تفسير سورة الكهف من الآية (1) إلى ( 18 ) الدرس (163)

تفسير سورة الكهف من الآية (1) إلى ( 18 ) الدرس (163)

مشاهدات: 518

بسم الله الرحمن الرحيم

[تفسير سورة الكهف] من الآية (1) إلى الآية  (18)

الدرس (154)

لفضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري

 

الحمد لله رب العالمين وأصلّي وأسلِّم على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدّين، أما بعد:

فنشرع بعون من الله عز وجل في تفسير سورة الكهف، وسورة الكهف سورة مكية، قال الله عز وجل:

{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا }

حمد الله عز وجل نفسه لأنه أنزل الكتاب وفي السورة السابقة أمر الله عز وجل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يحمده على التوحيد، وقد مر معنا من أنه عز وجل حمد نفسه لأنه رب العالمين، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}  وحمد نفسه لأنه خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور} وحمد نفسه عز وجل لما أهلك الطغاة: { فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين}

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ } فقال هنا { أَنزَلَ } دل هذا على أن هذا القرآن كما هو معتقد أهل السنة والجماعة منزل غير مخلوق، وقال { عَلَىٰ عَبْدِهِ } وهو النبي صلى الله عليه وسلم وهذا هو المقام الثاني الذي يُذكَر فيه صلى الله عليه وسلم في مقام تنزيل القرآن، كما مر معنا المقام الأول من أنه وصفه بالعبودية في مقام الإسراء { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ  }.

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا } أي: لم يكن هذا القرآن فيه عوج ولا اختلاف ولا تناقض، ولذا وصفه بعد ذلك فقال:

{قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا }

{ قَيِّمًا } فهو مستقيم وهذا يدل على ماذا؟ يدل على أنه نفى عنه العوج والتناقض وأيضاً أثبت له الكمال بأنه قيّما: بمعنى أنه لا يشوبه أي شيء فهو قد نسخ الكتب السابقة وهيمن عليها، ولذا قال عز وجل { قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }  { قَيِّمًا }  بمعنى أنه كما نفى عنه العوج أثبت من أنه كامل مستقيم في أحكامه وفي أخباره، فأثبت له من أنه قيّم ونفى عنه العوج؛ لأن ما كان قيماً قد يكون فيه بعض العوج فنفى العوج مطلقاً وأثبت من أنه قيما.

{ لِّيُنذِرَ} أي هذا القرآن. {بَأْسًا شَدِيدًا } يعني عذابا شديدا. { مِّن لَّدُنْهُ } أي: من لدن الله عز وجل.

{وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ } هذا القرآن يبشر المؤمنين بالخير.{ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا } والأجر الحسن هو الجنة ولذا قال بعدها:

 {مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا }

فهم ماكثون في هذه الجنة ولا يخرجون منها، ولذا كما قال عز وجل في أواخر هذه السورة: {لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا }.

 {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا }

{وَيُنذِر } الإنذار هو: الإعلام مع التخويف، وهو أنذرهم فيما مضى في ما مر في الآيات السابقات على وجه العموم لكن هنا ذكر صنفاً من أصناف الكفار.{  وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا } وذلك كشأن أهل الكتاب لما قالوا إن عزيراً ابن الله والمسيح ابن الله وكما قالت قريش من أن الملائكة بنات الله.

{مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ ۚ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}

مالهم به أي هذا القول السابق الذي قالوه من أن لله عز وجل الولد، قال { مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ } فليس لديهم علم إنما هو التخرص. { مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ } أيضا ليس عند آبائهم علم. { كَبُرَتْ كَلِمَةً } أي: عظمت كلمة وهي تلك الكلمة التي قالوها في حق الله عز وجل. { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } دل هذا على أن تلك الكلمة ليس بها حجة وليست قائمة على دليل وإنما هو ما نطقت به أفواههم فقط، فهو قول لا يتجاوز الأفواه فقال عز وجل هنا: { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا } أي: ما يقولون إلا كذبا.

ثم قال عز وجل: { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا }{6 }

{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ } قال بعض العلماء: إن هذا من باب الشفقة على النبي صلى الله عليه وسلم وقال بعض العلماء: أن كلمة لعل هنا المراد منها النهي كما قال عز وجل: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ } أي: مهلك لنفسك. { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ }  يعني: لما تولوا عن هذا الدين وتولوا عنك.

{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا } يعني من أنهم لما تركوا آثار الكفر وانصرفوا عنك فلعلك تهلك بسبب ذلك.

