تفسير سورة الصافات من الآية ( 75 ) إلى ( آخر السورة ) الدرس (216 )

تفسير سورة الصافات من الآية ( 75 ) إلى ( آخر السورة ) الدرس (216 )

مشاهدات: 503

بسم الله الرحمن الرحيم

الشيخ زيد البحري تفسير سورة الصافات من الآية (75) إلى ( آخر السورة) الدرس (216)

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد:

﴿وَلَقَدۡ نَادَىٰنَا نُوحٞ فَلَنِعۡمَ ٱلۡمُجِيبُونَ (75)وَنَجَّيۡنَٰهُ وَأَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلۡكَرۡبِ ٱلۡعَظِيمِ (76) وَجَعَلۡنَا ذُرِّيَّتَهُۥ هُمُ ٱلۡبَاقِينَ (77) وَتَرَكۡنَا عَلَيۡهِ فِي ٱلۡأٓخِرِينَ (78) سَلَٰمٌ عَلَىٰ نُوحٖ فِي ٱلۡعَٰلَمِينَ (79) إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ (80) إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُؤۡمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغۡرَقۡنَا ٱلۡأٓخَرِينَ (82)﴾

فكنا قد توقفنا عند قول الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ﴾ لما ذكر الله ﷻ حال كفار قريش مع إعراضهم في شأن النبي ﷺ ذكر الله ﷻ بعض الأنبياء من باب التسلية للنبي ﷺ، فذكر أولهم وهو نوح عليه السلام ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ﴾ فأثنى الله ﷻ على نفسه إذ أجاب نوحاً، ولذا قال عز وجل: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾ [القمر:10]. ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾

فنجاه الله ﷻ من الكرب العظيم كما قال تعالى: ﴿وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ [الأنبياء:77]. ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ﴾ وذلك بعد أن نجاه الله ﷻ لم يبق ممن نجاهم الله ﷻ إلا ذرية نوح عليه السلام، ولذلك قال الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ [الحديد:26]. فما من نبي يأتي إلا وهو من سلالة نوح ومن سلالة إبراهيم عليهما السلام.

﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ﴾ تركنا عليه في الأمم التي تأتي بعده ثناءً عطراً ﴿سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ﴾ أي: نوح عليه السلام يُسلم عليه في العالمين ممن سيأتي بعده فمتى ما ذُكر، ذُكر بعده عليه السلام فيقال نوح عليه السلام، وأيضًا هو قد سلمه الله ﷻ من كيد أعدائه.

﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ كما جزينا نوحاً فكذلك نجزي كل محسن، وهذا يدل على أهمية الإحسان ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ﴾ فهو محسن وهو مؤمن ﴿ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ﴾ كما ذكر الله ﷻ حال إغراق قومه في سورة هود، وفي غيرها من السور.

 

﴿وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِۦ لَإِبۡرَٰهِيمَ (83) إِذۡ جَآءَ رَبَّهُۥ بِقَلۡبٖ سَلِيمٍ (84) إِذۡ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوۡمِهِۦ مَاذَا تَعۡبُدُونَ (85) أَئِفۡكًا ءَالِهَةٗ دُونَ ٱللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظۡرَةٗ فِي ٱلنُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٞ (89) فَتَوَلَّوۡاْ عَنۡهُ مُدۡبِرِين(90) فَرَاغَ إِلَىٰٓ ءَالِهَتِهِمۡ فَقَالَ أَلَا تَأۡكُلُونَ (91) مَا لَكُمۡ لَا تَنطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيۡهِمۡ ضَرۡبَۢا بِٱلۡيَمِينِ (93) فَأَقۡبَلُوٓاْ إِلَيۡهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعۡبُدُونَ مَا تَنۡحِتُونَ (95) وَٱللَّهُ خَلَقَكُمۡ وَمَا تَعۡمَلُونَ (96) قَالُواْ ٱبۡنُواْ لَهُۥ بُنۡيَٰنٗا فَأَلۡقُوهُ فِي ٱلۡجَحِيمِ (97) فَأَرَادُواْ بِهِۦ كَيۡدٗا فَجَعَلۡنَٰهُمُ ٱلۡأَسۡفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهۡدِينِ (99) رَبِّ هَبۡ لِي مِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ (100) فَبَشَّرۡنَٰهُ بِغُلَٰمٍ حَلِيمٖ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعۡيَ قَالَ يَٰبُنَيَّ إِنِّيٓ أَرَىٰ فِي ٱلۡمَنَامِ أَنِّيٓ أَذۡبَحُكَ فَٱنظُرۡ مَاذَا تَرَىٰۚ قَالَ يَٰٓأَبَتِ ٱفۡعَلۡ مَا تُؤۡمَرُۖ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّٰبِرِينَ (102) فَلَمَّآ أَسۡلَمَا وَتَلَّهُۥ لِلۡجَبِينِ (103) وَنَٰدَيۡنَٰهُ أَن يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُ (104) قَدۡ صَدَّقۡتَ ٱلرُّءۡيَآۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ (105) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلۡبَلَٰٓؤُاْ ٱلۡمُبِينُ (106) وَفَدَيۡنَٰهُ بِذِبۡحٍ عَظِيمٖ (107) وَتَرَكۡنَا عَلَيۡهِ فِي ٱلۡأٓخِرِينَ (108) سَلَٰمٌ عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ (109) كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ (110) إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُؤۡمِنِينَ (111) وَبَشَّرۡنَٰهُ بِإِسۡحَٰقَ نَبِيّٗا مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ (112) وَبَٰرَكۡنَا عَلَيۡهِ وَعَلَىٰٓ إِسۡحَٰقَۚ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحۡسِنٞ وَظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ مُبِينٞ(113)﴾

