بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة المؤمنون
من آية (١) إلى آية (٢٢) الدرس (١٨١)
لفضيلة الشيخ/ زيد بن مسفر البحري حفظه الله
ـــــــــــــــــــــــــ
تفسير سورة المؤمنون: هي من السور المكية، وهنا نقول: “تفسير سورة المؤمنون” يعني لو كان في غير القرآن نقول: “سورة المؤمنين” لأنها مضاف ومضاف إليه، لكن هذا يسميه أهلُ العلم من باب الحكاية؛ لأن ما يقال دائماً “سورة المؤمنون”، “سورة الكافرون” مع أن اللفظ من حيث اللغة “سورة الكافرين”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿قَد أَفلَحَ المُؤمِنونَ﴾ (1)
﴿قَد أَفلَحَ﴾ قد هنا للتحقيق كما قال تعالى: ﴿قَد يَعلَمُ اللَّهُ المُعَوِّقينَ﴾ [الأحزاب: ١٨] يعني تحقيق، تحقق فلاح أهل الإيمان، وأتت قد قبل الفعل الماضي أفلح: أي تحقق فلاحهم وقَرُبَ فلاحهم.
ما صفاتهم؟
﴿الَّذينَ هُم في صَلاتِهِم خاشِعونَ﴾ [٢]
خشوع في القلب، الذي يحصلُ منه سكون الجوارح من قلة الحركة، بل من عدم الحركة،
بُكاء العين، ولذلك النبي ﷺ كما ثبت عند ابي داود: إذا قام من الليل لقراءة من القرآن لصدره أزيز كأزيز المرجلِ من البكاء كصوت القدر إذا وضع فيه ماء من خشية الله عز وجل.
﴿وَالَّذينَ هُم عَنِ اللَّغوِ مُعرِضونَ﴾ [٣]
يعرضون عن اللغو، اللغو: هو الكلام الذي لا فائدة منه ولا طائل من ورائه، الفعل والقول الذي لا طائل ولا منفعة منه بل هو لغو؛ لأنهم مشغولون بأمور عِظام بصفاتِ حميدة.
ولذلك ماذا قال الله تعالى ﴿وَإِذا مَرّوا بِاللَّغوِ مَرّوا كِرامًا﴾ [الفرقان: ٧٢]
﴿وَإِذا مَرّوا بِاللَّغوِ﴾ أعرضوا عنه.
﴿وَالَّذينَ هُم لِلزَّكاةِ فاعِلونَ﴾ [٤]
يؤدون الزكاة زكاة الأموال، والسورة مكية دل هذا: أن الصحيح أن الزكاة فُرضت في مكة لقوله تعالى ﴿وَآتوا حَقَّهُ يَومَ حَصادِهِ﴾ [الأنعام: ١٤١] وكما هُنا في هذه الآية،
أما أنصبة الزكاة ففرضت في المدينة، وإذان يدخل فيهِ قول من يقول ﴿وَالَّذينَ هُم لِلزَّكاةِ فاعِلونَ﴾ يعني يزكونَ قلوبَهم ﴿قَد أَفلَحَ مَن زَكّاها﴾ [الشمس: ٩].
﴿وَالَّذينَ هُم لِفُروجِهِم حافِظونَ (5)إِلّا عَلى أَزواجِهِم أَو ما مَلَكَت أَيمانُهُم فَإِنَّهُم غَيرُ مَلومينَ(6) فَمَنِ ابتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادونَ (7)﴾ [المؤمنون]
يحفظون فُروجهم ولذلك النبي ﷺ كما ثبت عنه قال: “احفظْ عورتَك إلا من زوجتِك أو ما ملكت يمينُكَ” ﴿إِلّا عَلى أَزواجِهِم أَو ما مَلَكَت أَيمانُهُم﴾ من الإماء الرقيقات إذا تملكوها ﴿فَإِنَّهُم غَيرُ مَلومينَ﴾ أي لا يلامون على إتيان زوجاتهم وعلى ما ملكت أيمانهم لأن الله أباح لهم ذلك.
﴿فَمَنِ ابتَغى﴾ أي طلب ﴿وَراءَ ذلِكَ﴾ أي من غير الأزواج والإماء ﴿فَأُولئِكَ هُمُ العادونَ﴾ المتجاوزون لحدود الله، ولذلك يدخل في ذلك فعل اللواط، ولذلك قال عز وجل: ﴿أَتَأتونَ الذُّكرانَ مِنَ العالَمينَ*وَتَذَرونَ ما خَلَقَ لَكُم رَبُّكُم مِن أَزواجِكُم بَل أَنتُم قَومٌ عادونَ﴾ [الشعراء:١٦٥-١٦٦]
فدلّ هذا على أنه لا يجوزُ للإنسان أن يضع فرجَهُ إلا في زوجتهِ أو ما ملكت يمينُهُ ما سوى ذلك فلا، ولذلك الاستمناء باليد محرم ولا يجوز للإنسان أن يستمني إلا إذا كان في حالة لو لم يحصل منه استمناء لوقع في فاحشة الزنا، هنا تأتي القاعدة الشرعية: يُختار أهونُ الشرين ولذلك قال عز وجل كما سيأتي معنا في سورة النور: ﴿وَليَستَعفِفِ الَّذينَ لا يَجِدونَ نِكاحًا حَتّى يُغنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضلِهِ﴾ فدلّ هُنا على أن الاستمناء لا يكون جائزاً
لذلك من يقول إنه بمنزلة الطعام والشراب أو بمنزلة إخراج الفضلات من بول أو غائط!
فالأدلة واضحة هُنا وفرق بين هذا وبين هذا، الشراب والطعام أباحه الله وإخراج الفضلات هذه لو لم يخرجها الإنسان وأبقاها في بدنهِ لهلك، أما هذه فهو هو الذي يستدعيها، فمن ثم يكون الاستمناءُ محرما إلا إذا كاد الإنسان كما سلف سيقع في فاحشة الزنا فهنا لو لم يستمنِ لوقع، هنا يقال له: يجوز الاستمناء للدفع أعلى المفسدتين بإرتكاب أخفهما ويختار أهون الشرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿وَالَّذينَ هُم لِأَماناتِهِم وَعَهدِهِم راعونَ﴾ [٨]
الأمانات يشمل كل ما اؤتمن عليه الإنسان فيما يتعلق بحقوق ربه وبحقوق المخلوقين.
ومن أعظم ما يكون من الأمانات: التوحيد، فالتوحيد أمانة، فالله عز وجل أودع التوحيد في قلبك في فطرتك، ولذلك قال الله تعالى: ﴿فِطرَتَ اللَّهِ الَّتي فَطَرَ النّاسَ عَلَيها لا تَبديلَ لِخَلقِ اللَّهِ﴾ [الروم: ٣٠] فالعبادات كُلها أمانة،
والأمانات التي عندك للناس هي أمانة،
العهود التي تكون بينك وبين المخلوقين هذه يجب أن تحفظ وأن تؤدى،
أيضاً العهود التي عهد الله بها عليك وألزمك بها في شرعه هذه عهود يجب أن تؤديها.
ولذلك قال عز وجل: ﴿وَالَّذينَ هُم لِأَماناتِهِم وَعَهدِهِم راعونَ﴾ يراعون ذلك أشد المراعاة بحيث يؤدونها على الوجه الأكمل الأتم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿وَالَّذينَ هُم عَلى صَلَواتِهِم يُحافِظونَ﴾ [٩]
كررها مرة أخرى لمزية الصلاة: ﴿قَد أَفلَحَ المُؤمِنونَالَّذينَ هُم في صَلاتِهِم خاشِعونَ﴾ ذلكم في صلب الصلاة الخشوع، هنا قال ﴿وَالَّذينَ هُم عَلى صَلَواتِهِم يُحافِظونَ﴾ [المؤمنون: ٩] دل هذا على أن الواجب عليك أن تُحافظ على الصلاة وإذا أديتها عليك أن تؤديها بخشوع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿أُولئِكَ هُمُ الوارِثونَ(10)الَّذينَ يَرِثونَ الفِردَوسَ هُم فيها خالِدونَ(11)﴾
يرثون ما بعده فسره: ﴿الَّذينَ يَرِثونَ الفِردَوسَ هُم فيها خالِدونَ﴾ يرثون الفردوس ولذلك ثبت في الحديث الصحيح قال ﷺ:
” مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا لَهُ مَنْزِلَانِ: مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ، فَإِذَا مَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ وَرِثَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنْزِلَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ } “.
ولذلك قال ﷺ كما عند البخاري: “إذا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ؛ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، وفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ “.
