تفسير سورة النحل من الآية (111) إلى ( آخر السورة ) الدرس (156)

تفسير سورة النحل من الآية (111) إلى ( آخر السورة ) الدرس (156)

مشاهدات: 563

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة النحل من الآية ( 111) إلى نهاية السورة

لفضيلة الشيخ زيد البحري حفظه الله

قوله تعالى :

﴿يَومَ تَأتي كُلُّ نَفسٍ تُجادِلُ عَن نَفسِها وَتُوَفّى كُلُّ نَفسٍ ما عَمِلَت وَهُم لا يُظلَمونَ﴾ (111)

 

{يَومَ تَأتي} اذكر يوم تأتي {كُلُّ نَفسٍ تُجادِلُ عَن نَفسِها} تجادل: تُنافح وتُدافع. وتنبه هنا قال: {يَومَ تَأتي كُلُّ نَفسٍ تُجادِلُ} عمن؟ {عَن نَفسِها} أكَّد ذلك من أنه يدل على أن كلَّ نفسٍ مشغولة بنفسها كما قال عزوجل في أواخر سورة عبس {لِكُلِّ امرِئٍ مِنهُم يَومَئِذٍ شَأنٌ يُغنيهِ}

 فقال عزوجل: { وَتُوَفّى كُلُّ نَفسٍ ما عَمِلَت } تُوَفّى : أي تُجزى كل نفس { ما عَمِلَت } ما عملته من خير أو شر { وَتُوَفّى كُلُّ نَفسٍ ما عَمِلَت وَهُم لا يُظلَمونَ } لكمال عدله عزوجل .

 

﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَريَةً كانَت آمِنَةً مُطمَئِنَّةً يَأتيها رِزقُها رَغَدًا مِن كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَت بِأَنعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الجوعِ وَالخَوفِ بِما كانوا يَصنَعونَ﴾ (112)

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَريَةً كانَت آمِنَةً مُطمَئِنَّةً} لما ذكر ما يتعلق بصدود كفار قريش، ذكر هنا من أنهم كانوا في حالةٍ طيبة في تلك البلاد من الأمن والخير لكنهم لما كفروا بنعمة الله عزوجل وذلك من أعظمها ما يكون مما أتى به محمدٌ ﷺ سلط الله عليهم محمدًا ﷺ في فتح مكة، ففتح مكة، وهذا قولٌ لِأَحَد العلماء.

والقول الآخر: من أن الآية لا تخص مكة وإنما هي شاملة لكل قرية كانت هذه الصفات صفاتًا لها – ولا تعارضَ بينهما – لِمَ؟ لأن هذه الآية وإن كانت في أهل مكة إلا أنها تشمل كل قرية صنعت صنيعَها ودليل ذلك أنه قال بعدها {وَلَقَد جاءَهُم رَسولٌ مِنهُم فَكَذَّبوهُ} إذًا كفار قريش في مكة جرى لهم ما جرى من هذا العذاب وكذلك فيه تحذير لكل قرية تأتي بعدها،

 {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} ذلكم المثل ما هو؟  {قَريَةً كانَت آمِنَةً مُطمَئِنَّةً} آمنة كما قال تعالى: {أَوَلَم نُمَكِّن لَهُم حَرَمًا آمِنًا يُجبى إِلَيهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيءٍ رِزقًا مِن لَدُنّا} وقال هنا: {مُطمَئِنَّةً} سبحان الله! ذَكَر الاطمئنان بعد الأمان لِم؟ لأن القرية قد تكون آمنة لكنها غير مستقرة الحال والبال لأنهم يخشون مما سيكون مما حولهم أو أنه يأتيهم ما يسوؤهم من فقرٍ أو من كربٍ أو ما شابه ذلك.

