تفسير سورة القصص من الآية (1) إلى ( 21 ) الدرس (195 )

تفسير سورة القصص من الآية (1) إلى ( 21 ) الدرس (195 )

مشاهدات: 453

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة القصص

من آية (1) إلى آية (21)

( الدرس 195 )

لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

 

﴿طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ(6)﴾

 

سورة القصص من السور المكية، {طسم}: هذه من الحروف المقطعة ومرت معنا في أول سورة البقرة. {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}: تلك آيات القرآن المبين الواضح وقد مر معنا تفسيرها في أول سورة الشعراء {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}:[الشعراء: 2]، {نَتْلُوا عَلَيْكَ}: يا محمد {مِنْ نَبَإِ مُوسَى}: (من): يعني من بعض من خبر، {مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ}: ما نقوله لك هو الحق، {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}: لأنهم هم المنتفعون بهذه القصص، ولذلك ماذا قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ}:[يوسف: 111]، {إِنَّ فِرْعَوْنَ}: ذكر هنا شيئًا من أخبار موسى مع فرعون {عَلا فِي الأَرْضِ}: يعني تكبر في الأرض، أرض مصر {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا}: يعني جماعات، الشيع يعني الجماعة اجتمعوا على شيء وتشايعوا وتعاونوا على شيء {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا}: منهم من هو القريب عنده، ومنهم من يتولى شؤون بلدته، ومنهم من يستعبده ويذله {يَسْتَضْعِفُ}: من تلك الشيع {طَائِفَةً مِنْهُمْ}: طائفة من؟ بني إسرائيل قوم موسى {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ}: ومر معنا تفسير ذلك في سورة البقرة، {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}: وهو يذبح الأبناء ويستبقي البنات للخدمة، واستبقائهم للخدمة مع قتل الأبناء ليس كرمًا للبنات لا؛ لأن الإناث ولدن الذكور والمرأة من غير ذكر أيضًا يصيبها من العنت ما يصيبها {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}: فهو صاحب فساد وإفساد {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ}: سبحان الله! الذين استضعفوا في الأرض هم بنو إسرائيل، أراد الله عز وجل أن يمكّن لهم في الأرض، ولذلك قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}:[الأعراف: 137]، لكن جعل الله لها مقدمات سبحان الله! المنح من الله قد يسبقها محن، وبعد المحن تأتي المنح والعطايا من رب العالمين وتأمل هنا ماذا قال عز وجل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ}: منة وعطاء من الله {عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ}: وهم بنو إسرائيل، {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً}: ولذلك قال عز وجل {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ}:[المائدة: 20]، يذكرهم بعد ذلك بعد ما أغرق الله فرعون {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}، {وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}:[الشعراء: 59]، {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ}: تمكين في الأرض {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ}: الذي هو وزيره يعينه على الشر {وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}: سبحان الله! كانوا يحذرون من ماذا؟ كما مر معنا في حديث الفتون وذكر المفسرون أقوالًا في ذلك كان يحذر أن يكون هلاك عرشه على ذكر من بني إسرائيل، فماذا صنعوا؟ يذبحون الأبناء فلما كثر ذبح الأبناء وكانوا يستبقون النساء، قالوا له إن ذبحتهم فلن يبقى عندنا أحد يخدمنا! فقالوا يوقف الذبح سنة وسنة لا يوقف، يوقف سنة ولا يوقف سنة، فُولد هارون في سنة عدم الذبح وموسى في سنة الذبح، انظر! لا يغني حذر من قدر، والله إذا أراد الله شيئًا فلن يرده أحد مهما كانت له من القوة.

 

﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(13)﴾

فما الذي جرى؟ ولد موسى عليه السلام في زمن الذبح {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى}: وحي إلهام أو منام أو أتاها ملك، لكن ليست بنبية هي، {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ}: أوحى إليها ماذا؟ (أن): تفسيرية، {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ}: من فرعون، يعني في نظرنا إذا خاف الإنسان على شيء يستره {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ}: سبحان الله! {فِي الْيَمِّ}: في اليم هنا أي في البحر والمقصود نهر النيل وسمي بحرًا لاتساعه، {وَلا تَخَافِي}: عليه {وَلا تَحْزَنِي}: لا يبقى في قلبك حزن على فقدانه {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ}: ثم وعد آخر: {وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}: منقبة عظيمة ولذا قال عز وجل {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ}: قال بعض العلماء هذه فيها أمران؛ {أَنْ أَرْضِعِيهِ}، {فَأَلْقِيهِ}:  فيها نهيان في هذه الآية: {وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي}: فيها خبران: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}: في هذه الآية بشارتان موجودتان في الخبرين {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ}: البشرى الأولى، {وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}.

