تفسير سورة النحل من الآية (32) إلى ( 50 ) الدرس ( 151)

تفسير سورة النحل من الآية (32) إلى ( 50 ) الدرس ( 151)

مشاهدات: 495

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة النحل الدرس [151]

من آية (32) إلى (50)

للشيخ زيد البحري – حفظه الله –

بسم الله الرحمن الرحيم والحمدلله رب العالمين وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد..

فكُنا قد توقفنا عند قول الله عز وجل:

﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (32)

قول الله عز وجل (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِين) لما ذكر الله عز وجل مآلَ المتقين بيَّنَ هنا حالَهم حينما تقبض الملائكةُ أرواحَهم، فإنه عز وجل فيما مضى ذكر حال الكفار إذا قبضت الملائكة أرواحَهم (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ) لكن هنا فيما يتعلق بأهل الإيمان قال (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِين) طابت أقوالُهم وطابت أعمالُهم وطابت جوارحهم وطابت نفوسُهم في هذه الدنيا ولذا فإنه كما قال عز وجل في هذه السورة: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَة) وذلك جزاء الطِيب الذي فَعَلَه ولا طِيبَ إلا في دين الله عز وجل.

(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ) الملائكة تقول لهؤلاء حال قبض أرواحهم (سَلَامٌ عَلَيْكُمُ) بمعنى أنكم سالمون، وهذا نظير قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُون* نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ)

فقال عز وجل هنا عن الملائكة: (يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

أي: بسبب أعمالكم التي مَنَّ الله عز وجل بها عليكم (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون)

﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (33)

(هَلْ يَنْظُرُونَ) أي أولئك المكذبون الظلمة (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ)

أي لقبض أرواحهم، (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) أي أنه يأتي أمر ربك بالعذاب لهؤلاء كما فعل بالأمم السابقة ولذا قال عز وجل في أول السورة: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ) وأمرُ الله في أول السورة هو يوم القيامة، وقال بعضُ المفسرين: هو العذابُ الذي ينزلُ بهم في هذه الدنيا كما نزل بهم في يوم بدر، ولا تعارضَ بين القولين فهؤلاء المكذبون: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ)

ومر معنا في قوله تعالى في سورة البقرة: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَام) وبيَّنا هناك من أن الإتيان صفةٌ لله عز وجل تليق بجلاله وبعظمته، وبعضهم قال الإتيان من الله هو أمر الله كما في هذه السورة، ففسروا تلك بهذه الآية، ولكن فصلنا فيما مضى في آية البقرة ذلكمُ الأمر تفصيلاَ واضحا، فقال عز وجل بعدها:

(كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي مثل ما فعلت كفار قريش فعلت الأمم المكذبة قبلهم (كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)

ثم قال (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ) بمعنى أن الأممَ السابقة لما كذَّبت نزل عليها أمرُ الله فكذلك هؤلاء ولذا قال:

(وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)

وذلك بسبب ظلمهم لأنفسهم عاقبهم اللهُ عز وجل بعدله.

﴿فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ﴾ (34)

(فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا) أي بسبب تلك الأعمال السيئة التي عمِلوها أصابهم عذاب السوء.

(فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ) أحدق بهم (مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ) مما كانوا به يستهزؤون على الرسل ويستعجلون العذاب.

﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِين﴾(35)

 

 

 

 

(وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ

مِنْ شَيْءٍ)

مر معنا في سورة الأنعام في توضيح هذه الآية والرد على من استدل بمشيئة اللهِ عز وجل على وقوعه في الكفر أو على وقوعه في الذنب فبينا هناك تبيينا واضحاَ مُفصلاَ شافياَ كما بينا ذلك في قوله تعالى في سورة الأعراف: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا).

