بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة القصص
من آية (43) إلى آية (70)
( الدرس 197 )
لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾: (43)
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾: يعني التوراة ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى﴾: كعاد وثمود وما كانَ قبله، وهذا يدلُ على أنَّ هلاك الأمم السابقة لمَّا تهْلَك هُنا بعد حين يحتاجون إلى شريعة، إذاً لمَّا اعطى الله عز وجل موسى التوراة بعد هلاك الأمم السابقة، أيضاً مجيء النبي ﷺ لكفار قريش بعدَ أن اندَرست معالمُ النُّبوة التي أتى بها إبراهيم وإسماعيل، إذاً لا عجب، فكيف تعجبون من حاله ﷺ.
ولذلك أخذَ بعضَ العلماء من هذه الآية مِن أنَّ الهلاك المُستأصل الذي يستأصلُ الأقوام إنما كان في الأمم السابقة، يعني بعد هلاك فرعون لم يستأصل الله عز وجل أُمَّة بأكملها كهلاك الأمم السابقة.
﴿بَصَائِرَ لِلنَّاسِ﴾: فيه بصائر -في هذا الكتاب- بصائر يُبصرونَ به الحق ﴿بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى﴾: فيه الهدى لِمن أرادَ الحق ﴿وَرَحْمَةً﴾: به الرحمة لِمن تَمسك به ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾: لعلهم يتذكرون ويخشونَ عقاب الله ويأتون بالتوحيد.
﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾: (44)
يعني يا محمد ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ﴾: أمر النُّبوة ﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا﴾: (29) القصص. ﴿وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾: لم تحضر ذلك، إذاً إخبارك لهم في هذا القرآن بما أنزله الله عز وجل عليك يدلُ على صدقك.
﴿وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾: (45)
﴿وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ﴾: أنشأ الله قروناً بين النبي ﷺ وبين موسى فتطاولت عليهم السنوات، فاندرست معالمُ الشريعة فأنزل الله عز وجل هذا القرآن فيه قصة موسى من أجل أنَّ هذا القرآن حق وأنَّ الرسول محمد ﷺ حق إذ أخبركم بقصته، ولذلك قال: ﴿وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾: ﴿وَمَا كُنْتَ﴾: يا محمد ﴿ثَاوِيًا﴾: باقياً ﴿فِي أَهْلِ مَدْيَنَ﴾: لمَّا ذهب إليهم موسى عليه السلام خوفاً من فرعون ﴿ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا﴾: يعني ما كنت من أهل مدين وحضرت ما حضرت ثم أتيت تتلو على قريش ذلك الأمر-لم تكُن حاضرَ فبينك وبينهم سنوات–.
وقد قال بعضُ المفسرين يُحتمل: ﴿وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا﴾: يعني ما كنت في أهل مدين تتلو عليهم الآيات وتتعلم منهم حتى أخبرت كفار قريش بهذا الأمر ﴿وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾: مرسلين لك أصبحت رسولا وصرت رسولا.
﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾: (46)
﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا﴾: الطور: (الجبل) قال بعضُ المفسرين: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ﴾: متى؟ لمَّا كلَمهُ الله عز وجل لمَّا خرجَ من مدين وسارَ إلى مِصر، وقال بعضُ العلماء -وهو احتمالٌ قوي حتى لا يكونُ هُناك تكرار- ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا﴾: يعني: وما كنت بجانب الجبل لمَّا أهلك الله عز وجل فرعون وتَبِعك قومُك وكانوا في مكان، ثم ذهبت إلى ربِك عز وجل لِيعطِيك التوراة، ولذلك قال عز وجل عن بني إسرائيل: ﴿وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ﴾: (80) طه، من أجل إنزال التوراة، ولذلك مما يُقوي هذا القول أنَّه قالَ بعدها: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾: يعني أنزلنا هذا القرآن يا محمد كما أنزلنا التوراة على موسى ﴿وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾: أنزلنا هذا القرآن وأرسلنا إليك رحمةً من ربِك بِكْ وبهم، ولذلك قال عز وجل: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ (6)﴾ الدخان. وقال تعالى في آخر السورة: ﴿وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ [القصص:86]
﴿لِتُنْذِرَ﴾: لِتُخوف ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ﴾: (ما) هُنا قِيل هي (نافية) يعني: لِتُنذِرَ قوماً لم يُنذَرْ آباءهم من قبل، وقال بعضُ العلماء إن (ما) هُنا (موصولة) لِتُنذَرَ قوماً الذين أتاهم نذير من قبل كحال إبراهيم وإسماعيل أتى إلى آبائهم وأجدادهم، ولذلك قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ [المؤمنون:68] يعني أتى آباءهم الأولين -أتاهم من؟- إبراهيم وإسماعيل.