﴿وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ﴾ أي: أتى بعده، وكان بعد نوحٍ عليه السلام هود وصالح كما بَينا ذلك في سورة الأعراف، فهما قبل إبراهيم ﴿وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ﴾ أي: ممن شايعه على طريق الحق وسار على طريقة نوح ﴿إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ يعني أن إبراهيم عليه السلام أتى إلى الله ﷻ مقبلاً، ولذلك أتى بالفعل ﴿جاء﴾ مما يدل على الإقبال التام والحرص منه عليه السلام على طاعة الله ﷻ وعلى توحيده، ولذلك قال الله ﷻ كما في سورة الشعراء: ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء:88-89].

﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ﴾ لما أتى وهو سليم القلب، سليم من الشرك وأيضًا هو مُقبل على الله ﷻ نصح قومه، وفي سورة الشعراء: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ﴾ [الشعراء:70]. لم يقل: ماذا تعبدون؟ لأن السؤال هنا كان عن الآلهة التي كانوا يعبدونها، أما هنا فيسألهم وهو يعرف ذلك، ولذلك أكد الاستفهام باستفهامٍ آخر يدل على الإنكار، فإنه لما قال: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ﴾ أكد ذلك ﴿أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ﴾ أي أن تلك الآلهة التي أردتموها إنما هي إفكٌ افتريتموه، ولذلك قال الله ﷻ عنهم: ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾ [العنكبوت:17].

﴿فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أتظنون أن الله ﷻ لا يعاقبكم مع أنكم أشركتم به عز وجل.

﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ﴾ من باب التأمل لقدرة الله عز وجل، وعظيم صنعه، وهنا أراد بهذا النظر التفكر في خلق الله ﷻ، لكن فيه تورية لأنه لما أبصر إلى السماء ظنوا أنه يتوجه إلى ما كانوا يعبدونه من النجوم، وذلك لما دعوه إلى أن يذهب معهم إلى عيدٍ لهم تعذر ﴿فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ﴾ إني مريض.

قال بعض المفسرين: ﴿إني سقيم﴾ سأسقم في المستقبل، أي سيصيبني المرض في المستقبل، لكن الأظهر من قوله: ﴿إني سقيم﴾ إني مريض وعليل من عبادتكم لهذه الآلهة من دون الله عز وجل، ولذلك قال الله عز وجل: ﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ﴾ [الأنبياء:63] فذكرنا هناك تلك الكذبات التي حصلت من إبراهيم عليه السلام وكانت من باب التورية.

﴿فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ﴾ أعرضوا عنه مدبرين إلى عيدهم. ﴿فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ﴾ أي أنه انسل بسرعة ﴿ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ﴾ خاطبها من باب التبكيت والتحقير لها لأنها لا تسمع ولا تفهم، لكن من باب التحقير لها والتحقير لأصحابها، وكانوا يضعون عندها الأطعمة ﴿مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ﴾ يدل هذا على أن قومه عبدوا من لا يتكلم، ولذلك قال إبراهيم كما ذكر الله ﷻ لما قال لأبيه: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾[مريم:41-42].

فقال الله ﷻ عن إبراهيم: ﴿فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ﴾ يعني بيده اليمنى حتى كسّرها، ولذلك قال الله عز وجل: ﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ﴾ [الأنبياء:58].

ويصح أيضًا قول من يقول أنه أقسم بالله ﷻ، فإن اليمين هنا معناها القسم، فكما أن معناها القوة أيضًا معناها القسم، لأنه قال: ﴿وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ﴾ [الأنبياء:57] ولا تعارض بين القولين فهو أقسم وأيضًا ضربها بقوة.

﴿فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ﴾ أقبل قومه إليه يسرعون، فإن إقبالهم هذا إليه بعد أن سألوا ﴿قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ﴾ [الأنبياء:59-61].

لكن هنا قال: ﴿قَالَ أَتَعْبُدُونَ﴾ استفهام إنكاري ﴿أتعبدون ما تنحتون﴾ أي: ما تنحتونه من الأحجار والأشجار ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ يعني والله خلقكم وعملكم لأن ﴿ما﴾ هنا مصدرية، وأيضًا يصح أن تكون كما قيل إنها موصولة (والله خلقكم والذي تعملون) وإن كانت المصدرية أظهر.