فقال هنا مبينًا من أنهم كانوا في أمن وفي اطمئنان ولذا قال عزوجل:

 {أَوَلَم يَرَوا أَنّا جَعَلنا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النّاسُ مِن حَولِهِم} {كانَت آمِنَةً مُطمَئِنَّةً يَأتيها رِزقُها} قال {يَأتيها} لا تذهب وإنما يأتيها {يَأتيها رِزقُها} مما قدره الله عزوجل وهم في تلك الأماكن التي قال عنها إبراهيم {رَبَّنا إِنّي أَسكَنتُ مِن ذُرِّيَّتي بِوادٍ غَيرِ ذي زَرعٍ عِندَ بَيتِكَ المُحَرَّمِ}

فتأمل هنا {يَأتيها رِزقُها} وأيُّ رزق؟ {رَغَدًا} يعني واسعًا كثيرًا {يَأتيها رِزقُها رَغَدًا مِن كُلِّ مَكانٍ} مِن كُلِّ مَكانٍ: مما يدل على أن الأنعام تتوافد عليهم من كل جهة كما قال تعالى:

 {أَوَلَم نُمَكِّن لَهُم حَرَمًا آمِنًا يُجبى إِلَيهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيءٍ رِزقًا مِن لَدُنّا} من عند الله عزوجل فقال هنا: {يَأتيها رِزقُها رَغَدًا مِن كُلِّ مَكانٍ} لكن ماذا جرى منها؟

 { فَكَفَرَت بِأَنعُمِ اللَّهِ } فَكَفَرَت بِأَنعُمِ اللَّهِ: كفرت بنعمة الله عزوجل وأعظم هذه النعم ما جاء به محمد ﷺ كما مرَّ معنا في قوله تعالى: { أَلَم تَرَ إِلَى الَّذينَ بَدَّلوا نِعمَتَ اللَّهِ كُفرًا وَأَحَلّوا قَومَهُم دارَ البَوارِ }

  {فَأَذاقَهَا اللَّهُ } فَأَذاقَهَا  قال هنا : { فَأَذاقَهَا } لأن الذَّوْق هو أول ما يصل إلى الفم مما يدل على أنه عذاب مؤلم موجع { فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الجوعِ وَالخَوفِ بِما كانوا يَصنَعونَ } { فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ } قال : لِباسَ وليس شيئًا من الخوف ، بل إن الخوف والجوع لباسًا غطى هؤلاء مما يدل على أنه شَمَلَهُم { فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الجوعِ } ولذا لما دعا عليهم النبي ﷺ كما ثبت عنه :

(اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف ) حتى إنهم أكلوا الجِيَف من شدة الجوع فقال عزوجل {فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الجوعِ وَالخَوفِ بِما كانوا يَصنَعونَ} بسبب أعمالهم الأثيمة ولذا قال تعالى :

 

﴿وَلَقَد جاءَهُم رَسولٌ مِنهُم فَكَذَّبوهُ فَأَخَذَهُمُ العَذابُ وَهُم ظالِمونَ (113)

{وَلَقَد جاءَهُم رَسولٌ مِنهُم فَكَذَّبوهُ} جاءهم محمد ﷺ منهم، لكنهم كذبوه {وَلَقَد جاءَهُم رَسولٌ مِنهُم فَكَذَّبوهُ فَأَخَذَهُمُ العَذابُ وَهُم ظالِمونَ} أخذهم عذابُ الله عزوجل كما حصل لصناديدهم لما أخذهم العذاب في غزوة بدر وأُلْقُوا في البئر فأخذهم العذاب {وَهُم ظالِمونَ} أي حالةَ كونهم ظالمين {وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِن كانوا أَنفُسَهُم يَظلِمونَ}

 

﴿فَكُلوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاشكُروا نِعمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُم إِيّاهُ تَعبُدونَ﴾ (114)
 {فَكُلوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا} هنا لما ذكر ما يتعلقُ بأولئك الكفرة أتى بالفاء المترتبة على ما مضى من أنكم أنتم يا أهل الإيمان كلوا من رزق الله عزوجل واشكروه { فَكُلوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا } ومر معنا ما يتعلق بمعنى الحلال والطَّيِّب في سورة البقرة.

 { فَكُلوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاشكُروا نِعمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُم إِيّاهُ تَعبُدونَ} ومرَّت معنا هذه الآية في سورة البقرة لكن في سورة البقرة  {وَاشكُروا لِلَّهِ} قال هنا : {وَاشكُروا نِعمَتَ اللَّهِ} ولا شك أن من قام بحقوق هذه النعمة فلا شك أنه شاكر لله عزوجل، لأن الله هو الذي أنعم بها على هذا العبد أو على هؤلاء الناس فمتى ما قاموا بحقوق هذه النعمة مما فرضه عزوجل عليهم فإنهم يشكرون الله عزوجل.

 

﴿إِنَّما حَرَّمَ عَلَيكُمُ المَيتَةَ وَالدَّمَ وَلَحمَ الخِنزيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضطُرَّ غَيرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفورٌ رَحيمٌ﴾ (115)

{إِنَّما حَرَّمَ} لما ذكر ما هو حلال لهم بيَّن لهم ما يتعلق بتحريم أشياء معينة {إِنَّما حَرَّمَ عَلَيكُمُ المَيتَةَ وَالدَّمَ وَلَحمَ الخِنزيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضطُرَّ غَيرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفورٌ رَحيمٌ} ومرَّت معنا هذه الآية مفصلة في سورة البقرة، ومرَّ معنا في سورة الأنعام الفرق بين قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفورٌ رَحيمٌ} وبين قوله: {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفورٌ رَحيمٌ}.

 

﴿وَلا تَقولوا لِما تَصِفُ أَلسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفتَروا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذينَ يَفتَرونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لا يُفلِحونَ﴾ (116)

{وَلا تَقولوا لِما تَصِفُ أَلسِنَتُكُمُ الكَذِبَ}: يعني لا تقولوا الكذب لِما تَصِفُهُ ألسنتكم، ووصْفُ ذلك يدل على أن ألسنتهم لا تُخرِج إلا الكذبَ فقط {وَلا تَقولوا لِما تَصِفُ أَلسِنَتُكُمُ الكَذِبَ} وأيضًا يدل على أنه كَذِبٌ والكذب من أصله لا حجة فيه كذلك إنما هؤلاء كَذَبوا وليس لهم حُجّة فيما ذَكَروه.

 {وَلا تَقولوا لِما تَصِفُ أَلسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفتَروا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} وهذا كشأن كفار قريش لمَّا حرَّموا بعض الأنعام، وجعلوا لله عزوجل من الزرع وجعلوا للأصنام ما لها كما في سورة الأنعام {وَقالوا هذِهِ أَنعامٌ وَحَرثٌ حِجرٌ لا يَطعَمُها إِلّا مَن نَشاءُ بِزَعمِهِم} ومر معنا ذلك مفصلًا، ويدخل في ذلك ما يتعلق بأهل هذه الملة فلا يجوز لأحدٍ أن يقول هذا حلال وهذا حرام دون أن يكون له دليل شرعي فيما ذَكَره، ولذا قرن الله عزوجل بينه وبين الشرك كما قال تعالى: { قُل إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وَما بَطَنَ وَالإِثمَ وَالبَغيَ بِغَيرِ الحَقِّ وَأَن تُشرِكوا بِاللَّهِ ما لَم يُنَزِّل بِهِ سُلطانًا وَأَن تَقولوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعلَمونَ}.

 { لِتَفتَروا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ}  لِتَفتَروا: والافتراء هو أعظم الكذب { لِتَفتَروا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} يعني من أنكم لو افتريتم الكذب على المخلوق لكان عظيمًا فكيف تفترون على الله الكذب { إِنَّ الَّذينَ يَفتَرونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لا يُفلِحونَ } لا يُفلِحونَ : لا يتحصلون على مطلوب ولا ينجَون من مرهوب ثم قال :

 

﴿مَتاعٌ قَليلٌ وَلَهُم عَذابٌ أَليمٌ﴾ (117)