وهنا فيما يتعلق بآية النحل اختلفت عن آية الأنعام في سورة الأنعام (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) لكن هنا ماذا قال؟ (وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) هنا قال (سَيَقُولُ) بمعنى أنهم سيقولون في المستقبل وذكر هنا من أنهم أيضا قالوه فيما يتعلق بالزمن الحاضر وأيضاَ في الزمن الماضي، ولذا قال تعالى هنا: (وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ)،هناك قالوا (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) ومن هنا يتضح أنَّ ما ذُكر في سورة النحل من ذكر العبادة من هؤلاء من أنهم صرفوا العبادةَ  لغير الله فوصفهم الله عز وجل بالشرك في سورة الأنعام، فدل هذا على أنه إذا قيل ما الدليلُ على أنه من صرف عبادة من العبادات لغير الله من أنه مشرك؟ فاجمع بين هاتين الآيتين: الآيةُ التي معنا هنا والآيةُ التي في سورة الأنعام (وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) في آيةِ الأنعام: (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وأولئك كذبوا وكذلك فعلوا الظلم من الأمم السابقة فأنزل الله بهم العذاب.

وقال هنا (كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)

شأنُ كفار قريش كشأنِ الأمم السابقة (كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِين) ما على الرسل إلا البيان الواضح ومن ثَم فإنه لما قال (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) قامت الحجة بإرسال الرسل وبإنزال الكتب والله عز وجل بيَّن الحق من الباطل ومن ثم فإنهم لما أعرضوا فإنه عز وجل يعاقبهم، ولذلك لما قال عز وجل في سورة الأنعام (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا) دل هذا على أن بأسَ الله وقع بهم لما كذبوا وليست حُجة لهم ومن ثَم قال هنا (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِيَنُ).

كما قال تعالى: (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)

(فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِيَنُ).

﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ (36)

ثم قال: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا)

(وَلَقَدْ بَعَثْنَا) يعني أرسلنا(فِي كُلِّ أُمَّةٍ) أي في كل جماعة من الأمم السابقة (رَسُولًا) فدل هذا على أنك يا محمد لم تكن مبدعاً من الرسل فهناك رسلٌ سبقوك في ذلك.

 (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ) أن هنا تفسيرية تفسر من أن بعد هؤلاء الرسل إنما أتوا من أجل ماذا؟ من أجل بيان التوحيد وتقريره، ولذا قال (أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)

قال (أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ) وعبادة الله عز وجل لابد لها من التبرؤِ من الشرك ومن أهله وذلك هو الطاغوت، وقد مر معنا ما يتعلق بكلمة الطاغوت مفصلاً في سورة البقرة وكذلك في سورة آل عمران فقال هنا (أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) أي: كونوا في جانب والطاغوت في جانب،  والطاغوت كما مر معنا هو كل  ما تجاوز به العبد حدَّه من معبود أو متبوع أو مطاع ووضحنا ذلك أكثر كما ذكرنا في سورتَي البقرة وآل عمران.

(فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ) إذ إن الله عز وجل بيَّن له هذا الحق عن طريق هؤلاء الرسل (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ) بتوفيقٍ منه وبإعانة منه.

(وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ) أي وجبت عليه الضلالة وذلك لأنه لما أتته البينات وأتته الرسل ما آمن فأعرض فحقت عليه كلمةُ العذاب، ولذا قال عز وجل عن أهل النار (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا).

( وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ) وذلك  بعدلٍ منه عز وجل (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) فإنه لما أرسل الرسل وأنزل الكتب قامت عليهم الحجة ولذا قال عز وجل (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولٗا) لكن لما بُعثت الرسل وأنزل الله الكتب هنا قامت الحجة (وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) فسيروا يا أيها الكفار سيروا في الأرض وتأملوا ما أنزل اللهُ عز وجل به من العذاب على الأمم السابقة، ومر معنا ما يتعلق بهذا السير وما يتعلق بأنواعه في سورة آل عمران.

(فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ)

قال فأنظروا نظَرَ تأمل وتدبر وإمعان وليس مجرد نظر بالبصر (فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) كانت عاقبتهم وخيمة لما نزل بهم عذاب الله عز وجل فكذلك الشأن في كل من كذب كحالكم يا كفار قريش.

{إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}(37)

(إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ)

النبي ﷺ كان مُحباً للناس الخير ومن ثَم فإنه كان حريصاً شديد الحرص على أن يهتدوا فبين عز وجل له أن من حكمة الله عز وجل أن يجعل من الناس من هو مؤمن ومن هو كافر فقال:  (إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ) وذلك بسبب انصرافه وإعراضه بعد مجيء البينات (إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ)

لن ينصرَهم أحد ولن يأتيَ إليهم بالهداية أحد، ولن يمنعهم من عذاب الله عز وجل في الدنيا وفي الآخرة أحد (وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ)

 

﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾(38)

(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ) هؤلاء أقسموا بالله عز وجل جَهْدَ أيمانهم أي بأغلظ وأجهد أيمانهم يعني أنهم حلفوا بالله أعظم الحلف وأكَّدوا على ذلك بأعظم التأكيدات من الحلِف من أنه عز وجل لن يبعث الناس يوم القيامة قال عز وجل: – (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ) وهذا إنكارٌ منهم على سبيل التأكيد باليمين والقَسَم.

(لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ) قالوا لا يبعث الله من يموت، وردَّ الله عز وجل عليهم (بَلَى) وبلى تُبطل كلامَهم السابق (بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا) فهو وعدٌ حق ولابد أن يقع كما وعد الله عز وجل به فإنه يقع فإن أخبارَه صدق.

 (بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ) وقال هنا (عَلَيْهِ)  من باب ماذا؟ من باب أنه جعل ذلك على نفسه تَفَضُلا منه عز وجل وليس إلزاما له كما تقولُ المعتزلة فيما يتعلق بهذا النص وبغيره فإنهم يقولون: إذا أوجب الله عز وجل على نفسه شيئا إنما كان واجباَ عن طريق العقل!

لكنَّ معتقد أهل السنة والجماعة: من أنه عز وجل إذا أوجب على نفسه شيئا فإنما أوجبه تَفَضُلا منه عز وجل ورحمةً وحكمة فقال عز وجل:

(وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) لا يعلمون هذا الدين ولا يعلمون عِظَم الله عز وجل ولا يعلمون من أن أخبارَه صدق ولا يعلمون ما يَحِل بهم من العذاب الأليم إذ أنكروا هذا اليوم (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).

 

﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي يَخۡتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعۡلَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّهُمۡ كَانُواْ كَٰاذِبِينَ﴾(39)

(لِيُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي يَخۡتَلِفُونَ فِيهِ) يعني هنا اللام متعلقة بالبعث يعني سيبعثهم وهذا وعدٌ عليه حق من أجل ماذا؟ (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ) ليوضح لهم (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي يَخۡتَلِفُونَ فِيهِ) الذي يختلفون فيه من قضية هذا البعث.

(لِيُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي يَخۡتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعۡلَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّهُمۡ كَانُواْ كَٰاذِبِينَ) يعني في يوم القيامة تتضح الأمور ويعلمون علم اليقين من أنهم كَذَبة، كذبوا لما أقسموا في الدنيا فقالوا (لا يبعث الله من يموت) فقال عز وجل هنا (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي يَخۡتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعۡلَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ).

(أَنَّهُمۡ كَانُواْ) يعني في الدنيا (كَانُواْ كَٰاذِبِينَ)

﴿إِنَّمَا قَوۡلُنَا لِشَيۡءٍ إِذَآ أَرَدۡنَٰهُ أَن نَّقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ﴾ (40)

بمعنى أنه إذا أردنا شيئاَ فإنه سيكونُ هذا الشيء بمجرد كلمة (كن) فإنه عز وجل إذا أمرَهُ فإنه يكون (إِنَّمَا قَوۡلُنَا لِشَيۡءٍ) يعني لأيِّ شيء.

(إِذَآ أَرَدۡنَٰهُ أَن نَّقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ) ومن ذلك ما يتعلق بيوم القيامة ولذلك مر معنا قولُه عز وجل (وَأَنۡ أَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَٱتَّقُوهُۚ وَهُوَ ٱلَّذِيٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ * وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّۖ وَيَوۡمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُۚ قَوۡلُهُ ٱلۡحَقُّۚ)

ولذا قال تعالى كما في هذه السورة (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) فقال عز وجل مُبيناَ من أن البعث يسيرٌ عليه (إِنَّمَا قَوۡلُنَا لِشَيۡءٍ إِذَآ أَرَدۡنَٰهُ أَن نَّقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ).

﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ (41)

(وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا) وهم طائفةٌ أُذوا في مكة ولم يتيسر لهم الخروج إلا بعد حينٍ من الزمن فبعدما ظُلموا فإنهم هاجروا فقال عز وجل (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ) أي ابتغاء وجه الله عز وجل لا لأمرٍ آخَر، ولذلك النبي ﷺ كما في الصحيحين قال: ( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ).

(وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) أي لننزلهم (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) والحسنة تشمل كل شيء يرتاح إليه القلب فكافأهم الله عز وجل من أنه سيجزيهم أحسن الجزاء (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) ثم ذكر هنا بعدها ما يتعلقُ بيوم القيامة.

(وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ) أكبر وأعظم مما يكون في هذه الدنيا لأن الدنيا زائلة ولذا لما قال عز وجل (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) ثم قال (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) كما سيأتي معنا في هذه السورة فقال عز وجل هنا (وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) من هؤلاء؟

(لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) قيل: (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) يعني هؤلاء المهاجرون (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) هذا الأمر ما حصل منهم أي ندم فيما فارقوه من أوطانهم وكذلك قال بعضهم (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) بمعنى أن من ترك الهجرة لو كان يعلم هذا الفضل العظيم من الله عز وجل ما ترك الهجرة، وكذلك قال بعض المفسرين (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) يعني لو كان المشركون يعلمون هذا الثواب فإنهم ما عاندوا بل آمنوا وعملوا الخير وما منعوا هؤلاء.

 والآيةُ تحتمل كل هذه المعاني (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) ثم بيَّن هؤلاء الذين هاجروا في الله فقال:

﴿الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ (42)

صبروا على أقدار الله المؤلمة إذ تركوا أموالهم وأوطانهم، وأيضاً صبروا على طاعة الله ومن ذلك هذه الهجرة، وصبروا على معصية الله عز وجل فلم يسمعوا لشياطين الإنس والجن ولذا قال بعدها:

(وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) التوكل لهم باستمرار ولذا أتى بصيغة الفعل المضارع الذي يدل على الاستمرار ودل هذا لما ذكر ما يتعلق بهذه العبادة قال 🙁 وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) إذاً من أعظم ما يتوكل به العبد على ربه أن يتوكل على الله فيما يخص دينَه فالتوكل على الله في جميع الأمور الدينية والدنيوية أمر مطلوب في كل حال من أحوال الإنسان، ولكن أعظم التوكل ومر معنا ذلك مِرارا أن يتوكل العبد على الله فيما يتعلق بعبادةٍ عملها أو في ما يتعلق بثباته على هذا الدين أو فيما يتعلق في إظهار الحق على لسانه أو في نشر علمه أو ما شابه ذلك ولذا قال: (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) ومن ثم فإنه من كان صابراً وهذا على سبيل المثال فقط من كان صابراً في تعلم العلم الشرعي وفي نشره وما شابه ذلك فإنه لا يستعجل الأمور بل يتوكل على الله عز وجل ومن توكل على الله كما قال تعالى:

(وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (43)

(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا) يعني أنت يا محمد ما أرسلنا قبلك إلا رجالاً فشأنك كشأنهم وقال هنا (إِلَّا رِجَالًا) وقد مر معنا هل في النساء أنبياء؟ مر معنا ذلك في سورة آل عمران مفصلا (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا).

(رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) بمعنى أنك لست بدعاً من الرسل فكما أوحينا إليك أوحينا إلى مَن قبلَك فقال عز وجل (نُوحِي إِلَيْهِمْ) ثم قال:

(فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) يعني فاسألوا يا كفار قريش أهل الذكر يعني: أهل العلم من الأمم السابقة من علمائهم لأنكم تسألونهم فيما يتعلق ببعض الأمور فلماذا لا تسألون أهل العلم عن شأن محمد ﷺ فإنه مكتوبٌ عندهم فقال عز وجل (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) فقال هنا أهل الذكر ودل هذا على أنه أيضاً يدخل في ذلك أنَّ العوام من المسلمين إذا جهلوا أمراً عليهم أن يسألوا أهل العلم ولذ قال: –

(فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) وهذا يدل على ماذا؟ يدل على أن العبدَ عليه أن يتعلم العلم الشرعي ولذلك لما قيل لابن عباس رضي الله عنهما: بمَ حَصَلتَ على هذا العلم؟ ( قال بلسانٍ سؤول وبقلب عَقول )