على كل حال: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ هذا يُبينه قول النبي ﷺ كما ثبت عنه: “إنَّ اللَّهَ يَصنعُ كلَّ صانعٍ وصنعتَهُ”.

﴿قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا﴾ أي: بنيانًا مرتفعا ﴿فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ﴾ فألقوه في الجحيم، وذلك أنهم أشعلوا ناراً تلك النار كانت في بنيان جمعوا فيه الحطب ثم أوقدوا النار، ولذلك لما أنكر عليهم ﴿قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ * قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾[الأنبياء:66-69].

فقال الله ﷻ عنهم: ﴿فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ﴾ أرادوا به الكيد وأرادوا به القتل والإهلاك، فكانت العاقبة أنهم في السفل مقهورون، وفي سورة الأنبياء: ﴿وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ﴾ [الأنبياء:70]. وبَينا أن عاقبتهم إلى خسران إذ خسروا ما عملوه، وأيضًا كانت النهاية أنهم في سُفلٍ وفي قهرٍ وفي ذلٍ، كما قال هنا.

﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ ذاهب إلى ربي إذ أمرني بالتوجه من العراق إلى الشام، قال تعالى: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:71]. وهذا فيه تفويض الأمر إلى الله عز وجل، لأن الله ﷻ سيهديه فيما يتعلق بدنياه وما يتعلق بدينه.

﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ رب هب لي غلامًا من الصالحين، ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ﴾ وهذا الغلام هو إسماعيل على الصحيح فالذبيح هو إسماعيل، ولذلك وُصف هنا أنه حليم لأنه سيُبتلى، لكن إسحاق وُصف بأنه عليم وليُعلم، وقد بَينت ذلك في موطن آخر بأدلة كثيرة من أن الصحيح: أن الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق، من الأدلة: أنه دعا ربه أن يرزقه الغلام، قبل أن يهاجر من العراق إلى الشام، بينما البشارة له بإسحاق لما انتقل إلى الشام وأتت الملائكة تُبشره وتُبشر زوجته ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾ [هود:71].

لأن الملائكة أتت لتبشيره وأتت بهلاك قوم لوط، وإنما ذلك بعد الهجرة.

 

فدل هذا على أن هذا الولد المولود سيكبر ففيه تبشير لهم أنه سيبقى بعد ذلك بعد ولادته ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ﴾ بلغ هذا الغلام السعي معه بحيث يمشي وينطلق معه.

﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ﴾ وقد اختلف المفسرون في تحديد الزمن، لكن ليس المقصود من ذلك الزمن، المهم: أنه لما نشأ وترعرع هنا كما قال عز وجل: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى﴾ خاطبه قال: ﴿يا بني﴾ من باب التلطف مع أن أمر الله ﷻ سينفذه إبراهيم عليه السلام، لكنه عرض الأمر على ابنه إسماعيل من باب التودد والتلطف، ومن باب بيان إظهار منزلة إسماعيل، كما قال عز وجل: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ﴾ [مريم:54]. ومن صدقه للوعد كما ذكر الله ﷻ هنا.

﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾ ورؤيا الأنبياء وحي ﴿فَانظُرْ مَاذَا تَرَى﴾ لم يقل: فانظر ماذا تحب قال: ﴿فانظر ماذا ترى﴾ لأنه لا يحب أن يموت ﴿قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ ولم يقل: افعل ما تحب ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ وهنا علق الأمر بمشيئة الله ففيه تفويض الأمر إلى الله ﷻ، بأنه سيصبر لمشيئة الله عز وجل، وهذا يدل على أن الذبيح إسماعيل لأن إسحاق بُشر به لما بُشر به ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾[هود:71]. لو كان إسحاق فإسحاق سيولد من نسله يعقوب فكيف يؤمر بذبحه!

فقال هنا: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا﴾ يعني: انقادا لأمر الله ﷻ ﴿وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ والإنسان له جبينان: بينهما الجبهة، والجبين من اليمين إلى اليسار من الأذنان.

وقال: ﴿وتله﴾ يعني أنه وضعه كما يوضع الإنسان على التل و هو الرمل المرتفع، ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾ سبحان الله مع أنه لم يفعل لكن لما عزم على الفعل كأنه تحقق هذا الأمر منه.

فقال الله عز وجل: ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ﴾ ولذلك بعض المفسرين قال: الواو هنا زائدة، لأن الجواب: ﴿نَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾ مع أنه لم يفعل ذلك لكن لما عزم فكأنه فعل.

﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ إنا كما جزيناك نجزي كل محسن.

﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ﴾ ولا شك أنه بلاءٌ مبينٌ واضح كيف يُقدم الإنسان على قتل ابنه.

﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ أي: بمذبوح عظيم لأنه من عند الله عز وجل، ولذلك شرع الله ﷻ الضحايا فهي من سُنن إبراهيم عليه السلام، وكذلك من سُنة النبي ﷺ، ولذلك ابن عباس رضي الله عنهما أفتى أن من نذر أنه سيذبح ابنه عليه أن يذبح شاةً.

﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ﴾ أي على إبراهيم ثناءً ﴿فِي الآخِرِينَ﴾ في الأمم التي تأتي بعده ﴿سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ ففيه سلامٌ على إبراهيم، وهذا سلامٌ يدل على عظيم منزلة إبراهيم عليه السلام.

﴿كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ يعني كما جزينا إبراهيم نجزي المحسنين. ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ﴾ فآمنوا بقضاء الله ﷻ وبقدره، وآمنوا بكل ما أمر الله ﷻ به.

﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ وهذا يدل على أن الأول المذكور هو إسماعيل، لأنه لو كان الذبيح هو المُبشر به لم تكن هناك بشرى قال: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ﴾ ثم قال: ﴿نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ أيضًا مع ذلك فهو نبي، وهذا يدل على أن إسحاق إنما بُشر به بعد أن هاجر من العراق إلى الشام، ولو قال قائل: كيف يذبح إبراهيم إسماعيل وقد وضعه هو وأمه في مكة؟

فالجواب عن ذلك: لا مانع أن إبراهيم لما بلغ إسماعيل السعي أنه ذهب من أجل أن ينفذ أمر الله عز وجل، بل جاء في المسند من طُرق لعلي بعضها يقوي بعضاً: أن الشيطان لما أراد إبراهيم أن يذبح ابنه إسماعيل اعترض له عند الجمرات فرماه بسبع حصيات، والمعلوم أن الجمرات في مكة.

ولذلك حتى في التوراة أن الذبيح هو البِكر، ولذلك جاء في التوراة: (اذبح بكرك اذبح بكرك) لكن اليهود ماذا صنعت؟ حذفت هذا فجعلت البكر هو إسحاق، وقد فصل في ذلك شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم رحمهما الله، وقد بَينت ذلك في موطن غير هذا الموطن.

﴿وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ﴾ بارك الله ﷻ عليهما، ولذلك قال عز وجل ﴿رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ [هود:73]. فبركاته ﷻ الدينية والدنيوية أسبغها على إبراهيم وعلى إسحاق، ﴿ذُرِّيَّتِهِمَا﴾ (إبراهيم وإسحاق) ﴿مُحْسِنٌ﴾ ممن أحسن وعبد الله ﴿وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ يعني: من ظلم لنفسه وضلاله ضلالٌ مبين، وهذا يدل على أن من سلالة إبراهيم ومن سلالة إسحاق من هو ظالمٌ لنفسه مبين.

﴿وَلَقَدۡ مَنَنَّا عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَٰرُونَ (114)وَنَجَّيۡنَٰهُمَا وَقَوۡمَهُمَا مِنَ ٱلۡكَرۡبِ ٱلۡعَظِيمِ (115) وَنَصَرۡنَٰهُمۡ فَكَانُواْ هُمُ ٱلۡغَٰلِبِينَ (116) وَءَاتَيۡنَٰهُمَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلۡمُسۡتَبِينَ (117) وَهَدَيۡنَٰهُمَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ (118) وَتَرَكۡنَا عَلَيۡهِمَا فِي ٱلۡأٓخِرِينَ (119) سَلَٰمٌ عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَٰرُونَ (120) إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُؤۡمِنِينَ (122)﴾

﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ﴾ وهذا أيضًا فيه تسلية للنبي ﷺ فاذكر حال موسى وهارون، مَنَّ الله ﷻ عليهما بالرسالة وبالمعجزات، ﴿وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ وهو الأمر العظيم الذي بلغ نهايته في الغم والهم، وذلك ما جرى مما ذكره الله ﷻ في سورة ﴿الشعراء﴾ إذ نجاه الله ﷻ من فرعون ﴿وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ﴾ لما أغرق الله ﷻ فرعون، ﴿وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ﴾ وهو التوراة، المستبين الواضح من حيث الحجج، وهذا يدل على أنه بعد أن نصرهم الله عز وجل وبعد أن أغرق فرعون أنزل الله عليه التوراة ﴿وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ﴾، ولذلك قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [القصص:43].

فقال الله عز وجل: ﴿وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ وهو صراط الله ﷻ الذي لا اعوجاج فيه، ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ﴾ يعني من حيث ثناء من يأتي بعدهما. ﴿سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ﴾ فهما لا يُذكران في الأمم التي تأتي بعدهما إلا ويُسلمون عليهما، وهذا فيه أمرٌ أيضا بالسلام على هؤلاء الأنبياء، وفيه أيضًا بيان سلامة الله ﷻ لهما من أعدائهما ومن كيد أعدائهما.

﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ أي كما جزيناهم نجزي كل محسن، وتأمل السورة هنا ذكرت المحسنين، فدل هذا على فضيلة الإحسان ﴿إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ﴾ فهما مع أنهما مؤمنان إلا فهما أيضا بلغا الدرجة العالية في الإحسان أحسنا في طاعة الله عز وجل، وأحسنا فيما يتعلق بحقوق المخلوقين.

﴿وَإِنَّ إِلۡيَاسَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ (123) إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦٓ أَلَا تَتَّقُونَ (124)أَتَدۡعُونَ بَعۡلٗا وَتَذَرُونَ أَحۡسَنَ ٱلۡخَٰلِقِينَ (125) ٱللَّهَ رَبَّكُمۡ وَرَبَّ ءَابَآئِكُمُ ٱلۡأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمۡ لَمُحۡضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلۡمُخۡلَصِينَ (128) وَتَرَكۡنَا عَلَيۡهِ فِي ٱلۡأٓخِرِينَ (129)سَلَٰمٌ عَلَىٰٓ إِلۡ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ (131)إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُؤۡمِنِينَ(132)﴾

﴿وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ هنا دل هذا على أن إلياس من الأنبياء المرسلين، ﴿إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ﴾ أمرهم بتقوى الله عز وجل، وأتى بالاستفهام للإنكار عليهم ﴿أَتَدْعُونَ بَعْلًا﴾ البعل هو الصنم الذي كانوا يعبدون ﴿وَتَذَرُونَ﴾ يعني: تتركون ﴿أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ﴾ فكيف تعبدون هذا الصنم؟ ﴿اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ﴾ هنا بدل يعني أحسن الخالقين من هو؟ ﴿الله ربكم﴾ فقدم اسم ﴿الله﴾ مما يدل على أن المألوه الذي يستحق العبودية هو الله، لأنه هو ربكم ورب آبائكم الأولين ﴿اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ﴾ فهي بدل ولذلك نُصبت باعتبار أن أحسن الخالقين منصوبة ﴿ فَكَذَّبُوهُ﴾ مع تلك النصيحة ﴿ُفَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ لمحضرون في العذاب ﴿إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ الذين أخلصهم الله ﷻ، فإنهم ناجون من عذاب الله ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ﴾ من حيث الثناء عليه في الآخرين ﴿سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ﴾ وهنا سلام أيضًا عليه كما سلم الله ﷻ على الأنبياء السابقين المذكورين في هذه السورة ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ﴾ ومر تفسيرهما في الآيات السابقات.

﴿وَإِنَّ لُوطٗا لَّمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ(133) إِذۡ نَجَّيۡنَٰهُ وَأَهۡلَهُۥٓ أَجۡمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزٗا فِي ٱلۡغَٰبِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرۡنَا ٱلۡأٓخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمۡ لَتَمُرُّونَ عَلَيۡهِم مُّصۡبِحِينَ (137) وَبِٱلَّيۡلِۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ (138)﴾

﴿وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ يعني يا محمد كما كذبك قومك تسلَّ بحال هؤلاء الأنبياء ومن بينهم لوط عليه السلام، هو رسول مثلك ﴿إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ﴾

يعني أنه نجاه ونجا أهله إلا زوجته التي بقيت من الغابرين بقيت من الباقين في العذاب، كما بَين الله ﷻ ذلك في مواطن متعددة من كتابه عز وجل، فقال عز وجل: ﴿ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ﴾ وذلك بأن أرسل الله ﷻ عليهم الحجارة ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ﴾ [هود:82].

فقال الله عز وجل: ﴿وَإِنَّكُمْ﴾ يا كفار قريش ﴿لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ﴾ تمرون عليهم إذا دخل وقت الصباح وإذا دخل وقت المساء، تمرون عليهم إذا ذهبتم بتجارتكم إلى الشام فترون ديارهم ﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ فأين عقولكم؟ أفلا تعتبرون؟

 

﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ (139)إِذۡ أَبَقَ إِلَى ٱلۡفُلۡكِ ٱلۡمَشۡحُونِ (140)فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ ٱلۡمُدۡحَضِينَ (141) فَٱلۡتَقَمَهُ ٱلۡحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٞ (142) فَلَوۡلَآ أَنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلۡمُسَبِّحِينَ (143)لَلَبِثَ فِي بَطۡنِهِۦٓ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ (144) ۞ فَنَبَذۡنَٰهُ بِٱلۡعَرَآءِ وَهُوَ سَقِيمٞ (145) وَأَنۢبَتۡنَا عَلَيۡهِ شَجَرَةٗ مِّن يَقۡطِينٖ (146) وَأَرۡسَلۡنَٰهُ إِلَىٰ مِاْئَةِ أَلۡفٍ أَوۡ يَزِيدُونَ (147)فَـَٔامَنُواْ فَمَتَّعۡنَٰهُمۡ إِلَىٰ حِينٖ (148)﴾

﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ يونس عليه السلام أيضًا من المرسلين فتسلَّ بحاله مع قومه، ﴿إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ يعني: هرب إلى الفلك المشحون أي المملوء، المملوء من الناس ومن البضائع، وهذا يدل على ما ذكره بعض المفسرين أنه خرج من ديار قومه لما لم يؤمنوا به دون أن يأذن الله له، ولعل ما قالوه هنا توضحه كلمة: ﴿أبق﴾ تدل على العبدٌ الذي خرج من غير إذن سيده.