{فَالْتَقَطَهُ}: دل هذا على أنها فعلت (الفاء) تدل على -وهي الفاء الفصيحة- تدل على أن هناك جملة موجودة يعني ألقته فما الذي جرى؟ حمله الماء إلى قصر فرعون بأمر الله {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}: قال بعض المفسرين: (اللام) هنا للعاقبة بمعنى أنهم ما التقطوه من أجل أن يكون لهم عدوًا وحزنًا، لكن العاقبة أنه يكون عدوًا وحزنًا لهم، ولكن قال ابن كثير رحمه الله: (اللام) هنا للتعليل لام (كي) بمعنى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ}: من أجل بتقدير من الله {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}: لأن هذا يناسب الحذر الذي كانوا يحذرونه {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}: سبحان الله {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}: والحَزَن هو الحُزُن ينطق حَزَن وحُزُن، {إِنَّ فِرْعَوْنَ}: العلة لمَ سيكون موسى عدوًا وحزنًا لهما؟ {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ}: كانوا مشركين بالله عز وجل {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ}: دل هذا على أنهم أرادوا أن يقتلوه {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ}: تقول لفرعون {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ}: تقر أعيننا به فنسعد به، وقرة العين أن الإنسان من القرار يستقر لأن الإنسان إذا استقرت عينه على شيء يحبه لم يلتفت إلى شيء آخر، فهي مستقرة في النظر إلى هذا الشيء {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ}: أحبته لأن الله عز وجل قال: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي}:[طه: 39]، ما يراك أحد إلا ويحبك، لكن فرعون طاوع زوجته من باب أن يعطيها ما تريده وهي آسيا بنت مزاحم ولها شرف عظيم وأثنى عليها النبي ﷺ في أحاديث وقال عز وجل: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}:[التحريم: 11]، {لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا}: بأي وجه من وجوه النفع {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}: يُفهم من ذلك والعلم عند الله أنه لا ولد لهم {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}: لا يشعرون ولا يعلمون فرعون ومن معه بحقيقة هذا الغلام وما سيؤول إليه الأمر، حتى لو أخذوا الحَذَر والحِذَر فقتلوا من قتلوا من أجل ألا يسقط عرشه على يد أحد من بني إسرائيل، سبحان الله! فقال الله عز وجل: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا}: علمت أنه وصل إلى قصر فرعون، فأصبح فؤاد أم موسى فارغًا يعني ليس في قلبها شيء تذكره وتفكر فيه إلا الابن هذا، خلا قلبها من كل شيء {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ}: لتظهر أنه ولدها {لَوْلا}: فضل الله ورحمته سبحانه {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: إذا ربط الله على قلبك يدل على ماذا؟ على الثبات ولذلك قال عز وجل عن الفتية: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}[الكهف: 14]، وقال تعالى في سورة الأنفال في غزوة بدر: {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ}:[الأنفال: 11]، فأسال الله أن يربط على قلبك في أيام المحن والبلايا، {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا}: يعني لولا أن ربطنا على قلبها لأبدت وأظهرت أنه ابنها {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: ربط الله على قلبها لتكون من المؤمنين ممن آمن بوعد الله {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}، {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ}: تتبعي أثره وهذا من باب فعل السبب قصيه انظري ما هو حاله {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ}: يعني من جانب يعني نظرت إليه أخته وكانت بعيدة يعني تلمح حاله {عَنْ جُنُبٍ}: يعني عن مكان بعيد حتى لا يشعروا بأنها تريده وتبحث عنه {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}: عن حقيقة هذه الأخت {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ}: تحريم قدري من الله لا يقبل ثدي امرأة {مِنْ قَبْلُ}: يعني من قبل أمه وأخته، فذهبوا يبحثون عمن يرضعه فأتت هذه الأخت كأنها لا تعرفه لكن من باب الشفقة عليه {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ}: من باب الكفالة ويضمونه ويرعونه {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ}: مع الكفالة هم أصحاب نصح وحرص {فَرَدَدْنَاهُ}: دل على أنهم طاوعوها  {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ}:سبحان الله العظيم أخذت ابنها في بيتها والأجور لها، أجر الرضاعة {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا}: بوجوده {وَلا تَحْزَنَ}: {وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي}، {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}، {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ}: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}: لا يعلمون بتقدير الله عز وجل ولا يحيطون بشيء من علمه {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}: ومن ذلك فرعون ومن معه لا يدري.