 فقال هنا (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) وقال (أَهْلَ الذِّكْرِ) دل هذا على أنه لا يُسألُ إلا أهل الذكر ومن هم أهل الذكر؟ هم أهل العلم الشرعي بالكتاب وبالسنة على فَهْمِ سلف هذه الأمة، أما أن يُسألَ أي شخص عليه سيما الخير أو ما شابه ذلك فإن من سأله فإنه يكون آثماً لمَ؟

لأن الله عز وجل ما أذن له أن يسأل إلا أهل العلم: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) إن كنتم لا تعلمون أمورَ دينكم، وكذلك يا كفار قريش إن كنتم لا تعلمون شأن محمد فسألوا علماءَ أهل الكتاب فسيجيبونكم.

﴿بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(44)

 

 (بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ) بمعنى أنه أرسل عز وجل هؤلاء الأنبياء: (بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ)

قال هنا (بِالْبَيِّنَاتِ) والبينات هي العلامات الواضحات من المعجزات وكذلك قال (وَالزُّبُرِ)

الزبر يعني الكتب المزبورة التي هي مكتوبة فدل هذا على أن الله عز وجل أيَّدَ الرسلَ بالآياتِ التي هي المعجزات وأيَّدَهم أيضا بهذه الكتب التي أنزلها.

﴿بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(44)

(بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) انتبه قال (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) إذاً قولُه عز وجل (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) ما هو هذا الذكر؟ مبينٌ هنا في نفس الآيات فقال عز وجل هنا عن النبي ﷺ (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)

(لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) وهذا يدل على ماذا؟ يدل على أن السنة توضح القرآن ولذا قال ﷺ كما ثبت عنه: (ألا إني أوتيتُ القرآن ومثلَه معه) ومن ثَم فإن في هذا ردا على القرآنين الذين يقولون: لا نأخذ إلا بالقرآن! فنقول: من أين لكم كم عدد صلاة الظهر وكم عدد صلاة العصر وعن صفة الزكاة وما شابه ذلك فهي في سنة النبي ﷺ فقال هنا (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)

قال (لِتُبَيِّنَ) لتوضح (لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) ومن ثم فإن في هذا رداً على من يعتاضُ بدين الله عز وجل وبعلمه الشرعي فيبين آيات الله عز وجل على غير ما أنزلت من أجل أن يظفر بمال أو بمنصب أو بوظيفةٍ أو بشهرة أو بثناءٍ أو ما شابه ذلك! فأتباعُ محمد ﷺ يبينون البيانَ الشرعي لهذا الدين فقال عز وجل:

(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)

تبين لهم ما نزل إليهم لإقامة الحجة عليهم قال (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) يعني لعل هؤلاء إذا وضَّحت لهم الحق (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) يتفكرون فيما يتعلق بهذا الوحي فإذا بهم ينزجرون عن معاصي الله ويقبلون على طاعة الله عز وجل.

 قال (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فهذا يدل على ماذا؟ يدل على أن علماء الأمة واجب عليهم أن يبينوا هذا الدين بياناً واضحاً من أجل ماذا؟ من أجل أن يتفكرَ الناس ومن أجل أن يحَرِصَ الناس على دينهم فقال عز وجل هنا (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).

 

﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ﴾ (45)

(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا) هنا فيه إنكار وتوبيخ على أولئك الذين يُدبرون الأمور بِخُفية من أجل أن يصنعوا السيئات وأن يبطلوا دين الله عز وجل وأن يطفئوه بأفواههم فقال عز وجل:

(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ) بمعنى أن الأرض تنخسف بهم بأمر الله عز وجل فيكونون في أسفلها.

(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ)

وإذا أتى الإنسانَ العذابُ من حيث لا يشعر فإنه لا حيلةَ له ولا طاقةَ به، بل إذا أتاه عذاب الله فإنه لاحول له ولا قوة فكيف إذا أتاه وهو لا يشعر، فقال عز وجل (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُون)

﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ (46)

(أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ) يعني في تقلبهم في ذهابهم وإيابهم فيما يتعلق بمعاشهم ومصالحهم (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ).

 ( فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ) ليسوا بفائتين من عذاب الله عز وجل، فقال عز وجل (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ) ولذا ماذا قال تعالى؟ (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) هم يتقلبون فقال عز وجل (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَاد).