﴿هُم فيها خالِدونَ﴾ باقون ودائمون لا يبغون عنها حِوَلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)﴾
هنا لما أنكرت كفار قريش أن الناس لا يعودون بعد موتهم ذكَّرَهُم الله عز وجل بأصل خلقتهم فالذي أوجدهم من العدم قادر على أن يعيدَهم: ﴿وَهُوَ الَّذي يَبدَأُ الخَلقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَهُوَ أَهوَنُ عَلَيهِ﴾ [الروم:27]
﴿وَلَقَد خَلَقنَا الإِنسانَ﴾ مَن؟ آدم الأصل ﴿مِن سُلالَةٍ مِن طينٍ﴾ سلالة يعني استُلَّتْ وأُخِذت من طين، استُلتْ وهذا يدل على كلمة سلالة على أنها قليلة، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح قوله ﷺ:
إن الله لما أراد أن يخلق آدم أخذ قبضة من الأرض-من أنواع الأرض- فأتوا بني آدم على طبيعة الأرض منهم الأبيض والأسود وبين ذلك ومنهم السهل ومنهم الصعب.
﴿ثم جَعَلناهُ﴾ نوع البشر ليس آدم، ولذلك قال الله عز وجل في سورة السجدة: ﴿وَبَدَأَ خَلقَ الإِنسانِ مِن طينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسلَهُ مِن سُلالَةٍ مِن ماءٍ مَهينٍ ثُمَّ سَوّاهُ وَنَفَخَ فيهِ مِن روحِهِ﴾ الآية[السجدة]
فقال هُنا (ثُمَّ جَعَلناهُ) نوع بني آدم كأمثالنا.
﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطفَةً في قَرارٍ مَكينٍ﴾ وهو الرحم قرار مكين، في مكان مكين تمكنت النطفة فيه وهو مكان استقرت فيه ومحفوظ ولذلك قال عز وجل: ﴿أَلَم نَخلُقكُم مِن ماءٍ مَهينٍ فَجَعَلناهُ في قَرارٍ مَكينٍ إِلى قَدَرٍ مَعلومٍ﴾ [المرسلات: ٢٠-٢٢]
﴿ثُمَّ خَلَقنَا النُّطفَةَ عَلَقَةً﴾ النطفة البيضاء جعلها علقة، العلقة هي دم أحمر ﴿فَخَلَقنَا العَلَقَةَ مُضغَةً﴾ قال فَخَلَقنَا: لم يقل “ثم” الفاء هُنا للتعقيب، لكن كل تعقيب بحسبه لا يلزم أن يكون مباشرة، لذلك في الحديث الصحيح في حديث ابن مسعود بين كُل طَور وطَور أربعون يوماً.
﴿فَخَلَقنَا العَلَقَةَ مُضغَةً﴾ المضغة قطعة لحم، بقدر ما يأكل الإنسان من الشاة او كذا يأكل منها قطعة يسيرة تُمضَغ.
فقال هنا ﴿فَخَلَقنَا المُضغَةَ عِظامًا﴾ سُبحان الله تلك اللحمة أصبحت عِظاماً ﴿فَكَسَونَا العِظامَ لَحمًا﴾ سُبحان الله ذلكم العظم الذي أصلُه من مضغة اللحم كُسِيَ بلحم ﴿ثُمَّ أَنشَأناهُ خَلقًا آخَرَ﴾ تتطور إلى أن خرج ثمَ صار ما صار.
كما قال عز وجل: ﴿يا أَيُّهَا النّاسُ إِن كُنتُم في رَيبٍ مِنَ البَعثِ فَإِنّا خَلَقناكُم مِن تُرابٍ ثُمَّ مِن نُطفَةٍ ثُمَّ مِن عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُضغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُم وَنُقِرُّ فِي الأَرحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخرِجُكُم طِفلًا ثُمَّ لِتَبلُغوا أَشُدَّكُم وَمِنكُم مَن يُتَوَفّى وَمِنكُم مَن يُرَدُّ إِلى أَرذَلِ العُمُرِ﴾ [الحج: ٥].
﴿فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحسَنُ الخالِقينَ﴾ كثُر خير الله وأستمر خير الله وخير الله باقٍ ودائم وهذا تدُل عليه كلمة (تبارك) (فتبارك الله) وكلمة تبارك لا تجوز أن تُطلق إلا على الله.