﴿فَسَاهَمَ﴾ يعني: أن هذا الفلك السفينة كادت أن تغرق، فقالوا: لابد أن نخفف من حملها، أو أن هناك عبدًا هرب من سيده كما جاء بذلك الأثر ولعل هذا هو الأقرب، فقالوا إذًا لنقترع بمعنى القرعة، وقد مر معنا مشروعية القرعة والحديث عنها في سورة آل عمران ﴿إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ [آل عمران:44] ووضحنا الحديث عن القرعة وعن مشروعيتها.

فقال الله ﷻ هنا: ﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾ يعني: كان من المغلوبين فوقع السهم عليه.

إذًا العاقبة أنه يُرمى في البحر ﴿ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ﴾ ابتلعه الحوت ﴿وَهُوَ مُلِيمٌ﴾ أي آتٍ بما يُلام عليه، إذ لم يستأذن من ربه عز وجل، ﴿فَلَوْلا أَنَّهُ﴾ يعني: يونس ﴿فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ﴾ أي: يسبحون الله، وقيل: من المصلين.

﴿فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ﴾ قال بعض المفسرين: فلولا أنه كان من المسبحين قبل حصول هذا الأمر، لقول النبي ﷺ كما ثبت عنه: “ تعرَّفْ إلى اللهِ في الرخاءِ يعرفُك في الشدَّةِ ” وقيل: إن التسبيح هنا إنما هو في بطن الحوت، وعلى كل حال لا تعارض بينهما.

ولذلك قال تعالى ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء:87-88]. وأيضًا يدل فيما ذكره الله ﷻ في هذه الآية: أن المقصود من التسبيح هو التسبيح المعروف، ولا مانع من دخول الصلاة في ذلك.

﴿لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ﴾ للبث ومكث في بطن الحوت ﴿إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ﴾ يعني بالمكان الخالي في الصحراء ﴿وَهُوَ سَقِيمٌ﴾ مريض عليل من وجوده في بطن الحوت.

ولذلك قال الله عز وجل: ﴿لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ﴾ [القلم:49]. فما هو الجمع بينهما؟ الجمع بينهما: لولا أن نعمة الله تداركت يونس لنبذ بالعراء وهو مذموم، لكن الله ﷻ نبذه بالعراء غير مذموم ﴿لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ﴾ [القلم:49] وهنا قال: ﴿فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ﴾.

﴿وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ﴾ قالوا: إن الشجر هنا هو الذي لا ساق له مما يُظلل الإنسان، وأكثر المفسرين على أنه هو القرع. فقال عز وجل: ﴿وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ﴾ لتظلله ولعله أن يأكل منها.

﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ \ نحن أرسلناهم إلى مئة ألف فهم لا ينقصون عن مئة ألف لكن قد يزيدون.

ولذلك كلمة ﴿أو﴾ هنا الحديث عنها واختلاف العلماء فيها تحدثت عنها في سورة [البقرة] كما قال عز وجل: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة:74].

فقوله عز وجل: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ بعض العلماء يقول: بل يزيدون، لكن الصحيح الذي نُرجحه أنه أُرسل إلى مئة ألف فإنهم لا ينقصون عن مئة ألف ولربما يزيدون.

﴿فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ فمتعناهم إلى وقت آجالهم، وهل هؤلاء قومه الذين خرج منهم؟ أم أنهم قومٌ آخرون؟ قولان لأهل العلم، ولذلك قال تعالى ﴿إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ [يونس:98] وعلى كل حال هو أرسله الله ﷻ إما إلى قومه وإما إلى آخرين.