{مَتاعٌ قَليلٌ} يستمتعون في هذه الدنيا بما حرموه وبما أحلوه، وأيضًا يستمتع بعضهم إذا قيل له من أنه عالم أو من أنه مفتي وهو يتصدر للناس، فهو يُعَظّم ويُقَدَّر ويوضع في المجالس فذا متاعٌ قليل لأنه صدَّر نفسَه للعلم وهو ليس بعالم فقال عزوجل:{ مَتاعٌ قَليلٌ وَلَهُم عَذابٌ أَليمٌ } أي عذابٌ مؤلم فإن المَرَدَّ إلى الله عزوجل، فهؤلاء لمّا كانوا يستمتعون في الدنيا بهذا القَول من أن هذا حلال وهذا حرام قال هنا : {وَلَهُم عَذابٌ أَليمٌ} أي مؤلم بمعنى أنه يُعذِّبُ هؤلاء جراء ما استمتعت به قلوبهم، ولذا كان بعض السلف ينهى من أن يقول : هذا حلال وهذا حرام حتى يكون لديه دليلٌ صحيح فيما يتعلق بهذه المسألة.

 

﴿وَعَلَى الَّذينَ هادوا حَرَّمنا ما قَصَصنا عَلَيكَ مِن قَبلُ وَما ظَلَمناهُم وَلكِن كانوا أَنفُسَهُم يَظلِمونَ﴾ (118)

{وَعَلَى الَّذينَ هادوا حَرَّمنا} يعني على اليهود {حَرَّمنا ما قَصَصنا عَلَيكَ مِن قَبلُ} وقصَّ الله عزوجل عليه من قبل ما ذكره في سورة الأنعام كما مرّ معنا  {وَعَلَى الَّذينَ هادوا حَرَّمنا كُلَّ ذي ظُفُرٍ وَمِنَ البَقَرِ وَالغَنَمِ حَرَّمنا عَلَيهِم شُحومَهُما إِلّا ما حَمَلَت ظُهورُهُما أَوِ الحَوايا أَو مَا اختَلَطَ بِعَظمٍ ذلِكَ جَزَيناهُم بِبَغيِهِم وَإِنّا لَصادِقونَ} فقال هنا: { وَعَلَى الَّذينَ هادوا حَرَّمنا ما قَصَصنا عَلَيكَ مِن قَبلُ} ولذا قال: {وَما ظَلَمناهُم} وَما ظَلَمناهُم وذلك لكمال عدله {وَلكِن كانوا أَنفُسَهُم يَظلِمونَ} لأنهم تكبروا وطغوا ثم قال عزوجل :

 

﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذينَ عَمِلُوا السّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابوا مِن بَعدِ ذلِكَ وَأَصلَحوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعدِها لَغَفورٌ رَحيمٌ﴾ (119)

{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذينَ عَمِلُوا السّوءَ بِجَهالَةٍ} يعني من أن من عمل السوء ثم تاب إلى الله عزوجل {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذينَ عَمِلُوا السّوءَ} وكلمة الرب تدل على ماذا؟ تدل على أنه عزوجل يرعى ويحفظ ويتولى شؤون خلقه، فمن تاب إليه فإن الله عزوجل يحب التوابين.

 {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذينَ عَمِلُوا السّوءَ} يعني الذنب {بِجَهالَةٍ} أي حالة كونهم متعمدين لذلك، ولذا قال بعض السلف: كل من عصى الله فهو جاهل ولو كان أعلمَ الناس لأنه جَهِل عظمة الله عزوجل إذ أقدم على هذه المعصية، ولذا قال بعض السلف قال: لا تنظر إلى المعصية من حيث هي ولكن انظر إلى عظمة من عصيت.

{ثُمَّ تابوا مِن بَعدِ ذلِكَ وَأَصلَحوا} ثُمَّ تابوا مِن بَعدِ ذلِكَ: أي من ذلكم السوء ومن ذلكم الذنب {وَأَصلَحوا} يعني بعد ذلك أصلحوا أعمالهم وأقوالهم {وَأَصلَحوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعدِها} أكد ذلك باعتبار أن يطمئن العبد أنه مهما أذنب فإن الله عزوجل يغفر له كما قال تعالى:

 {قُل يا عِبادِيَ الَّذينَ أَسرَفوا عَلى أَنفُسِهِم لا تَقنَطوا مِن رَحمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغفِرُ الذُّنوبَ جَميعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفورُ الرَّحيمُ}.

{إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعدِها لَغَفورٌ رَحيمٌ} فيغفر ذلكم الذنب، وهو عزوجل رحيم بعباده ومن أقبل على الله عزوجل فتاب غفر الله له ذنبه وأعطاه من الخير العظيم، وقد مر معنا ما يتعلق بما في هذه الآية من قوله: {السّوءَ} وكلمة {بِجَهالَةٍ} في سورة النساء: {إِنَّمَا التَّوبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذينَ يَعمَلونَ السّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتوبونَ مِن قَريب}.

 

﴿إِنَّ إِبراهيمَ كانَ أُمَّةً قانِتًا لِلَّهِ حَنيفًا وَلَم يَكُ مِنَ المُشرِكينَ﴾ (120)

{ ِنَّ إِبراهيمَ كانَ أُمَّةً قانِتًا} لما ذكر ما يتعلق بصدود كفار قريش-وتأمل هذا في بعض السور-تجد أنه إذا ذكر الآيات التي فيه صدود كفار قريش يذكر ما يتعلق بإبراهيم ليذكَّرَهم، لأنهم قالوا: إنما نحن على ملة إبراهيم ونحب إبراهيم ونَتَّبِع إبراهيم، فبين عزوجل أن ملة إبراهيم ليست هذه الملة التي أنتم عليها: ملة التكذيب والإنكار والعناد {إِنَّ إِبراهيمَ كانَ أُمَّةً} أُمَّةً: يعني إمامًا يُقتدى به في الخير، وقال بعض العلماء : أُمَّةً بمعنى أنه جمع من الخصال ما تجمعه أمَّة، ولا تعارض بينهما فلا شك أنه جمع خصالًا طيبة وهو إمامٌ يُقتدى به،

ومن ثمَّ فإن كلمة أمة كما مر معنا أنها تأتي في القرآن على عدة معاني، منها هذا المعنى وهو: الإمامة في الدين {إِنَّ إِبراهيمَ كانَ أُمَّةً قانِتًا} أي: مُديمًا لطاعة الله عزوجل {قانِتًا لِلَّهِ} هذا يدل على إخلاصه {حَنيفًا} حَنيفًا: وهو المائل عن الأديان الشركية إلى دين التوحيد {وَلَم يَكُ مِنَ المُشرِكينَ} دل هذا على أن الفعل المضارع، إذا دخلت عليه لم فإنها تُحوِّله إلى الماضي فدل هذا على أنه حتى فيما مضى ليس من المشركين، وليس من المشركين في حاله ولا فيما يُستقبل في أمره، وهذا ثناءٌ من الله عزوجل عليه ومن ثم قال عزوجل: {وَلَقَد آتَينا إِبراهيمَ رُشدَهُ مِن قَبلُ وَكُنّا بِهِ عالِمينَ}.

 

﴿شاكِرًا لِأَنعُمِهِ اجتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُستَقيمٍ﴾ (121)

{شاكِرًا لِأَنعُمِهِ} شاكرًا لنعم الله عزوجل وهذا بخلاف صنيع كفار قريش، لما ذكر عزوجل في الآية السابقة {فَكَفَرَت بِأَنعُمِ اللَّهِ} أما إبراهيم {شاكِرًا لِأَنعُمِهِ اجتَباهُ} أي اختاره واصطفاه {اجتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُستَقيمٍ} وهو الطريق الذي لا اعوجاج فيه وهي ملة التوحيد ولذا في سورة الأنعام عن النبي ﷺ {قُل إِنَّني هَداني رَبّي إِلى صِراطٍ مُستَقيمٍ دينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبراهيمَ حَنيفًا وَما كانَ مِنَ المُشرِكينَ}.

 

﴿وَآتَيناهُ فِي الدُّنيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحينَ﴾ (122)

{وَآتَيناهُ فِي الدُّنيا حَسَنَةً} وهذه الحسنة مطلقة تعُمُّ كل شيء حسن فإن إبراهيم حصل له من الخيرات بعد تلك الابتلاءات الشيء العظيم، من ذلك أنه رُزق على الكِبَر إسماعيل وإسحاق وبُشِّر بيعقوب من أحفاده، وأيضًا مكَّنه الله عزوجل في الأرض فقال عزوجل: {وَآتَيناهُ فِي الدُّنيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحينَ} هو في الآخرة من جملة الصالحين الذين صلَحوا فقاموا بحق الله وبحق المخلوقين.