{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ} وهو القرآن، { أَسَفًا } يعني من أنك تحزن على ذلك، ومر معنا من أن الأسف يكون بمعنى الغضب، ويكون بمعنى الحزن، كما في قوله تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} وكما مر معنا فيما يتعلق بالحزن في قصة يعقوب {وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ} وقال هنا: { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا } فلا تحزن عليهم.

{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا }{7}

{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا } فالله عز وجل جعل هذه الأرض وجعل ما عليها من الزينة من باب الابتلاء والامتحان. { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ } لنختبرهم { أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } مر معنا ما يتعلق بالابتلاء في سورة هود مما يتعلق بهذه الآية وبالآية التي في سورة هود: { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } وقوله : { أَحْسَنُ عَمَلًا} وهو العمل الخالص لله عز وجل والمتبِع فيه الإنسان لطريقة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا ما على هذه الدنيا من زينة هي ابتلاء وامتحان، ولذا وصف الله عز وجل هذه الدنيا من أنها زائلة وأنها بمثابة الزرع الذي تحبه النفوس ثم سَرعان ما يزول، كما مر معنا في سورة يونس: { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ }. وذكر هنا ما يتعلق بحسن العمل ولذا في آخر السورة قال تعالى: { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} .

{وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا }{8 }

{ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا } أي: من تلك الزينة التي أضلت بعضَ الناس. { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا  } أي ترابا. { صَعِيدًا جُرُزًا } بمعنى من أنها يعني الأرض، تكون الأرض تراباً لا نبات فيها وهذا هو الجُرُز، كما قال عز وجل: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا  } فهذا معنى الجرز فقال عز وجل: { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } بمعنى أنها تزول وتفنى يوم القيامة.

  {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا }{9}

{ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ } أم حسبت يا محمد، هنا في هذه الآية والتي بعدها تدل على ماذا؟ تدل على أنه عز وجل ذكر قصة أصحاب، الكهف وقصة أصحاب الكهف لما قالت اليهود لكفار قريش: سلوه عن هؤلاء الفتية وسلوه عن رجل طاف المشرق والمغرب وسلوه عن الروح، فهنا قال الله عز وجل: { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ } وهذا يدل على ماذا؟ يدل على عظم القرآن فإنه ذكر هذه القصة في هذه السورة وذكرها في أربع آيات، تلك الآيات الأربع ذكرها على وجه الإجمال ثم فصلها تفصيلاً واضحاً بيّنا. { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ } والكهف هو المكان الذي يكون في الجبل والرقيم بمعنى: المرقوم على الصحيح من أن الرقيم هو المرقوم، أي: المكتوب الذي كُتبت فيه أسماء هؤلاء. { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} ليسوا هم بأعجب آياتنا بل إن الله عز وجل له من الآيات ما هو أعظم عجباً من هذه الآيات.

{ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}{10 }

{ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ } ذهب الفتية ودخلوا إلى الكهف. { إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً } سألوا الله عز وجل أن يعطيهم رحمة وهذه الرحمة تشمل كل ما يستأنسون به ويسعدون به ويُخَلصهم من كيد قومهم. { إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا } وهيّء لنا من هذا الأمر الذي نحن فيه رشداً أي: طريقاً حسناً نرشد به حتى نبقى على هذا الدين الصحيح، فقال عز وجل هنا: { رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا }، ودل هذا على أن العبد عليه أن يدعو الله عز وجل ولاسيما في زمن المحن.

{ فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا}{11}

قال: {فَضَرَبْنَا} والضرب كما مر معنا هو: الختم على الشيء كما في قوله تعالى : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ } كما مر معنا مما يدل على أن النوم قد استغرق في هؤلاء فأصبحت آذانهم لا تسمع شيئا.

{ فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ } لأن أول ما يسمع النائم يسمع عن طريق أذنيه، فخصَّ الآذان هنا، فإذا لم تسمع الآذان فإذا يثقل نوم الإنسان. { فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا } وتلكم السنين وهذه القصة فصلها الله عز وجل فيما سيأتي بعد ذلك.

{ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا}{ 12}

{ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ } يعني أصحاب الكهف. { ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ } لنعلم: علم ظهور وتمييز وإلا فهو عالم عز وجل قبل أن يخلقهم. { لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا } يعني مَن الحزبين هم أتقن وأحصى مدةً لمكث هؤلاء، ومن ثم فإن بعض العلماء قال: إن المقصود من هذا الاختلاف والتنازع إنما هو ما يكون بين قوم هؤلاء إذا أيقظهم الله عز وجل من النوم؛ وقال بعض العلماء: إنما المقصود من ذلك هم أصحاب الكهف لما تنازعوا، { قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۚ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } فعلى كل حال الله عز وجل أراد بذلك الابتلاء والاختبار.

{ نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}{13 }

{ نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ } فدل هذا على ماذا؟ أن تلك الآيات ذكرت قصة هؤلاء على سبيل الإجمال، ثم قال هنا مبيناً على سبيل التفصيل من أن هذه القصة التي ذكرناها لك قصة هي قصة حق؛ لأننا قصصنها عليك يا محمد، { نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم } يعني خبر هؤلاء، { بِالْحَقِّ }: الذي لا مرية فيه ولا شك فيه. { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ } دل هذا على أنهم شباب، وهذا يدل على ماذا؟ على أن من يتأثر ويبقى على دينه السابق إنما هم كبار السن باعتبار ما كانوا عليه من التقليد الأعمى ولذا كما قال ابنُ كثير رحمه الله : ولذا تجد أن أكثر من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم هم الشباب { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ }لم؟ لأنهم لم يتأثروا مع طول السنين بتلك العقائد الفاسدة. { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } دل هذا على أنهم لما آمنوا بالله زادهم الله هدىً على هذا الإيمان كما قال عز وجل :  {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى } ومن ثَم فإن قوله تعالى: { وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } دل هذا على ماذا؟ على أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية كما مر معنا ذلك مفصلاً في أول سورة الأنفال.

{ وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا ۖ لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} { 14}

{وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } والربط على القلب هو تثبيت القلب، وما أحوج الإنسان حال عظم الفتنة أن يربط الله على قلبه، ولذا كما مر معنا في سورة الأنفال: {ولِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} وكما قال عز وجل عن أم موسى: { إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} { وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا } هذا يدل على ماذا؟ يدل على أنه لا يلزم أن هؤلاء قاموا أمام أحد، وإنما المقصود من ذلك من أن هؤلاء قاموا بهذا الدين واجتمعوا حتى يخرجوا من هذه القرية لسلامة دينهم، وأيضاً لا يمنع أن يكون كما قال بعض المفسرين من أنهم قاموا أمام ذلك الملِك الذي في وقتهم وصدعوا بدين الحق. { إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وبما أنه رب السموات والأرض: { لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا ۖ لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا } يعني لو قلنا كما قال أهل قريتنا لقلنا قولاً شططا، أي ظلما وجَوراً وكذباً؛ لأن الشرك كذب كما قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا } وهو ظلم كما قال تعالى عن لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }.

{ هَٰؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً ۖ لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ۖ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } {15}

{ هَٰؤُلَاءِ قَوْمُنَا } قالوا فيما بينهم، { هَٰؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً ۖ لَّوْلَا } يعني: هلّا: { يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ } أي: بحجة بينة وواضحة على ما ذكروه، وهذا يدل على ماذا؟ يدل على أن هؤلاء إنما تمسكوا بهذه العقيدة الفاسدة بناء على التقليد والجهل.

{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} ودل هذا على ماذا؟ على أنهم وصفوا الشرك بالله من أنه افتراء وهو كذب.

{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا} {16}

{ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ } تشاوروا فيما بينهم وقالوا: لتعتزلوا قومكم بدينكم حتى يسلم لكم دينكم { وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ } قال بعض العلماء: الاستثناء هنا متصل، بمعنى أنهم عبدوا الله وعبدوا معه غيره، وقيل: الاستثناء منقطع بمعنى من أنهم كانوا يعبدون فقط أصنامهم وما كانوا يعبدون الله، وعلى كل حال، سواء قيل هذا أو بهذا، عبدوا تلك الأصنام وحدها، أو عبدوا تلك الأصنام مع عبادتهم لله فكل هذا شرك.

 { وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ } ودل هذا على أن من اعتزل بدينه وفر بدينه من الفتن فالله عز وجل يعوضه أحسن العوض، ولذا لما ذهب إبراهيم واعتزل عن أبيه وقومه، فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب.  

{ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ } ينشر لكم يعني يوسع لكم ويعطيكم ربكم من رحمته، ورحمته عز وجل واسعة ولذا لما دعوا الله عز وجل فيما مضى: { رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا } أخبروا بذلك لأنهم يرجون ما عند الله وعندهم حسن ظن بالله عز وجل { وَيُهَيِّئْ } أي ويُعِدّ. { وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا } أي: من أمركم هذا الذي به عسر ومشقة يهيئ لكم ما ترتفقون به ويحصل لكم به من رفق وسعادة.

{وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ۗ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ۖ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا } {17}

{ وَتَرَى الشَّمْسَ } وهذا يدل على ماذا؟ يدل على أن تلك الآية أعطاها الله عز وجل لهؤلاء مما يدل على ماذا؟ على أن الله عز وجل ناصرٌ أولياءه وهذا يدل على عظم قصة هؤلاء.

 { وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت } يعني كأنك ترى يعني استحضِر هذا الأمر، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يحضر ذلك وإنما قُص عليه كما قال عز وجل { نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ }

{ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ } بمعنى أنها تميل ذات اليمين ولذا قال ابن كثير – رحمه الله -: دل هذا على أن باب الكهف من جهة الشمال.

 { وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ } بمعنى أنها تذهب وتنصرف عن هؤلاء وتميل عنهم.

{ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ } يعني في فجوة واتساع في ذلكم الغار ومع ذلك لم يصبهم شيء من هذه الشمس من حرارتها وإنما يأتيهم منها نسيمها وهواؤها الذي به تتغير أجواء ما يكون في الكهف مما يكون فيه من أنفاسهم و ما شابه ذلك، ومن ثَم قال بعض العلماء: ذلك لأن الله عز وجل جعل هناك حواجز لم تصل الشمس إلى الكهف، ولكن الصحيح: من أن الشمس بأمر الله عز وجل إذا طلعت تزول عنهم وإذا غربت تعدِلُ وتذهب عنهم فلم يصبهم شيء من ذلك، كل ذلك بأمر الله وهذا يدل على أنها معجزة وآية، ولذا ماذا قال بعدها؟

 { ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ } ذلك أي: ما جرى لهؤلاء مما يكون من هذه الشمس بأمر الله عز وجل: {ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ } أي: من العلامات الدالة على عظمة الله عز وجل وهو المدبر لهذا الكون.

{ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ } يعني مع تلك الآيات والعبر من لم يستفد منها فله الخيبة، ومن استفاد منها فاهتدى فله الخير ولذا بيّن هنا أن الناس انقسموا إلى قسمين: مهتد وضال، فقال:

{ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ۖ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا} لن تجد له من يحفظه، ولن يكون هذا الولي مرشداً له في اختيار ما يريد، لأن الله عز وجل إذا أضل أحداً كما قال تعالى: {مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ } فدل هذا على أن الإنسان عليه أن يعتبر بآيات الله حتى يوفق لهداية الله عز وجل.

{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ۚ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ۖ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ۚ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا } {18}

{ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ } وذلك باعتبار أن أعينهم منفتحة؛ لأنها لو كانت منغلقة لربما أصابها ما أصابها من البلاء فقال هنا {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ } من رآهم يظن أنهم أيقاظ لكنهم رقود.

{ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ۚ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ } وذلك حتى لا تفسد أبدانهم، وأما ما يقال من عدد تقليبهم كما قيل يقلبون في السنة مرتين أو ما شابه ذلك، فليس هناك دليل صحيح فيما ذكروه.

{ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ } يعني مادّ  {ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ } والوصيد هو: فناء الكهف عند الباب، دل هذا على أنه كان معهم هذا الكلب وهذا يدل على ماذا؟ يدل على أن هذا الكلب ذُكر مع هؤلاء لأنهم صحبة أخيار، فانظر كيف ذُكِرَ هذا الكلب مع هؤلاء الأخيار لأنه صحبهم، فكيف لو صحب الإنسان هؤلاء الأخيار!

{ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيد لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ ِ } وهذا يدل على ماذا؟ يدل على ان هذا الكلب من أن بقاءه عند فناء البيت كعادة بقاء الكلاب من أجل الحراسة.

{ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ۚ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا } يعني من شكل أجسامهم وأحوالهم،

 {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} تفر منهم فرار { وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا } بمعنى أن الرعب يدخل في قلبك، فتفر الأقدام ويكون الرعب في القلوب من أجل ماذا؟ من أجل أن يحفظهم الله عز وجل فلا يأتِ أحدٌ إلى هؤلاء فكل ذلك صيانة وحفظاً لهؤلاء.