وقال بعضُ العلماء ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ﴾: يعني جاءهم الأمان من العذاب الذي يستأصِلهم مالمْ يأتِ آباءهم، ولذا قال هُنا بعضُ المفسرين: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ﴾: يعني الذي أتاهم من نذيرٍ من قبلك فليس لهم أمانٌ ولم يحصل لهم أمان -ولعلَّ النفي أقرب-
ولذلك قال عز وجل في سورة يس: ﴿تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)﴾. والقول فيها كالقولِ هُنا -وسيأتي لها إن شاء الله حديث-.
﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾: من أجل التذكر ومن أجل الهداية؛ لأن التَّذكر يُولِّد الهداية، و في سورة السجدة قال عز وجل: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾(3)
﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾: (47)
﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ﴾: مصيبة من عذاب الله عز وجل ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾: بسبب أيديهم مما عملوه من الظلم والفساد ﴿فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾: يعني: أرسلَ الله عز وجل إليهم الرسول ﷺ حتى لا يقولوا –لو نزل بهم العذاب– لو أنزلت إلينا كتاباً وأرسلت إلينا رسولا لآمنَّا واتبعنا، فمجيء هذا الرسول حجة دامغة لهم حتى لا يتعللوا بهذه العِلَة، ولذلك قال عز وجل عن هؤلاء في أواخر سورة الأنعام: ﴿ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ(157)﴾: و قال عز وجل في أواخر سورة طه: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى(134)﴾.
﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ﴾ (48)
﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا﴾: جاءهم الحق من عندنا وهو هذا القرآن وأتى به محمد ﷺ منزلاً من ربهِ عز وجل عليه ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا﴾: انظر إلى العناد والكفر ﴿قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى﴾: هلاَّ أُعطِيَ كتاباً كما أُعطِيَ موسى، كأن يُعطى الكتاب جملةً واحدة ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾ الآية (32) الفرقان. او كالكتاب الذي نزل به موسى وما فيه من أحكام ومواعظ، فقال الله عز وجل: ﴿أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ﴾: لم؟ لأنهم كانوا يأتون إلى اليهود فيقولون ماذا قِيل عن هذا الأمر في كتابكم -ويسألونهم– فلمَّا أتى النبي ﷺ سألوا اليهود عنه فقالوا إنه نبي حق فكفروا بالتوراة.
فقال الله عز وجل: ﴿أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا﴾: يعني: القرآن والتوراة سِحران –كما زعموا– تظاهرا (تعاونا) على هذا الأمر ﴿وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ﴾: من القرآن والتوراة ﴿إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ﴾: ولذلك قال تعالى عنهم: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ الآية (31) سبأ.
﴿قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (49)
﴿قُلْ﴾: يا محمد لهؤلاء ﴿قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا﴾: من القرآن والتوراة ﴿أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾: لكنكم لن تستطيعوا أن تأتوا به؛ لأنه لا أعظم من هذين الكتابين ﴿قُلْ فَأْتُوا﴾: كما تزعمون مِن أنَّ قولكم في هذين الكتابين هذا القول ﴿قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ﴾: هل هُناك أهدى من هذين الكتابين حتى أتبع هذا الكتاب؟ ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾: لكن لستم بصادقين ولن تستطيعوا ذلك.
﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (50)
﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ﴾: يا محمد ﴿فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ﴾: والاستفهام هُنا (للنفي) أي لا أحد أضل ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾: فمن اتبع هواه فليس على هُدى إلا إذا كان الهوى –لأن الهوى في أصله مذموم– إلا إذا كان الهوى على هدىً من الله كما جاء بذلك الحديث الذي تنازع العلماء فيه وتحدثنا عنه في موطن آخر مِن أنَّ الهوى قد يُطلق على الخير باعتبار معين ” لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لِما جئت به ” ولذلك في قصة أسارى بدر قال عمر رضي الله عنه: ” فهويَ رسول الله ﷺ رأي أبي بكر ولم يأخذ برأيي” وقالت عائشة: ” ما أرى ربَّك –تقول للنبي ﷺ- إلا وهو يُسارع في هواك ” فعلى كل حال قد يُطلق على الهوى (خير) باعتبار معين.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾: القوم الظالمون الذين بعدوا عن الطريق وبعدوا عن الصراط وبعدوا عن أسباب الهداية لا يوفقهم الله عز وجل للهداية.
﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (51)
قال بعضُ العلماء ﴿وَصَّلْنَا﴾: (بيَّنا) ﴿الْقَوْلَ﴾: (القرآن) ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ﴾ [المؤمنون:68]
والذي يظهر مِن أنَّ ﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا﴾: على ظاهرها ويدخل في ذلك التبيين ﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا﴾: يعني أوصلنا لهم القول مرةً بعد مرة؛ من أجل أن تأتي العِبر والمواعظ لهم ومع ذلك ما هو حالهم؟ ﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ﴾: ويتضمن ذلك (التبيين) وصَّل لهم هذا القرآن ونزل عليهم على حسب الأحداث والوقائع وبالليل وبالنهار مع التبيين والتوضيح ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾: كما قال عز وجل في نفس السورة: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (43) أين تذكركم أنتم أيضاً يا كفار قريش بالنسبة لهذا القرآن؟
﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ (52)
﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ﴾: أهل الكتاب كعبد الله ابن سلام وغيره ممن آمنوا، يعني أنتم يا كفار قريش إن لم تؤمنوا فقد آمن بهذا الكتاب طائفة من اليهود كعبد الله ابن سلام وغيره رضي الله عنهم ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ﴾: أي من قبل هذا القرآن ﴿هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ﴾: لأنهم إذا قرأوه وجدوا أن ما في هذا القرآن قد أتت التوراة به مبيَّنة صِدْقَه.
﴿وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ﴾ (53)
﴿وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا﴾: هو الحق من ربنا لأن ما ذُكِرَ في التوراة من صفات له تُوضح ذلك ﴿إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ﴾: كُنَّا منقادين لله عز وجل من قبل نزول هذا القرآن فلمَّا نزل هذا القرآن زادنا إيمانا، ولذلك قال عز وجل في أواخر سورة الإسراء: ﴿ قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)﴾.
﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾: (54)
﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ﴾: لأنهم آمنوا بموسى وبالكتاب الذي أُنزِل على موسى، وآمنوا بمحمد ﷺ وبالكتاب الذي نزله الله على محمد ﷺ وهو القرآن. ولذلك في الحديث الصحيح –في الصحيحين –قال ﷺ ” ثلاثةٌ يؤتيهم الله عز وجل الأجر مرتين -ذكر منهم– رجلٌ من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بهذا القرآن “
﴿بِمَا صَبَرُوا﴾: هذه يحتاج إليها إلى صبر ومصابرة، وصبر على أقدار الله المؤلمة، وصبر على أداء الطاعات وعلى ترك المعاصي. ﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾: يعني أنهم إذا أساء إليهم أحد لا يُجازونه بالسيئة وإنما بالحسنة ﴿وَيَدْرَءُونَ﴾: يعني: (ويدفعون) ﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾: من بعض ما رزقناهم ﴿يُنْفِقُونَ﴾.
﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾ (55)
﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾: اللغو: (الكلام الذي لا فائدة منه) لأنهم وفدٌ أتوا إلى النبي ﷺ فسمعوا منه فأسلموا فرجعوا إلى قومهم، فقال أبو جهل ما رأينا أسوأ منكم بعثكم قومكم من أجل أن تنظروا في أمر محمد ثم غيرتم دينكم، وهذه الآية وإن كان هذا هو سبب النزول لكنها شاملة ولذلك قال ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون:3]
﴿وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾: لكم دينكم ولنا ديننا ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾: سلام مُتاركة، يعني سلام نسلم من الكلام الباطل كما مرَ معنا في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾: [الفرقان:63] ﴿لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾: لا نطلب الجاهلين في محادثتهم ولا في معاملتهم ولا في التواصل معهم.
﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (56)
لما دعا النبي ﷺ عمه أبا طالب فلم يُسلم فحزِنَ النبي ﷺ فقال: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾: ولا يدُل هذا على أن النبي ﷺ كان يُحبه محبةً دينية؛ لأن المحبة الدينية لا تجوز من المسلم للكافر.
﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾: من أحببت هدايته من عمك أو من غيره أو ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾: كعمك أبي طالب محبة طبيعية كمحبة الولد لعمه، لكنه ما كان يُحبه محبة دينية؛ لأنها محرمة على أهل الإسلام ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾: هداية التوفيق والإلهام من الله، ومن ثَمَ فإذا كان النبي ﷺ لم يستطعَ أن يهديَ عمه فكيف يُستغاثُ به ويُدعى النبي ﷺ من دون الله ويأتون إلى قبره ويستغيثون به! ما حالُ هؤلاء؟ حال هؤلاء الكفر نسأل الله السلامة والعافية.
﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾: هو أعلم بمن يُريد الهداية ويسعى إليها ويتخذ طُرُقها فهذا يُوفق للهداية.
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (57)
(التخطُف) هو: الأخذ بقوة وبسرعة، يقولون لو آمنا بك يا محمد فإن قبائل العرب ستأتي إلينا ويتخطفنا –فسبحان الله– فقال عز وجل: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا﴾: يعني إذا كُنا مكَنَّا لهم ذلك حال كُفرهم فكيف لو أسلموا بمحمد ﷺ؟ تزدهم النِعم، ولذلك لما كفروا قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)﴾ [النحل]
فقال هُنا: ﴿أأَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا﴾: حَرمْ لا يجوز أن يُصاد صيده ولا أن يُنفر صيده وأيضاً آمن -يعني من دخله فهو آمن- ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ [آل عمران:97]
﴿يُجْبَى إِلَيْهِ﴾: أنه يُؤتى إليه ﴿ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾: ثمرات، وكل ثمرة من كل نوع ﴿رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا﴾: من عندنا لا من حولكم ولا من قوتكم وإلا فأرضكم كما قال إبراهيم ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ [إبراهيم:37]
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾: ولكن أكثرهم لا يعلمون نِعَمَ الله عز وجل عليهم ولا يعلمون مغبةَ كفرهم من أن العذاب سيكون لهم ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾: لو كانوا يعلمون ذلك لما كفروا بالله بل اتبعوا الهدى.