﴿فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحسَنُ الخالِقينَ﴾ قال هُنا {أَحسَنُ الخالِقينَ} هل هُناك أحدً يخلق سوى الله عز وجل؟ فالجواب عن هذا: ﴿فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحسَنُ الخالِقينَ﴾ يعني أحسن المصورين والمقدرين لأن ابن آدم قد يصور الشيء ويقدرُهُ، ولكن إذا صنعهُ لايمكن أن يكون إلا بأمر الله، ولذلك قال ﷺ كما ثبت عنه: “إنَّ الله خالقُ كُلِّ صَانعٍ وصَنْعَتِه”
ولذلك قال عز وجل: ﴿وَتُبرِئُ الأَكمَهَ وَالأَبرَصَ بِإِذني﴾ [المائدة: ١١٠] وفي أواخر سورة الحشر ﴿هُوَ اللَّهُ الخالِقُ البارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسماءُ الحُسنى﴾ [الحشر: ٢٤]
هُوَ اللَّهُ الخالِقُ البارِئُ: لأن الإنسان قد يقدر الشيء كتقدير لكنه لا يستطيع أن يخلق، لكن هُنا قال في أواخِر سورة الحشر: ﴿هُوَ اللَّهُ الخالِقُ﴾ يقدرُهُ ﴿البارِئُ﴾ الذي ينشؤهُ ثم بعد ذلك يصورهُ:
﴿هُوَ الَّذي يُصَوِّرُكُم فِي الأَرحامِ كَيفَ يَشاءُ﴾ [آل عمران: ٦]
﴿ثُمَّ إِنَّكُم بَعدَ ذلِكَ لَمَيِّتونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُم يَومَ القِيامَةِ تُبعَثونَ (16)﴾
بعد تلك الأطوار المرد إلى الموت ﴿ثُمَّ إِنَّكُم بَعدَ ذلِكَ لَمَيِّتونَ﴾ لكن لو مات الإنسان وانتهى الأمر لكان الأمر هينا ﴿ثُمَّ إِنَّكُم يَومَ القِيامَةِ تُبعَثونَ﴾ للجزاء والحساب وفي هذا ردٌّ على كُفار قريش فذكّرهم بأصل خلقِهم من أن الله عز وجل كما أنشأهم من العدم قادرٌ على أن يُعيدهم مرةً أخرى.
﴿وَلَقَد خَلَقنا فَوقَكُم سَبعَ طَرائِقَ وَما كُنّا عَنِ الخَلقِ غافِلينَ﴾ [١٧]
لما ذكر عز وجل دلائل على قُدرتهِ على إحياء الموتى بالرجوع إلى أصل ابنِ آدم ذكَّرهم بعلامة علوية هي السماء ﴿وَلَقَد خَلَقنا فَوقَكُم﴾ انظروا إليه، قال تعالى: ﴿أَفَلَم يَنظُروا إِلَى السَّماءِ فَوقَهُم كَيفَ بَنَيناها وَزَيَّنّاها وَما لَها مِن فُروجٍ﴾ [ق: ٦] يتأمل لمن في قلبهِ عقل وفَهْم.
فقال هُنا ﴿وَلَقَد خَلَقنا فَوقَكُم سَبعَ طَرائِقَ﴾ طَرائق يعني أن سماوات فوق سماء أخرى،
سماء على سماء هذه معنى الطرائق، ولذلك قال عز وجل عن السموات:
﴿الَّذي خَلَقَ سَبعَ سَماواتٍ طِباقًا﴾ [الملك: ٣]
وقال بعضُ العُلماء ﴿وَلَقَد خَلَقنا فَوقَكُم سَبعَ طَرائِقَ﴾ بمعنى أنها طُرق للملائكة ولا تعارض بينهما فهي طرق للملائكة من حيث الصعود والهبوط، وأيضاً هي سماء فوق سماء
وهي سماوات قوية شديدة ﴿وَبَنَينا فَوقَكُم سَبعًا شِدادًا﴾ [النبأ: ١٢] ولذلك هُنا فيه دعوة إلى التأمل والنظر في هذه السماء.
﴿وَما كُنّا عَنِ الخَلقِ غافِلينَ﴾ الله عز وجل ماذا قال: ﴿لا تَأخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَومٌ﴾ [البقرة: ٢٥٥] ﴿وَما كُنّا عَنِ الخَلقِ غافِلينَ﴾ فهو عز وجل لكمال حياتهِ وقيوميته لم يكن عن الخلق غافلا عز وجل ومن ذلك السماوات، فإنه تعالى الله عن ذلك لو كان يصُيبهُ ما يصيبهُ من النسيان والغفلة عن خلقهِ لانطبقت السماواتُ على الأرض، ولذا ماقال ﷺ كما ثبت عنهُ في الصحيحين قال:
“إنَّ اللهَ لا ينامُ، ولا ينبغي له أن ينامَ”
فقال هُنا: ﴿وَما كُنّا عَنِ الخَلقِ غافِلينَ﴾ وهذا شامل حتى أنت يا ابن آدم الله عز وجل ليس بغافل عنك ولذلك قال تعالى: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعمَلونَ﴾ [البقرة: ٧٤] يعني إذا دعوت الله لتفريج هم، أو لتنفيس كَرب، أو لحصول مال، أو لدفع ضائقة، أو ما شابه ذلك: ﴿وَما كُنّا عَنِ الخَلقِ غافِلينَ﴾.
﴿وَأَنزَلنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسكَنّاهُ فِي الأَرضِ وَإِنّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرونَ﴾ [١٨]
تلك آية أخرى ﴿وَأَنزَلنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ﴾ بقدر: يعني ما تحتاجون إليه لإنه إذا زاد صار الدمارُ والخراب ولو نقص لم يفِ بالحاجة ولذلك قال تعالى كما مر معنا ﴿وَما نُنَزِّلُهُ إِلّا بِقَدَرٍ مَعلومٍ﴾ [الحجر: ٢١]
ولذلك قال تعالى: ﴿وَلَقَد صَرَّفناهُ بَينَهُم﴾ [الفرقان: ٥٠] فقال عز وجل هُنا: ﴿فَأَسكَنّاهُ فِي الأَرضِ﴾ جعل هذا الماء النازل في الأرض، وهذا يدل على أن المياه التي يستخرجها الناس من الآبار هي من ماء السماء، ولذلك قال عز وجل: ﴿فَسَلَكَهُ يَنابيعَ فِي الأَرضِ﴾ [الزمر: ٢١]
فقال هُنا: ﴿وَإِنّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرونَ﴾ فاشكروا الله ﴿وَإِنّا عَلى ذَهابٍ بِهِ﴾ إما أن نذهب به نهائيا وإما أن يذهب به إلى أعماقِ أعماقِ أعماقِ الأرض فلن تستطيع أن تصل إليه بحبل أو ما شابه ذلك، ولذلك قال الله تعالى ﴿قُل أَرَأَيتُم إِن أَصبَحَ ماؤُكُم غَورًا فَمَن يَأتيكُم بِماءٍ مَعينٍ﴾ [الملك: ٣٠].
﴿فَأَنشَأنا لَكُم بِهِ جَنّاتٍ مِن نَخيلٍ وَأَعنابٍ لَكُم فيها فَواكِهُ كَثيرَةٌ وَمِنها تَأكُلونَ﴾ [١٩]
﴿فَأَنشَأنا لَكُم بِهِ﴾ خلق الله لكم وأنشأ لكم من هذا الماء بسببهِ ﴿جَنّاتٍ﴾ أي بساتين مِن ﴿نخيلٍ وَأَعنابٍ﴾ خص النخيل والأعناب لأن هي المعروفة والمشهورة عند العرب
﴿لَكُم فيها﴾ أي في الجِنان البساتين ﴿فَواكِهُ كَثيرَةٌ﴾ دل هذا على أن تلك الجنان مع ما فيها من ثمار النخيل والأعناب أيضاً بها ثمار أخرى
ويحتمل أيضاً كما قال بعض المفسرين: ﴿لَكُم فيها فَواكِهُ﴾ الضمير يعود فيها إلى بساتين النخيل والأعناب، فدل هذا على أن الرُطب والتمر والعنب والزبيب يُعد من الفواكه ولذا ماذا قال عز وجل: ﴿فيهِما فاكِهَةٌ وَنَخلٌ وَرُمّانٌ﴾ [الرحمن: ٦٨] لما قال ﴿وَنَخلٌ﴾ قد يُظن أن النخل ليس من الفواكه لأنه أفردها فدلت هذه الآية على أنه يطلق أيضاً على الرطب فاكهة والعنب فاكهة.
﴿لَكُم فيها فَواكِهُ كَثيرَةٌ وَمِنها تَأكُلونَ﴾ لكم فيها فواكه كثيرة حتى الإنسان لو لم يأكل كل الثمار فقد يبيع بعضها، النظر إلى تلك الثمار متعة.
﴿وَشَجَرَةً تَخرُجُ مِن طورِ سَيناءَ تَنبُتُ بِالدُّهنِ وَصِبغٍ لِلآكِلينَ﴾ [20]
﴿وَشَجَرَةً﴾ يعني أنشأ لكم بسبب هذا الماء شجرة، خُصت هذه الشجرة وهي شجرة الزيتون لطيبها، ولذلك قال الله عز وجل: ﴿يوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيتونَةٍ لا شَرقِيَّةٍ وَلا غَربِيَّةٍ﴾ [النور: ٣٥]
وقال النبي ﷺ كما ثبت عنه: ” كُلُوا الزَّيتَ وادَّهِنوا به فإنَّه مِن شجرةٍ مُبارَكةٍ “.
﴿تَخرُجُ مِن طورِ سَيناءَ﴾ من طور يعني من جبل سيناء، هي تنبت في غيره، لكن لماذا خُصَّ هنا بسيناء؟ لأنها الأصل ثم نقلت إلى أماكن أخرى فنبتت فيها، أو لأن هذه الأشجار تنبت بسهولة في ذلك الجبل.
﴿ سَيناءَ﴾ سُمي بسيناء لمَ؟ سيناء يعني الحسن لِحُسنهِ ولكثرة ما فيه من الأشجار
﴿تَنبُتُ بِالدُّهنِ﴾ يعني أنها تنبت مصحوبةً بالدهنِ: الزيت ” كُلُوا الزَّيتَ وادَّهِنوا به فإنَّه مِن شجرةٍ مُبارَكةٍ “.
﴿وَصِبغٍ لِلآكِلينَ﴾ إدام، لأن الخبزة إذا وضعت في الزيت هنا إدام تُصبَغُ فيه فتتغير، لأن الصبغَ هو تغير اللون، فإذا وضع الشيء المأكول فيه تغير لونه ﴿وَصِبغٍ﴾ يعني إدام ﴿لِلآكِلينَ﴾.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿وَإِنَّ لَكُم فِي الأَنعامِ لَعِبرَةً نُسقيكُم مِمّا في بُطونِها وَلَكُم فيها مَنافِعُ كَثيرَةٌ وَمِنها تَأكُلونَ﴾ [٢١]
﴿وَإِنَّ لَكُم فِي الأَنعامِ﴾ دلائل على عظمة الله عز وجل، ما ينشئ هذه الأشياء إلا الله عز وجل الذي يستحق العبودية ﴿لَعِبرَةً﴾ لعظة ﴿نُسقيكُم مِمّا في بُطونِها﴾ كما مر معنا مفصلا في قوله تعالى في سورة النحل: ﴿وَإِنَّ لَكُم فِي الأَنعامِ لَعِبرَةً نُسقيكُم مِمّا في بُطونِهِ مِن بَينِ فَرثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خالِصًا سائِغًا لِلشّارِبينَ﴾ [النحل: ٦٦] لبن يخرج من بين فرث ومن بين دم ولم يختلط لا بدم ولا بروث سبحان الله العظيم.
﴿وَلَكُم فيها مَنافِعُ كَثيرَةٌ﴾ في تلك البهائم بهيمة الأنعام الإبل والبقر والغنم منافع كثيرة: الركوب وشرب اللبن، قال عز وجل: ﴿أَوَلَم يَرَوا أَنّا خَلَقنا لَهُم مِمّا عَمِلَت أَيدينا أَنعامًا فَهُم لَها مالِكونَوَذَلَّلناها لَهُم فَمِنها رَكوبُهُم وَمِنها يَأكُلونَوَلَهُم فيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشكُرونَ﴾ [يس: ٧١-٧٣] ﴿وَالأَنعامَ خَلَقَها لَكُم فيها دِفءٌ وَمَنافِعُ وَمِنها تَأكُلونَ﴾ [النحل: ٥] ﴿وَمِنها تَأكُلونَ﴾ تأكلون من هذه البهائم.
﴿وَعَلَيها وَعَلَى الفُلكِ تُحمَلونَ﴾ [المؤمنون: ٢٢]
﴿وَعَلَيها﴾ الضمير هُنا يعود إلى الإبل لأن هي التي تُركب ﴿وَعَلَى الفُلكِ﴾ يعني السفن ﴿تُحمَلونَ﴾ يعني تحملكم تلك الإبل إلى ما تريدون في السفر، وكذلك كما جعل لكم ما تركبونهُ في البر والصحراء وهي الإبل جعل ما تركبونه على البحر وهي السفن.