 

 

﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(21)﴾

{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ}: أي القوة تمام القوة الأشد من الثلاثين إلى الأربعين ولذلك قال تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً}:[الأحقاف: 15]، {وَاسْتَوَى}: قال بعض العلماء استوى هو كمال الأشد من باب التأكيد، وقال بعض العلماء لا،  كما في يوسف عليه السلام {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا}:[يوسف: 22]، قال هنا عن موسى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى}: قال أشده يعني القوة، استوى يعني تمام الخلقة بمعنى أنه مكتمل الجسم، ولذلك النبي ﷺ أخبر بأن موسى ضرب من الرجال كأنه من أزد شنوءة، يعني أنه مليء الجسم ولذلك لما ضرب ذلك القبطي ضربة ما ردقت له قتله؛ لقوته ولاكتمال جسمه {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا}: الحكم هو العلم النافع مع العمل الصالح، والحكم الفهم وأيضًا الحكمة، انظر القصة الآتية لما دخل المدينة قبل أن يبعث فكيف قال هنا: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا}: هذا متى؟ لأنه لم يوحَ إليه إلا بعد أن ذهب إلى مدين ثم مكث فيها ثم رجع إلى مصر وفي الطريق أُوحي إليه فيكون هذا من باب التقديم لماذا قدم؟ لأن الله عز وجل لما وعدها بأن يكون من المرسلين ذكر هذه الجملة هنا: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}: سبحان الله يعني مثل ما جزينا أم موسى وهي محسنة وكذلك موسى محسن أي محسن فإن الله عز وجل سيكافئه {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}: ليس خاصًا فقط تلك النعم -طبعا ما سوى النبوة- النعم ينعم الله بها على من أحسن فأحسن في عبادة ربه وأحسن مع الخلق.

{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ}: يعني مصر {عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ}: لعل المدينة كما قال بعض المفسرين بعض مدن مصر، على كل حال سواء كانت مصر أو بعض القرى فيها المدائن لا إشكال فيه، المهم أن موسى {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا}: يعني بعد ما كبر؛ لأنه بعدما ارتضع من أمه رجع إلى القصر، ولما رجع إلى القصر ترعرع في قصر فرعون حتى نشأ وكان شابًا ولذلك قال فرعون: {وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ }:[الشعراء: 18]، فدخل على حين غفلة: يعني الناس في غفلة، كل مكث في بيته قيل وقت القيلولة أو قيل وقت آخر {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ}: يعني من بني إسرائيل {وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ}: من القبط من آل فرعون {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}: طلب منه الغوث والاستغاثة لا يجوز أن تكون إلا لله، لكن الاستغاثة هنا استدل العلماء على أن الاستغاثة بالمخلوق تجوز بشروط، أولًا ان يكون هذا المستغاث به حيًا، وأن يكون قادرًا على هذا الشيء الذي استغثته به، وأن يكون موجودًا عندك ليس غائبًا في بلد أو في مكان، وأن يكون مجرد سبب.