{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (47)

(أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ) يعني على خوفٍ من نزول العذاب، والإنسان إذا ارتقب شيئاَ مخيفاَ فإنه لا يكون في حالةِ استقرار، فإنه عز وجل توعدهم بذلك، وكما أسلفنا من أن الإنسان إذا كان يتوقع شيئاَ مَخُوفاَ عظيماَ فإنه لا يكون على خير وعلى هدوء ولا على اطمئنان وكذلك يدخل فيه قول من قال من المفسرين:

(أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ) يعني على تَنَقُّص يأخذهم شيئاَ فشيئاَ فتنقص منهم أحوالُهم وما يتعلق بمصالحهم الدنيوية.

(أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) فهو عز وجل رؤوفٌ ورحيمٌ فإنه أخَّرَ العذابَ وأرسلَ الرسل وأنزل الكتب من أجل أن يعتبرَ هؤلاء وإلا لو عاجَلهم عز وجل فكما قال تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ) فقال عز وجل هنا (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ).

 

﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ﴾ (48)

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) هنا استفهام فيقول موبخاً لهم حتى يتعظوا (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُه)   يعني له ظل، وذلك كالبنيان والجبال وما شابه ذلك مما له ظل فقال عز وجل (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ) يتفيأ يعني: يميل لأن الفيء هو الرجوع، رجوع الشمس حينما تشرق وحينما تغرب من حيث الظل، ولذا قال عز وجل (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا).

وقال عز وجل (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ)

كما مر معنا ذلك في سورة الرعد فقال هنا (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ) قال (عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ) باعتبار شروقِ الشمس وباعتبار غروبها فإن الظل يتحول من جانبٍ إلى آخر، ثم لتنظر قال (عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ) أفرد اليمين وذلك تنبيهاَ من أنَّ صراط الله عز وجل واحد، وأما الشمائل فجمعها باعتبار أن طرق الظلال متشبعة كما قال تعالى (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ).

(عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ) يعني هذه الظلال تسجد لله عز وجل (سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ) وهم صاغرون خاضعون متذللون لله عز وجل (سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ).

 

وقال عز وجل ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ (49)
ثم قال مُعمماً (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) سواءٌ كان من ظل أو غير ظل فقال عز وجل (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا) و(ما) لغير العاقل وذلك لأن غيرَ العاقل أكثر من العاقل فأتى بها من باب ماذا؟ من باب أن السجود يقع من العقلاء ومن غير العقلاء فقال عز وجل هنا (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) وأما غيرُ العاقل فكما سيأتي معنا في قوله تعالى (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) فهؤلاء يسبحون الله ويعبدون الله عز وجل، لكن لانعرف كيفية ذلك إنما يعلمه الله عز وجل يعلم سجودها (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) قال (مِنْ دَابَّةٍ) يعني كل ما يدبُّ في الأرض وفي السماء فإنه يسجد لله عز وجل.

فقال هنا (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ) الملائكةُ عُطفت مع أنها داخلةٌ فيما يتعلق بمن يسجد في السمَوات من باب ماذا؟ من باب بيان أن هؤلاء مع أنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وخَلْقُ هؤلاء أعظم من خلق البشر ومع ذلك فإنهم يسجدون لله عز وجل، ولذلك قال (وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) أي لا يستكبرون عن السجود له عز وجل (وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ).

﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ (50)

(يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) يخافون هذا يدل على ماذا؟ على أن سجود هؤلاء الملائكة إنما هو خوفٌ من الله عز وجل.

فقال عز وجل (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) قال من فوقهم ومر معنا في قوله عز وجل (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ).

قلنا لكم إن إثبات صفة العلو لله عز وجل يأتي من عشرين طريقا أو نحوا من عشرين طريقا ومن ثَم كل طريق ربما يدخل تحته مئاتُ الأدلة، ولذا قال بعض السلف إن هناك ألف دليل، بل قال بعضهم إن هناك ثلاثة آلاف دليل على علو الله عز وجل، ومن ثم فإن من الطرق كما مر معنا (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) يعني التنصيص على الفوقية مطلقا، وهنا الطريقُ الثاني التنصيص على الفوقية مع الإتيان بـ: (من) من باب التأكيد قال (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) ( وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) كما قال عز وجل (لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ).