَأَصلَحَ فَأَجرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ أجره على الله يدل على عِظَم الأجر.
وتأمل هنا قال: ﴿فَمَن عَفا﴾ ولم يسكت؛ قال: ﴿وَأَصلَحَ﴾ فدل هذا على أن العفو الذي لا يترتبُ عليه إصلاح ليس بمحمود في الشرع، قد يُعفى عن بعض الأشخاص من أهل الجرائم وما شابه ذلك وهو يعلم أنه لو عفى عنه فإن هذا لا يترتبُ عليه إصلاح بل إفساد في الأرض فهنا لا يجوز أن تعفو عنه، بل خذ حقك حتى يرتدع،
لكن لو كان شخصًا يُعرف عنه أنه لو عُفي عنه لن يترتب على ذلك إفساد بل إصلاح وتصلح القلوب وتتقرب القلوب: فلا إشكال في ذلك،
ومن ثم يُتنبه إلى هذا الأمر، لأنه قد يأتي بعض الناس إلى بعض الناس ويقول لمن اعتُدي عليهم:
اعفوا عنه تسامحوا عنه ﴿ فَمَن عَفا وَأَصلَحَ﴾ نقول: نعم؛ فمن عفا وأصلح إذا كان هذا العفو يترتبُ عليه إصلاح، أما إذا كان يترتب عليه إفساد فلا.
وكمثال: بعض المفحطين الذين استمروا على التفحيط، ربما يفحط وإذا به مثلًا يدهس له بعض الأشخاص ويقال والله اعفُ عنه ﴿ فَمَن عَفا وَأَصلَحَ فَأَجرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ كم تكرر منه هذا الأمر أكثر من مرة هنا؛ ليس بعفوٍ محمود ﴿ فَمَن عَفا وَأَصلَحَ فَأَجرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ لمن يستحق العفو الذي يترتب عليه إصلاح لا يترتب عليه إفساد.
﴿ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمينَ﴾ إنه عز وجل لا يحب الظالمين.
﴿وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعدَ ظُلمِهِ﴾ من انتصر بعد ظلمه ﴿ فَأُولئِكَ ما عَلَيهِم مِن سَبيلٍ﴾
لا حرج ولا جناح عليهم لأنهم أخذوا حقهم.
﴿إِنَّمَا السَّبيلُ ﴾ يعني الإثم والجُناح ﴿عَلَى الَّذينَ يَظلِمونَ النّاسَ وَيَبغونَ فِي الأَرضِ بِغَيرِ الحَقِّ﴾ ظلم للناس واعتداء في الأرض بغير الحق ﴿أُولئِكَ لَهُم عَذابٌ أَليمٌ﴾.
﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ﴾ صبر: على ما أصابه، وغفر: تجاوز ﴿ إِنَّ ذلِكَ لَمِن عَزمِ الأُمورِ﴾ من الأمور المعزوم عليها المأمور بها شرعًا لأهميتها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن وَلِيّٖ مِّنۢ بَعۡدِهِۦۗ وَتَرَى ٱلظَّٰلِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلۡعَذَابَ يَقُولُونَ هَلۡ إِلَىٰ مَرَدّٖ مِّن سَبِيلٖ (44) وَتَرَىٰهُمۡ يُعۡرَضُونَ عَلَيۡهَا خَٰشِعِينَ مِنَ ٱلذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرۡفٍ خَفِيّٖۗ وَقَالَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَأَهۡلِيهِمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ أَلَآ إِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ فِي عَذَابٖ مُّقِيمٖ (45) وَمَا كَانَ لَهُم مِّنۡ أَوۡلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِۗ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن سَبِيلٍ (46)﴾
﴿وَمَن يُضلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِن وَلِيٍّ مِن بَعدِهِ﴾ لما ذكر عز وجل صدودَ كفار قريش بيّن هنا أن من أضله الله عز وجل فلن يجد وليًا يتولاه ويهديه كما قال عز وجل:
﴿ وَمَن يُضلِل فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرشِدًا﴾ [الكهف:17]
﴿ وَتَرَى الظّالِمينَ لَمّا رَأَوُا العَذابَ يَقولونَ هَل إِلى مَرَدٍّ مِن سَبيلٍ﴾ يعني: أنهم إذا رأوا عذابَ الله عز وجل يتمنون أنهم يُرجَعُون إلى الدنيا حتى يُطيعوا اللهَ عز وجل، وهذا يدل على أنهم يتمنون ذلك حينما يرون العذاب، وكذلك إذا وُقِفوا على النار:
﴿وَلَو تَرى إِذ وُقِفوا عَلَى النّارِ فَقالوا يا لَيتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكونَ مِنَ المُؤمِنينَ﴾ [الأنعام:27] ويتمنون ذلك إذا دخلوا في النار:
﴿فَهَل إِلى خُروجٍ مِن سَبيلٍ﴾ [غافر:11]
﴿وَتَراهُم يُعرَضونَ عَلَيها﴾ يعني يُوقفون على النار﴿ خاشِعينَ مِنَ الذُّلِّ﴾ بمعنى أنهم أذلاء ﴿ يَنظُرونَ مِن طَرفٍ خَفِيٍّ﴾ يعني من عينٍ خفية فيسترقون النظر، وهذا لا يتنافى مع قوله تعالى: ﴿وَلا تَحسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمّا يَعمَلُ الظّالِمونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُم لِيَومٍ تَشخَصُ فيهِ الأَبصارُ﴾ [إبراهيم:24]
وذلك إذا خرجوا من قبورهم فإن أبصارهم تكونُ شاخصة، لكن هنا إذا رأوا العذاب: ﴿يَنظُرونَ مِن طَرفٍ خَفِيٍّ﴾ بطَرْفٍ خفي، أو ابتداء النظر من طرف خفي.
﴿ وَقالَ الَّذينَ آمَنوا إِنَّ الخاسِرينَ الَّذينَ خَسِروا أَنفُسَهُم وَأَهليهِم يَومَ القِيامَةِ﴾
خسروا أنفسهم وخسروا أهليهم ومر معنا ذلك مفصلًا، من أنهم خسروا أنفسهم إذ عرضوها إلى النار، وأيضًا خسروا أهليهم فإن أهليهم إن كانوا في الجنة فإنهم خسروهم، وكذلك إذا كانوا معهم في النار فإنهم مشغولون عنهم.
﴿أَلا إِنَّ الظّالِمينَ في عَذابٍ مُقيمٍ﴾ فهم في عذاب مقيم مستمر دائم.
﴿وَما كانَ لَهُم مِن أَولِياءَ يَنصُرونَهُم مِن دونِ اللَّهِ﴾ أي أنهم لن يجدوا أولياء ينصرونهم من دون الله ويدفعون عنهم عذابَ الله عز وجل.
﴿وَمَن يُضلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِن سَبيلٍ﴾ من يضله الله عز وجل فلن يجد طريقًا إلى الهداية
وذلك كما قال عز وجل: ﴿ فَلَمّا زاغوا أَزاغَ اللَّهُ قُلوبَهُم﴾ [الصف:5]
﴿ ٱسۡتَجِيبُواْ لِرَبِّكُم مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ يَوۡمٞ لَّا مَرَدَّ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِۚ مَا لَكُم مِّن مَّلۡجَإٖ يَوۡمَئِذٖ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٖ (47) فَإِنۡ أَعۡرَضُواْ فَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظًاۖ إِنۡ عَلَيۡكَ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُۗ وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِنَّا رَحۡمَةٗ فَرِحَ بِهَاۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةُۢ بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡ فَإِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ كَفُورٞ (48) لِّلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَٰثٗا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ (49) أَوۡ يُزَوِّجُهُمۡ ذُكۡرَانٗا وَإِنَٰثٗاۖ وَيَجۡعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيمًاۚ إِنَّهُۥ عَلِيمٞ قَدِيرٞ (50) ﴾
﴿استَجيبوا لِرَبِّكُم﴾ استجيبوا: هنا أُمِروا بالاستجابة لله عز وجل
﴿مِن قَبلِ أَن يَأتِيَ يَومٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ لا أحد يستطيع أن يرد هذا اليوم كما قال تعالى: ﴿أَزِفَتِ الآزِفَةُ – لَيسَ لَها مِن دونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ﴾ [النجم:57-58]
وهذا يدل على أن الاستجابة لله عز وجل تُنجي العبدَ من أهوال يوم القيامة
ولذا في ثنايا هذه السورة مدح الله عز وجل المؤمنين:
﴿وَالَّذينَ استَجابوا لِرَبِّهِم﴾ [الشورى:38].
قال هنا: ﴿ما لَكُم مِن مَلجَإٍ يَومَئِذٍ ﴾ ليس لكم ملجأ تلتجئون إليه وتهربون إليه
﴿يَومَئِذٍ ﴾ يوم القيامة
﴿وَما لَكُم مِن نَكيرٍ﴾ يعني من إنكار لذنوبكم فإنكم ترون عاقبتها ماثلة أمام أعينكم.
وأيضًا يدخل في ذلك أنه لن يجدوا أحدًا يدفع عنهم أهوالَ ما يكونُ في يوم القيامة.
﴿فَإِن أَعرَضوا﴾ فإن أعرض هؤلاء يا محمد ﴿ فَما أَرسَلناكَ عَلَيهِم حَفيظًا﴾ لتحفظ أعمالهم أو لتهديهم، إنما عليك البلاغ، فقال الله عز وجل: ﴿إِن عَلَيكَ إِلَّا البَلاغُ﴾ أي ما عليك إلا البلاغ.
﴿ وَإِنّا إِذا أَذَقنَا الإِنسانَ مِنّا رَحمَةً فَرِحَ بِها﴾ إذا أذقنا الإنسان رحمة من صحة
وعافية ورزق فرح بها.
﴿وَإِن تُصِبهُم سَيِّئَةٌ﴾ أي إذا أصابهم ما يسوؤهم من فقر ومن مرض وما شابه ذلك ﴿بِما قَدَّمَت أَيديهِم﴾ بسبب أعمالهم الخبيثة ﴿فَإِنَّ الإِنسانَ كَفورٌ﴾ يكفر نعمةَ الله عز وجل لما أنعم الله عليه عز وجل.
﴿لِلَّهِ مُلكُ السَّماواتِ وَالأَرضِ﴾ فله ملك السماوات والأرض من حيث التدبير
والمُلك والتصرف ﴿يَخلُقُ ما يَشاءُ﴾ حسب مشيئته عز وجل.
﴿ يَهَبُ لِمَن يَشاءُ إِناثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشاءُ الذُّكورَ﴾ بمعنى أنه يهب صنفًا من الناس يهبهم [أزواجًا] من الذكور والإناث، يعني يولد لهم الذكور والإناث
﴿وَيَجعَلُ مَن يَشاءُ عَقيمًا﴾ وهنا ذكرَ ما يتعلق بأحوال الناس من حيث الذكورية والأنوثية من أنهم على أربع حالات:
1- منهم من يلد البنات 2- ومنهم من يلد الذكور.
3- ومنهم من يلد الذكور والإناث 4- ومنهم من هو عقيم، وكل ذلك يدل على تدبيره وعلى تصرفه وأنه يخلق ما يشاء ولا اعتراض عليه عز وجل.
فقال هنا: ﴿يَهَبُ لِمَن يَشاءُ إِناثًا﴾ وقدّم الإناث هنا باعتبار أنهم يكرهون الإناث فبيّن هنا أن للإناث أيضًا فضيلة ولذلك قال تعالى: ﴿آباؤُكُم وَأَبناؤُكُم لا تَدرونَ أَيُّهُم أَقرَبُ لَكُم نَفعًا﴾ [النساء:11] فكم من بنتٍ تفوق عشرات الأولاد.
فقال الله عز وجل: ﴿يَهَبُ لِمَن يَشاءُ إِناثًا﴾ وأما ما قاله بعض المفسرين أن مَن بَكّر بأنثى -يعني أن أول مولود له أنثى- فإن رزقه يكونُ واسعًا، فإن هذا لا يصح عليه دليل من سنة النبي ﷺ.
﴿أَو يُزَوِّجُهُم ذُكرانًا وَإِناثًا﴾ لما قال: ﴿أَو يُزَوِّجُهُم﴾ يعني يجمعُ لهم ﴿ذُكرانًا وَإِناثًا﴾ قدّم الذكران ثم الإناث من باب التساوي لأنه لما قدّم الإناث قال هنا:
﴿أَو يُزَوِّجُهُم ذُكرانًا وَإِناثًا﴾.
﴿وَيَجعَلُ مَن يَشاءُ عَقيمًا إِنَّهُ عَليمٌ قَديرٌ﴾ فهو عليمٌ بأحوال خلقه وقدير عز وجل على كل شيء، ومن ثَم:
فإنه قادر عز وجل على أن يجعل هؤلاء على هذه الأحوال التي ذكرها عز وجل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿۞وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلَّا وَحۡيًا أَوۡ مِن وَرَآيِٕ حِجَابٍ أَوۡ يُرۡسِلَ رَسُولٗا فَيُوحِيَ بِإِذۡنِهِۦ مَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ عَلِيٌّ حَكِيمٞ (51) وَكَذَٰلِكَ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ رُوحٗا مِّنۡ أَمۡرِنَاۚ مَا كُنتَ تَدۡرِي مَا ٱلۡكِتَٰبُ وَلَا ٱلۡإِيمَٰنُ وَلَٰكِن جَعَلۡنَٰهُ نُورٗا نَّهۡدِي بِهِۦ مَن نَّشَآءُ مِنۡ عِبَادِنَاۚ وَإِنَّكَ لَتَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ (52) صِرَٰطِ ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ أَلَآ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلۡأُمُورُ (53)﴾
﴿وَما كانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ﴾ ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا بطريقة من هذه الطرق الثلاث: 1-﴿ إِلّا وَحيًا﴾ أي أنه يوحي إليه عن طريق إلهام أو عن طريق منام.
2-﴿ أَو مِن وَراءِ حِجابٍ ﴾ أي ساتر كما كلّم الله عز وجل موسى.
3-﴿ أَو يُرسِلَ رَسولًا ﴾ وذلك بأن يرسل جبريل عليه السلام إلى من يشاء الله عزوجل أن يوحى إليه.
ومن ثم فإن قوله تعالى: ﴿وَما كانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلّا وَحيًا﴾ كلمة ﴿ إِلّا وَحيًا﴾ تدل على أن ما أتى به بعض العلماء من بيان أن الحديث القدسي معناه من الله
وأن اللفظ من النبي ﷺ، تكونُ هذه الآية دليل على ذلك، لأنه يعني هذا المعنى يوحى إلى النبي: إما عن طريق الإلهام، وإما عن طريق المنام.
وأما ما ينكره بعض الناس من هذا التعريف فإنه لا وجه لهذا الإنكار، وعلى كل حال فالأمرُ في مثل هذا الأمر كما وضحنا.
فقال الله عز وجل: ﴿فَيوحِيَ بِإِذنِهِ ما يَشاءُ﴾ بإذن الله عز وجل يوحي إليه ما يشاء
﴿ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكيمٌ﴾ فله العلو: فله علو الذات، وعلو الصفة، وعلو القهر.
وهو حكيم عز وجل يختار من يشاء لهذا الوحي.
﴿وَكَذلِكَ أَوحَينا إِلَيكَ روحًا مِن أَمرِنا﴾ يعني مثل ما بينا في الآية السابقة طرق الوحي كذلك أوحينا إليك يا محمد روحًا من أمرنا، وتأمل في أول السورة:
﴿كَذلِكَ يوحي إِلَيكَ وَإِلَى الَّذينَ مِن قَبلِكَ اللَّهُ العَزيزُ الحَكيمُ﴾ [الشورى:3]
وهنا قال: ﴿وَكَذلِكَ أَوحَينا إِلَيكَ روحًا مِن أَمرِنا﴾ وسمى القرآن بأنه روح لأنه حياةٌ للأرواح وللقلوب.
﴿وَكَذلِكَ أَوحَينا إِلَيكَ روحًا مِن أَمرِنا﴾ قال من أمرنا؛ دلّ هذا على أن القرآن منزّل غير مخلوق وأنه كلام الله، ولذلك لم يقل: [وكذلك أوحينا إليك روحًا من خلقنا] ففرّق بين الخلق والأمر، كما في قوله تعالى: ﴿أَلا لَهُ الخَلقُ وَالأَمرُ﴾ [الأعراف:54]
وهذه الآية وأشباهُها يُردُّ على من قال من أن القرآن مخلوق.
فقال الله عز وجل هنا: ﴿ما كُنتَ تَدري﴾ يا محمد ﴿مَا الكِتابُ وَلَا الإيمانُ﴾ وهذه تفسر قولَه تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ ضالًّا فَهَدى﴾ [الضحى:7] فهذه تفسر تلك الآية التي في سورة الضحى، وتفسر قولَه تعالى كما في أول سورة يوسف: ﴿وَإِن كُنتَ مِن قَبلِهِ لَمِنَ الغافِلينَ﴾ [يوسف:3]
﴿ ما كُنتَ تَدري مَا الكِتابُ وَلَا الإيمانُ﴾ وجمع هنا بين القرآن وبين الإيمان، وهذا يدل على ما قاله بعضُ الصحابة كما صح عنهم: تعلمنا الإيمان -أولاً- ثم تعلمنا القرآن فازددنا عِلمًا.
دل هذا على أنه لما ذكر القرآن وذكر الإيمان أن هذا القرآن لا يكون نافعًا إلا -وهو نافع ولا شك في ذلك- لكن لا يكون نافعًا لعبد إلا إذا كان قلبُه مليئًا بالإيمان وبالعقيدة؛ فإنه إن كان قلبه مليئًا بالعقيدة وبالتوحيد أتى هذا القرآن فيزداد الإيمان كما قال الله عز وجل مبينًا ذلك.
لأن هذا الكتاب يزيدُ إيمانَ العبد على ما كان عليه من فطرة سابقة كما قال عز وجل: ﴿أَفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ وَيَتلوهُ شاهِدٌ مِنهُ﴾ [هود:73]
وكذلك كما قال عز وجل: ﴿ مَثَلُ نورِهِ كَمِشكاةٍ فيها مِصباحٌ المِصباحُ… ﴾ الآية إلى أن قال: ﴿ نورٌ عَلى نورٍ يَهدِي اللَّهُ لِنورِهِ مَن يَشاءُ﴾ [النور:35]
﴿ما كُنتَ تَدري مَا الكِتابُ وَلَا الإيمانُ وَلكِن جَعَلناهُ نورًا﴾ يعني هذا القرآن هو نور، وذلك لأنه نورٌ يستضيء به العبدُ المؤمن حتى يسلم من ظلمات الشرك والجهل والبدع والخرافات
﴿ نَهدي بِهِ مَن نَشاءُ مِن عِبادِنا﴾ وفي هذا رد على القدرية الذين يقولون إن العبد يخلق الهداية لنفسه.
واطمئن يا محمد ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهدي إِلى صِراطٍ مُستَقيمٍ﴾ يعني أنك تهدي هداية البيان والإرشاد، أما هداية التوفيق والإلهام فكما قال تعالى:
﴿إِنَّكَ لا تَهدي مَن أَحبَبتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهدي مَن يَشاءُ﴾ [القصص:56]
﴿ وَإِنَّكَ لَتَهدي إِلى صِراطٍ مُستَقيمٍ﴾ وهو الصراط الذي لا اعوجاج فيه ولذلك وضحه:
﴿صِراطِ اللَّهِ ﴾ أضاف اللهُ الصراطَ إلى نفْسِه عز وجل تعظيمًا لهذا الصراط ﴿صِراطِ اللَّهِ﴾ ولذلك في سورة الفاتحة: ﴿اهدِنَا الصِّراطَ المُستَقيمَ – صِراطَ الَّذينَ أَنعَمتَ عَلَيهِم﴾
[الفاتحة:6-7] أضاف الصراط إلى الذين أنعمَ اللهُ عليهم لأنهم هم الذين سلكوه، وأضاف الصراط هنا إلى نفسِه لأنه هو الذي أمَر بذلك.
﴿ صِراطِ اللَّهِ الَّذي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرضِ﴾ فيجب أن يُعبد عز وجل وحده ولذلك قال: ﴿ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصيرُ الأُمورُ﴾ تعودُ وترجع الأمور إلى الله عز وجل، ففي يوم القيامة يحاسِب كل إنسان بما عمل كما قال تعالى:
﴿ وَالأَمرُ يَومَئِذٍ لِلَّهِ﴾ [الانفطار:19].
وبهذا ينتهي تفسيرُ سورة الشورى.