 

﴿فَٱسۡتَفۡتِهِمۡ أَلِرَبِّكَ ٱلۡبَنَاتُ وَلَهُمُ ٱلۡبَنُونَ (149) أَمۡ خَلَقۡنَا ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ إِنَٰثٗا وَهُمۡ شَٰهِدُونَ (150) أَلَآ إِنَّهُم مِّنۡ إِفۡكِهِمۡ لَيَقُولُونَ (151)وَلَدَ ٱللَّهُ وَإِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ (152) أَصۡطَفَى ٱلۡبَنَاتِ عَلَى ٱلۡبَنِينَ (153) مَا لَكُمۡ كَيۡفَ تَحۡكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمۡ لَكُمۡ سُلۡطَٰنٞ مُّبِينٞ (156)فَأۡتُواْ بِكِتَٰبِكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ (157)وَجَعَلُواْ بَيۡنَهُۥ وَبَيۡنَ ٱلۡجِنَّةِ نَسَبٗاۚ وَلَقَدۡ عَلِمَتِ ٱلۡجِنَّةُ إِنَّهُمۡ لَمُحۡضَرُونَ (158) سُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلۡمُخۡلَصِينَ(160)﴾

فقال الله عز وجل: ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ﴾ يا محمد استفتِ هؤلاء كفار قريش واستخبر عن حالهم مع بيان هذه الأدلة الواضحة ﴿أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ﴾ هذا استفهام إنكاري، فهو ﷻ لا ولد له لا من بنت ولا من ابن، لكن كيف لهؤلاء أن يجعلوا ما هو أقل وهو دون لا يرضون بذلك لأنفسهم ولا يرضون بالبنات، بل إنهم يقتلون البنات كيف يجعلونها لله عز وجل.

﴿أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ﴾ هل شهدوا خلق الملائكة حتى يحكموا على الملائكة أنهم إناث وأنهم بنات الله عز وجل، ﴿أَلا إِنَّهُمْ﴾ وهذا للتأكيد ﴿ألا﴾ للتنبيه ﴿إن﴾ أيضًا للتأكيد ﴿مِنْ إِفْكِهِمْ﴾ أي من أشد الكذب عند هؤلاء ﴿لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ كما قال ﷻ في سورة المؤمنون ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ﴾ [المؤمنون: 90-91].

﴿أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ﴾ هذا إفك عظيم من هؤلاء ﴿أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ﴾ تعالى الله عن ذلك ﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ ما هذا الحكم الذي حكمتموه على الله ﷻ ﴿أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ أين تذكركم؟ ﴿أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ﴾ هل لكم حجة واضحة على ما قلتموه، إن كان لكم ﴿فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ لتأتوا بالكتاب الذي تجدون فيه هذا الأمر إن كنتم صادقين، بل إنكم كذبة.

﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا﴾ جعلوا بين الله وبين الجِنّة نسباَ، الجِنّة هنا الملائكة لأنهم سموا: جِنّة باعتبار أنهم مستترون، لأن الجِنّ هو الاستتار باعتبار أنهم مختفون عن الناس، وبعض المفسرين قال: ﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا﴾ بمعنى: أنه تزوج. وتعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا أن الله تزوج من إناث الجِنّ فولدت الملائكة، فكان النسب هنا بمعنى الصهر.

وعلى كل حال هنا السياق يدل على الملائكة ﴿وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ في عذاب الله عز وجل، ولذلك قال الله ﷻ عن الملائكة ﴿مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ﴾ [الفرقان:18]. وقال ﷻ عن الملائكة ﴿بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾ [سبأ:41].

فقال الله عز وجل: ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ﴾ تنزيه لله ﷻ عما لا يليق به ﴿عَمَّا يَصِفُونَ﴾ من هذا الكذب العظيم.

 

﴿إِلَّا عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلۡمُخۡلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمۡ وَمَا تَعۡبُدُونَ (161) مَآ أَنتُمۡ عَلَيۡهِ بِفَٰتِنِينَ (162) إِلَّا مَنۡ هُوَ صَالِ ٱلۡجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّآ إِلَّا لَهُۥ مَقَامٞ مَّعۡلُومٞ (164) وَإِنَّا لَنَحۡنُ ٱلصَّآفُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحۡنُ ٱلۡمُسَبِّحُونَ (166) وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ (167) لَوۡ أَنَّ عِندَنَا ذِكۡرٗا مِّنَ ٱلۡأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلۡمُخۡلَصِينَ (169) فَكَفَرُواْ بِهِۦۖ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ(170)﴾

﴿إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ أي أنهم يُنزهون الله ﷻ ولا ينسبون له كحال هؤلاء، وأيضًا يصدق عليه قول من يقول إنهم لم يحضرون إلى النار.

﴿فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ يعني على الله ﴿بِفَاتِنِينَ﴾ أي: أنكم تفتنون عباد الله ﷻ الذين أراد لهم الهداية، كما تقول لشخصٍ: فلانٌ فتن العبد على سيده. يعني: أنه أفسد عبده على سيده، ﴿إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ﴾ ممن قدر الله عليه أنه سيكون من أهل النار فجعل الله لكم عليه وسيلةً.

﴿وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ﴾ هذا يدل على أن السياق عن الملائكة، ﴿وما منا﴾ الملائكة، ﴿إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ﴾ من حيث العبادة، ولذلك في الحديث الذي لا بأس به: “ أطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئط، إِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَوْضِعُ قَدَم إِلَّا وَعَلَيْهِ مَلَكٌ قَائِمٌ أَوْ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ”.

﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ﴾ عند الله للعبادة، وهذا يؤكد أن القسم في أول السورة ﴿والصافات صفاً﴾ المقصود: الملائكة على أرجح الأقوال.

﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ﴾ المنزهون لله ﷻ عما لا يليق بجلاله مما يقوله هؤلاء.

﴿وَإِنْ كَانُوا﴾ كفار قريش ﴿لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأَوَّلِينَ﴾ كالتوراة والإنجيل ﴿لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * فَكَفَرُوا بِهِ﴾ أتاهم هذا القرآن الذي هو أعظم الكتب ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ عاقبة هذا التكذيب، ولذلك قال تعالى في سورة فاطر ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ﴾ [فاطر:42-43]. وقال تعالى ﴿أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ﴾ [الأنعام:157].

 

﴿وَلَقَدۡ سَبَقَتۡ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلۡمُرۡسَلِينَ (171) إِنَّهُمۡ لَهُمُ ٱلۡمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلۡغَٰلِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنۡهُمۡ حَتَّىٰ حِينٖ (174) وَأَبۡصِرۡهُمۡ فَسَوۡفَ يُبۡصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسۡتَعۡجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمۡ فَسَآءَ صَبَاحُ ٱلۡمُنذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنۡهُمۡ حَتَّىٰ حِينٖ (178) وَأَبۡصِرۡ فَسَوۡفَ يُبۡصِرُونَ (179) سُبۡحَٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَٰمٌ عَلَى ٱلۡمُرۡسَلِينَ (181) وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ (182)﴾

﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ﴾ سبقت كلمة الله ﷻ لعباده المرسلين أن النصر لهم، فكذلك النصر لك يا محمد ﴿إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ﴾ من حيث السيف ومن حيث الحجة.

﴿وإن جندنا﴾: ممن ينصر دين الله ﷻ فإن الله سيجعل له الغلبة فيما يتعلق بالحجج وفيما يتعلق بالقتال في المعركة، ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ يعني أعرض عنهم يا محمد ولا تلتفت إلى هؤلاء، فإن هؤلاء لا يريدون الهداية ﴿حَتَّى حِين ٍ﴾ حين نزول العذاب، ﴿وأبصرهم﴾ أبصرهم حينما ينزل بهم العذاب فسوف يبصرون ما كانوا يستعجلونه من هذا العذاب.

﴿أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ﴾ فدل هذا على الإنكار، وكيف يستعجلون عذاب الله !، ولذلك قال تعالى ﴿أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾ [الشعراء:205-207].

﴿أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ﴾ وهذا استفهام إنكاري فإذا نزل يعني هذا العذاب بساحتهم والساحة هي فناء الدار ﴿فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ﴾ يعني: صباحهم يكون صباحًا سيئًا، وهم المنذرين، الذين أُنذروا ولم يستجيبوا، ولذلك النبي ﷺ كما ثبت لما قدِم على خيبر فرأى اليهود جيش النبي ﷺ قالوا: محمد والخميس” يعني: والجيش، فقال النبي ﷺ: “ خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إنَّا إذا نَزَلْنا بساحَةِ قَوْمٍ {فَساءَ صَباحُ المُنْذَرِينَ}”

فقال الله عز وجل: ﴿فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ﴾ وهذا يدل على أن العذاب يقع في الصباح ﴿وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ﴾ كرر ذلك مرةً أخرى من باب تسلية النبي ﷺ.

﴿وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ﴾ أي الملائكة يُنزهون الله ﷻ ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ﴾ وكذلك عباد الله المخلصين يسبحون الله، إذًا سبح الله ﷻ ونزه نفسه ﴿رَبِّ الْعِزَّةِ﴾ أي: صاحب العزة والغلبة صاحب العزة والغلبة يعني ذي العزة والغلبة ﴿عَمَّا يَصِفُون﴾ والربوبية هنا بمعنى (ذي) أو بمعنى: (صاحب)، وليس معنى ذلك أنه رب صفاته ﷻ فصفاته ليست مخلوقة، ولذلك ابن عباس رضي الله عنهما كما ثبت عنه أنه لما سمع رجلًا يقول: اللهم يا رب القرآن اغفر له. فقام مُغضبًا عليه وأنكر عليه لأن القرآن كلام الله مُنزل غير مخلوق، وبَينت هذه المسألة في موطن آخر بأعظم من هذا التفصيل.

﴿عَمَّا يَصِفُون﴾ من هذه الأقاويل والأباطيل، ﴿وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ﴾ سلم على جميع المرسلين، ومن ثَمَّ فإن هذا السلام لجميع المرسلين، ومن ذلك ما ذُكر عن لوط وذُكر أيضًا عن يونس، ﴿وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ حمد نفسه ﷻ لأنه رب العالمين، وحمد نفسه ﷻ لأنه صاحب العزة، وأيضًا نصر أوليائه وأهلك أعدائه.

وبهذا ينتهي تفسير سورة الصافات