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾ (58)
(كم) هُنا للتكثير-أعداد هائلة- ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا﴾: يعني بَطِرت في معيشتِها –معيشتَها منصوبة بنزع الخافض بنزع حرف الجر- (بَطِرت) أنها بَطرت النِعم وتجبرت ولم تشكر هذه النِعم، فتأملوا في حال هؤلاء ﴿فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ﴾: وأنتم تمرون عليها يا كفار قريش ﴿لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا﴾: مجرد أن الإنسان إذا مرَّ بها استراح بها زمناً قليلاً كحالكم ﴿وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾: يعني لم يبقَ منهم أحد حتى يرثوها ﴿وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾: لأن الله أهلكهم وأبادهم كلهم، ولذلك قال تعالى ﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ [مريم:40]
﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ (59)
﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا﴾: يعني ما كان الله عز وجل ليُهلك قرية إلا بعد أن يُقيم عليهم الحجة بإرسال الرسول ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء:15]
﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا﴾: لماذا أم القرى؟ من أجل أن القرى الأخرى تأتي إلى هذه الأم؛ لأنها هي القلب، وهذا يدُل على عموم رسالته ﷺ لأن مكة (أم القرى) فدل هذا على أن بقية القرى بُعثَ إليها النبي ﷺ والأدلة كثيرة منها: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف:108] إلى غيرها وقد مرَّ معنا من الآيات مفصَّلا في سورة المائدة ﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾: لكمال عدله عز وجل لمَّا ظلموا وجاءهم هذا الرسول فظلموا وكفروا أهلكهم الله عز وجل.
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ (60)
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾: يعني ما أنتم فيه من النِعَم ﴿فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا﴾: تستمتعون بها وزينة فقط ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الكهف:7]
﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ﴾: في يوم القيامة ﴿خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾: خيرٌ من نعيم الدنيا ﴿وَأَبْقَى﴾: مستمر دائم لكن هذه الدنيا زائلة ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾: أين عقولكم! فلماذا لا تُحكِمون عقُولكم فتُميز بين مُتع الدنيا وبين ثواب الله عز وجل العظيم.
﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ (61)
لا يستوي أهل الإيمان وأهل الكفر ﴿أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾: [ص:28] فقال عز وجل: ﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ﴾: (الوعد الحسن) هو: الجنة، وعَدَ أهل الإيمان ووعده لا يُخلف ﴿وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ﴾ [الزمر:20]
﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا﴾: ووصفه بالحُسُن؛ لأنه نعيمٌ دائم ﴿فَهُوَ لَاقِيهِ﴾: من عمل الصالحات فهو لاقي هذا الثواب ﴿كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾: يعني هل يستوي هذا وهذا؟ لا، بل ﴿ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾: الذين يُحضَرون إلى جهنم عن طريق القوة، ولذلك قال عز وجل ﴿ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا﴾ [مريم:68]
﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ (62)
﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ﴾: يعني واذكر يوم يناديهم –يوم منصوب بالفعل اذكر- ﴿فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾: من تزعمون أنهم شُركاء سينفعونكم في هذا اليوم أو في غيره، أين من تشركون بي؟ ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ﴾: ودَل هذا على أن هذا النداء (للتوبيخ).
﴿قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ﴾ (63)
﴿قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ﴾: أي وجَبَ عليهم القول ﴿رَبَّنَا﴾: من القائل؟ رؤساء الشر الذين عُبِدوا من دون الله ﴿هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا﴾: يعني نحن أضللناهم كما غوينا –كما ضللنا– بمجرد أننا أمرناهم فاتبعونا ﴿تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ﴾: من هؤلاء ﴿مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ﴾: -سبحان الله– كما في آيات أُخ هم يتبرؤون من شُركائهم.
﴿وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ﴾ (64)
قيل لهؤلاء الذين تَبِعوا أولئك وجعلوهم آلهة مع الله فقال الله عز وجل: ﴿وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ﴾: لن يستجيبوا لهم ولذلك قال تعالى: ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [النحل:87]. أي غاب عنهم.
﴿لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ﴾: حينها يرون العذاب، ثم قال –وهُنا الأفضل الوقف– ﴿لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ﴾: الجواب محذوف دلَّ عليه ما قبله ﴿لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ﴾: لما رأوا العذاب، ويُمكن أن تكون (لو) هُنا للتمني فلا تحتاج إلى جواب، يعني تمنوا أنهم كانوا في الدنيا قد اهتدوا كحال المسلمين حتى يحصلوا على هذا الوعد الحسن.
﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ﴾ (65)
﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ﴾: نداء آخر ﴿فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ﴾: لمَّا ناداهم في السابق ماذا صنعتم فيما يتعلق بحقي الذي هو التوحيد؟ هُنا نداء ماذا صنعتم في حق الرُسل لمَّا دعوكم إلى الإسلام؟
﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ﴾: هذا من باب التوبيخ والتقريع لهم.
﴿فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ﴾ (66)
﴿فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ﴾: -سبحان الله– اختفت عليهم الأنباء، لم يقل فعموا عن الأنباء بل الأنباء كأنها هيَ التي عميت من باب أنهم لم يستحضروا في ذلك حُجة ﴿الْأَنْبَاءُ﴾: الأخبار والحُجج ﴿يَوْمَئِذٍ﴾: حتى من شدة ذلك الأمر فهم لا يتسألون –لا يسأل أحدهم الآخر ماهي الأنباء– من شدة الهول، أما من وعده الله عز وجل الوعد الحسن وهو المهتدي قال عز وجل:
﴿فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ﴾ (67)
﴿فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ﴾: هُنا (عسى) من الله متحققة الوقوع؛ لأن الله إذا أَطْمَع أحداً أعطاه ﴿فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ﴾: ممن فاز بالمطلوب ونُجيَ من المكروه.
﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (68)
﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾: تقف هُنا، ثم تبدأ ﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾: لأن (ما) هُنا (نافية) على الصحيح (ليست موصولة) حتى تكون القراءة ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾: يعني الذي كان لهم الخيرة، (ما) هُنا (نافية).
﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾: يخلق ما يشاء ويختار ما يشاء ليس على أهوائكم ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾: ممن يُرِد أن يخلقه ﴿وَيَخْتَارُ﴾: يختار من البشر رُسُلاً حسَبَ ما يشاء حَسْبَ حكمته، قال تعالى: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام:124] وفي قوله تعالى:﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب:36]
﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾: هُنا (نافية) ليس لهم الخيرة والاختيار يختارون ما شاءوا فيما يتعلق بهم أو فيما يتعلق بإرسال الرُسل لا، ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾: نزه نفسه عن شركهم ﴿وَتَعَالَى﴾: له العلو علو الذات وعلو الصفة وعلو القهر.
﴿وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ (69)
﴿وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ﴾: أي ما تُخفيه صدورهم ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾: وما يُظهرون وهذا واجب عليهم أن يدعوهم إلى أن يراقبوا الله وأن يخافوا الله حتى يُوحدوه.
﴿وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (70)
﴿وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾: هو الله ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾: لا معبود بحقٍ إلا هو، ﴿لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى﴾: في الدنيا، يحمده أهل الإيمان وهو المحمود على أفعاله ﴿وَالْآخِرَةِ﴾: في الآخرة يحمده أهل الإيمان ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ﴾ [فاطر:34] بل يحمده الكفار لأنه لمَّا حكم عليهم في يوم القيامة حكم عليهم بِحُكمٍ عدل فيحمدون الله عز وجل وينسبون إلى نفسهم الظلم ﴿يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء:52]
﴿وَلَهُ الْحُكْمُ﴾: له الحكم الشرعي إذ أمركم فيجب أن تأتمروا ونهاكم فيجب أن تنتهوا، وله الحكم القدري فيما يُنزله عز وجل من بلايا ومصائب –حسْبَ حكمته-، وله الحكم الجزائي حينما يُجازي عباده المؤمن للجنة والكافر للنار.
﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾: فمردكم إلى الله وإذا كان المرد إلى الله عز وجل فسيجازي كلاَّ إنسانٍ بما عَمِل إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
وللحديث تتمة وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.