 

﴿ثُمَّ أَوحَينا إِلَيكَ أَنِ اتَّبِع مِلَّةَ إِبراهيمَ حَنيفًا وَما كانَ مِنَ المُشرِكينَ﴾ (123)

{ثُمَّ أَوحَينا إِلَيكَ} يعني يا محمد {أَنِ اتَّبِع} أن هنا تفسيرية لأنها أتت بعد الوحي وهو ما يكون معناه في معنى القول وليست ألفاظه ألفاظ القول.

 {ثُمَّ أَوحَينا إِلَيكَ أَنِ اتَّبِع مِلَّةَ إِبراهيمَ حَنيفًا وَما كانَ مِنَ المُشرِكين}َ: دل هذا على أن النبي ﷺ مأمور باتباع إبراهيم عليه السلام، ومن ثَم فإن اتباع إبراهيم من قِبَلِ النبي ﷺ إنما هو فيما يتعلق بالتوحيد وما يتعلق بأصول الدين، وأما ما جاء في شرعنا مما يكون مخالفًا لملة إبراهيم فإنه يأخذ بما في شرعنا، ولذا لمّا ذكر عزوجل أولئك الأنبياء كما في سورة الأنعام قال : {أُولئِكَ الَّذينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقتَدِه} .

{ثُمَّ أَوحَينا إِلَيكَ أَنِ اتَّبِع مِلَّةَ إِبراهيمَ حَنيفًا وَما كانَ مِنَ المُشرِكينَ} وكرر ذلك مرة أخرى مبينًا أن إبراهيم ما كان من المشركين فيما مضى {وَما كانَ مِنَ المُشرِكينَ} وهو عليه السلام تُحبه المِلَل ولذا قال عزوجل: {ما كانَ إِبراهيمُ يَهودِيًّا وَلا نَصرانِيًّا وَلكِن كانَ حَنيفًا مُسلِمًا وَما كانَ مِنَ المُشرِكينَ}.

 

 

﴿إِنَّما جُعِلَ السَّبتُ عَلَى الَّذينَ اختَلَفوا فيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحكُمُ بَينَهُم يَومَ القِيامَةِ فيما كانوا فيهِ يَختَلِفونَ﴾ (124)

{إِنَّما جُعِلَ السَّبتُ عَلَى الَّذينَ اختَلَفوا فيهِ} إِنَّما جُعِلَ السَّبتُ: يعني جُعل فرض السبت وذلك بأن يُعَظَّم وأن يُترك العمل فيه، إنما فُرِض على اليهود الذين {اختَلَفوا فيهِ} اختلفوا في ماذا؟ اختلفوا في يوم الجمعة فأضلهم الله وهدانا لذلك، وهذا هو القول الصحيح الذي تدل عليه الأحاديث فقد قال ﷺ كما ثبت: (أضل الله من كان قبلنا عن الجمعة فهدانا الله له فَهُم تَبَعٌ لنا) وبعض العلماء يقول: اختلفوا فيه: يعني اختلفوا في يوم السبت فلم تُعَظمه طائفة وذلك بالصيد فيه، ونَهَت طائفة عن ذلك كما مر معنا في سورة الأعراف: {وَاسأَلهُم عَنِ القَريَةِ الَّتي كانَت حاضِرَةَ البَحرِ} بمعنى أنهم اختلفوا في يوم السبت،

لكن الذي يظهر من حيث الأحاديث أن الاختلاف إنما حصل اختلاف من اليهود فيما بينهم في فرضية يوم الجمعة ولذلك لم يقبلوا ذلك بسبب ما كان بينهم من تنازع فهدى الله له هذه الأمة فقال عزوجل:

{إِنَّما جُعِلَ السَّبتُ عَلَى الَّذينَ اختَلَفوا فيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحكُمُ بَينَهُم يَومَ القِيامَةِ} يحكم بينهم عزوجل بحكمه الجزائي يوم القيامة، بمعنى أنه من كان من أهل النار فهو للنار ومن كان من أهل الجنة فله الجنة.

 

﴿ادعُ إِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجادِلهُم بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبيلِهِ وَهُوَ أَعلَمُ بِالمُهتَدينَ﴾ (125)

{ادعُ إِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ} لمّا ذكر عزوجل في تلك الآيات السابقة صدود كفار قريش وذكر هنا ما يتعلق بالدعوة، لأن النفوس مختلفة ومتنوعة فنفس هذا ليست كنفس ذاك فهو يحتاج إلى أن يعرف النفوس وعلى الداعية أن يعرف أيضًا نفوس الناس ما يناسب لهم فقال هنا: {ادعُ إِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجادِلهُم بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ}

بِالحِكمَةِ: يعني – كما قال شيخ الإسلام رحمه الله وتَبِعَه تلميذه ابن القيم رحمه الله- بِالحِكمَةِ: يعني أن الجاهل الذي لا يعرف الحق يُدعى إلى الحق بالحكمة بأن تُبَيَّن له الأحكام والآيات والأدلة التي تدله على الحق.

{وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ}: المَوعِظَةِ الحَسَنَةِ التي بها الترقيق للقلوب لأن هذا الصنف وهو صنف من يُدعى بالموعظة الحسنة هو من كان على معتقد سابق أو على عادة سابقة تَبِعَها، فهذا قلبه يميل إلى الحق إذا عرفه فمثل هذا إنما يُبَيّن له بالموعظة الحسنة حتى يعود من ذلك الباطل أومن تلك العادة إلى الحق.

 {وَجادِلهُم بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ}: هو الذي عرف الحق لكنه عاند فمن ثم فإن هذا يُجادل حتى يُبيَّن له الحق، ولذا ذكر عزوجل عن اليهود فهُم يعرفون الحق {وَلا تُجادِلوا أَهلَ الكِتابِ إِلّا بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ} فقال عز وجل: {وَجادِلهُم بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ}: وذلك بالطرُق التي هي حُسنى من حيث ذكر الأدلة، ومن حيث ذكر ما يتعلق بالدلائل العقلية التي تدعو هؤلاء إلى أن يعيدوا النظر فيما هم عليه من هذا الباطل.

 فقال عزوجل: {إِنَّ رَبَّكَ} يعني ما عليك إلا الدعوة {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبيلِهِ وَهُوَ أَعلَمُ بِالمُهتَدينَ} دل هذا على ماذا؟ دل هذا أن محمدًا ﷺ وكذلك من سار سَيْرَهُ في الدعوة كما قال تعالى: {قُل هذِهِ سَبيلي أَدعو إِلَى اللَّهِ عَلى بَصيرَةٍ أَنا وَمَنِ اتَّبَعَني} فما عليه إلا البلاغ وأيضًا في قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبيلِهِ} ثم قال مكررًا كلمة (أعلم) {وَهُوَ أَعلَمُ بِالمُهتَدينَ} يدل ذلك على ماذا؟ يدل على أن هناك ترهيبًا وتخويفًا لمن ضل، وترغيبًا لمن اهتدى،  ولذا قال: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبيلِهِ} قال: ضل عن سبيله، فعنده اختيار وعنده إرادة لكن إرادته ومشيئته لا تكون إلا بمشيئة من الله عزوجل.

 {وَهُوَ أَعلَمُ بِالمُهتَدينَ} والمهتدين اسم فاعل، دل هذا على أن هؤلاء لما قَرُبوا من الخير وعملوا الخير واستقبلوا الخير بقلوب منشرحة؛ هنا هداهم الله عزوجل فلَهُم إرادة ولهم فعل.

 

﴿وَإِن عاقَبتُم فَعاقِبوا بِمِثلِ ما عوقِبتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرتُم لَهُوَ خَيرٌ لِلصّابِرينَ﴾ (126)

{وَإِن عاقَبتُم فَعاقِبوا بِمِثلِ ما عوقِبتُم بِهِ} هذه الآية نزلت كما قال المؤرخون وأهل الآثار وأهل الحديث من أن هذه الآية نزلت لما جرى ما جرى من تمثيل، فالنبي ﷺ حَزِن لذلك فقال بعض الصحابة: ” لئن مكننا الله من قريش لنفعلن بهم كذا وكذا “، وفي رواية: ” لنمثلنَّ بسبعين منهم “، فقال عزوجل: {وَإِن عاقَبتُم فَعاقِبوا بِمِثلِ ما عوقِبتُم بِهِ} الجزاء من جنس العمل قال: {فَعاقِبوا} مع أنه ليس بعقوبة؛ لأن هذا هو انتصار للحق وأخذ للعدل، لكن من باب مقابلة ما كان يفعله أولئك من العقوبة قال: {فَعاقِبوا بِمِثلِ ما عوقِبتُم بِهِ}.

      {وَلَئِن صَبَرتُم لَهُوَ خَيرٌ لِلصّابِرينَ} وَلَئِن صَبَرتُم: وهذا شامل ليس فقط فيما يتعلق بغزوة أُحُد، وإنما من وقع في كُربةٍ أو مشقة أو ما شابه ذلك مما لا يلائمه فصبر: {لَهُوَ خَيرٌ لِلصّابِرينَ} فالصبر خير للصابرين في دنياهم وفي أُخراهم والموفق من وفقه الله والمُعان من أعانه الله {وَلَئِن صَبَرتُم لَهُوَ خَيرٌ} لَهُو: يعني الصبر {خَيرٌ لِلصّابِرينَ} قال:

 

﴿وَاصبِر وَما صَبرُكَ إِلّا بِاللَّهِ وَلا تَحزَن عَلَيهِم وَلا تَكُ في ضَيقٍ مِمّا يَمكُرونَ﴾ (127)

{وَاصبِر وَما صَبرُكَ إِلّا بِاللَّهِ} أَمَر الله عزوجل محمدًا ﷺ أن يصبر، قال: {وَاصبِر وَما صَبرُكَ إِلّا بِاللَّهِ} وما صبرك إلا بتوفيق من الله وبإعانة من الله فإن الإنسان إن صبر فهي نعمة من الله أعانه الله على ذلك، وإلا فالصبر عظيم ولا يُوفق إليه إلا من أعانه الله {وَما صَبرُكَ إِلّا بِاللَّهِ وَلا تَحزَن عَلَيهِم} لا تحزن عليهم فيما فعلوه من الكفر والتكذيب {وَلا تَحزَن عَلَيهِم وَلا تَكُ في ضَيقٍ مِمّا يَمكُرونَ} يعني لا يضيق صدرك فيصيب  صدرك الهم والحزن من مكر هؤلاء فإنهم إنما هم يمكرون، فهُم يعرفون الحق لكن ما صنعوه إنما هو مكرٌ.

 

 

﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذينَ اتَّقَوا وَالَّذينَ هُم مُحسِنونَ﴾ (128)

{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذينَ اتَّقَوا وَالَّذينَ هُم مُحسِنونَ} ذَكَر هنا من أنه عزوجل مع المتقين ومع المحسنين بمعيته الخاصة التي تقتضي التأييد والنصرة والإعانة والتوفيق والسداد مع من؟ مع الذين الذين اتقوا.

{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذينَ اتَّقَوا وَالَّذينَ هُم مُحسِنونَ} قال هنا: اتقوا ثم ذكر الإحسان مما يدل على أن هؤلاء جمعوا بين تقوى الله عزوجل بفعل أوامره وباجتناب نواهيه وأيضًا بلغوا مرتبة الإحسان، الإحسان فيما يتعلق بحق الله: ” أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ” وكذلك الإحسان إلى المخلوقين.

 {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذينَ اتَّقَوا وَالَّذينَ هُم مُحسِنونَ } ومرَّ معنا ما يتعلق بالمعية وبأقسامها في قوله تعالى : {يَستَخفونَ مِنَ النّاسِ وَلا يَستَخفونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُم} وغير ذلك من الآيات التي مرت معنا في السور الأخرى .

وبهذا بتوفيق من الله عزوجل ينتهي تفسير سورة النحل.