إذًا أن يكون حيا ليس بميت، أن يكون موجودًا ليس بغائب، أن يكون قادرًا، من ليس بقادر كأن يستغيث به في شيء لا يقدر عليه إلا الله فهذا شرك، وأن يوقن بأنه سبب {فَوَكَزَهُ مُوسَى}: هو جمع أصابع اليد هكذا هو الوكز {فَوَكَزَهُ مُوسَى}: ليدفعه ما أراد أن يقتله {فَقَضَى عَلَيْهِ}: مات {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}: يعني ضربي له هو لم يرد قتله ولم يقصد من العمل هو القتل لا، قال: إني وكزي له من عمل الشيطان لو نصحته أو بأسلوب آخر لكان أخف {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ}: عدو للإنسان مضل يضله مبين واضح الضلال {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ}: هو لم يوحَ إليه من قبل، لكنه على أصل التوحيد، ولذلك من الديانات السابقة من دين إبراهيم ومن جاء بعده كيوسف وما شابه ذلك، ولذلك قال {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}: كيف علم أن الله غفر له؟ لأنه لم يُبعث إليه حتى الآن، لعله بوحي إلهام أو بملك أو ما شابه ذلك لأنه كما قلنا لكم ما أوحي إليه إلا بعد ما ذهب إلى مدين كما سيأتي في سياق الآيات، وبعد أن خرج من مدين {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ}: في نفس السورة، هناك بُعِث في طريقه، فقال الله عز وجل: {فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}. {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ}: الباء هنا الصيحة أنها سببية يعني بسبب ما أنعمت علي، من النبوة؟ لم يوحَ إليه إلى الآن، يعني بما أنعمت علي مما أنعمت علي من النعم العظيمة الأخرى السابقة المذكورة في الآيات من نجاته من فرعون وما شابه ذلك {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ}: يعني عونا للمجرمين دل هذا على أنه لا يجوز أن يعان المجرم على إجرامه {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ}: وتلك النعمة كما قررنا هي النعمة التي سبق ذكرها، وذلك من نعمة الجاه والقوة وما شابه ذلك مما ذكره عز وجل في أول السورة، وهناك من العلماء من يقول من أن النعمة هنا هي نعمة النبوة وهذا يرده سياق الآيات؛ لأن هذه القصة التي حصلت لموسى عليه السلام قبل النبوة، فإنه خرج إلى مدين ثم بعد أن مكث في مدين تلك السنوات رجع إلى مصر وفي طريقه أوحي إليه، {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ}: وقوله: {يَتَرَقَّبُ}: مع ذكر الخوف يدل على أنه كان في قلق لما حصل ما حصل من قتل ذلك القبطي، {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ}: يعني يستغيثه وذلك لأن الاستغاثة تكون برفع الصوت فقال: {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ}: الأمس: لا يدل على أنه هو اليوم الذي يسبق هذا اليوم الحاضر، بل أنه قد يدل على أيام ماضية {قَالَ لَهُ مُوسَى}: يعني أن هذا الإسرائيلي إذا به يقتتل مع شخص آخر قبطي {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ}: من أنك ضال عن طريق الأسوياء وغوايتك بينة، فإنك تتشاجر مع هؤلاء {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ}: أن هنا زائدة للتأكيد {بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى}: من القائل؟ هل هو القبطي أم هذا الرجل الإسرائيلي؟ قال بعض المفسرين هو القبطي دل هذا على أنه فهم القبطي من قول موسى لذلك الرجل {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ}: فهم أن الذي قُتل فيما مضى إنما قتله موسى، وقال بعض المفسرين إنما هذا القول من قول الإسرائيلي لأن موسى لما قال له {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ}: فخاف الإسرائيلي أن يبطش موسى به فنطق بهذا الكلام، فعرف القبطي حينها أن الذي صنع ما صنع فيما حصل من قتل بالأمس أنه كان من صنيع موسى فأخبر هذا القبطي فرعون، وعلى كل حال ظاهر السياق يدل على أن هذا القبطي هو الذي قال هذا الكلام لهذه الدلائل، وأيضًا قول من يقول بالقول الآخر له وجهه، وعلى كل حال عُرف الذي قتل مَن؟ ذلك القتيل، عرف آل فرعون أن القاتل موسى، {قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ}: والجبار هو المتشدد المتعنت الذي يتسلط على الناس {وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ}: دل هذا على أنك لا تريد الإصلاح في الأرض، وهذا يدل على أن قتل النفس من التجبر ومن عدم الإصلاح، لكن موسى عليه السلام لم يصنع ذلك من أجل قتله، وإنما أراد أن يدفعه ولذلك لما قال له فرعون كما في سورة الشعراء {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ}:[الشعراء: 19-20].

{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى}: يعني يسرع، وهذا الرجل قيل هو مؤمن آل فرعون الذي جاء ذكره في سورة غافر، وقال بعض المفسرين يمكن أن يقال إنه ليس هو، لم؟ لأن مؤمن آل فرعون متى ظهر؟ ما ظهر مؤمن آل فرعون إلا بعد أن ظهر موسى وأوحي إليه بالنبوة، وعلى كل حال الأكثر على أنه مؤمن آل فرعون كما ذكر كثير من المفسرين. {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى}: من أقصى يعني من جوانب المدينة {قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ}: وذكر أقصى المدينة قال بعض المفسرين: باعتبار أن الملأ والأشراف يبحثون عن أقصى المدينة فتكون بعيدة عن الآفات وعن الزحام وعن البطش وما شابه ذلك، ويمكن أن يقال أيضًا من أنه ليس من آل فرعون قد يكون من الضعفاء لأن الضعفاء إنما يسكنون في أقصى المدينة لا في قلب المدينة، وهذا يدل على أن هذا الرجل أراد أن ينفع موسى {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ}: يعني يتشاورون فيك من أجل أن يقتلوك، والتشاور يطلق عليه التآمر؛ لأن كل من يشير إلى الآخر ويشير عليه كأنه يأمره {فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}: سبحان الله! يهيئ الله عز وجل لأوليائه من يعينهم في وقت الشدائد {فَخَرَجَ مِنْهَا}: من مصر {خَائِفًا يَتَرَقَّبُ}: يدل على أنه قلِق {قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}: دعا الله عز وجل أن ينجيه من القوم الظالمين وهم قوم فرعون {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ}.