تفسير سورة ص من الآية ( 1 ) إلى ( 40 ) الدرس (217 )

تفسير سورة ص من الآية ( 1 ) إلى ( 40 ) الدرس (217 )

مشاهدات: 470

بسم الله الرحمن الرحيم

التفسير الشامل

(تفسير سورة: ص) من الآية ( 1) حتى الآية ( 40)

الدرس ( 217 )

فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

 

سورة: ص من السور المكية

﴿صٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ذِي ٱلذِّكۡرِ (1) بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٖ وَشِقَاقٖ (2) كَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَبۡلِهِم مِّن قَرۡنٖ فَنَادَواْ وَّلَاتَ حِينَ مَنَاصٖ (3) وَعَجِبُوٓاْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٞ مِّنۡهُمۡۖ وَقَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ هَٰذَا سَٰحِرٞ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ ٱلۡأٓلِهَةَ إِلَٰهٗا وَٰحِدًاۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٌ عُجَابٞ (5) وَٱنطَلَقَ ٱلۡمَلَأُ مِنۡهُمۡ أَنِ ٱمۡشُواْ وَٱصۡبِرُواْ عَلَىٰٓ ءَالِهَتِكُمۡۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٞ يُرَادُ (6) مَا سَمِعۡنَا بِهَٰذَا فِي ٱلۡمِلَّةِ ٱلۡأٓخِرَةِ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا ٱخۡتِلَٰقٌ (7) أَءُنزِلَ عَلَيۡهِ ٱلذِّكۡرُ مِنۢ بَيۡنِنَاۚ بَلۡ هُمۡ فِي شَكّٖ مِّن ذِكۡرِيۚ بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ (8) أَمۡ عِندَهُمۡ خَزَآئِنُ رَحۡمَةِ رَبِّكَ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡوَهَّابِ (9) أَمۡ لَهُم مُّلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۖ فَلۡيَرۡتَقُواْ فِي ٱلۡأَسۡبَٰبِ (10) جُندٞ مَّا هُنَالِكَ مَهۡزُومٞ مِّنَ ٱلۡأَحۡزَابِ (11)﴾

 

﴿ص﴾: من الأحرف المقطعة، وقد مر بيانها في أول سورة البقرة، وابن القيم رحمه الله يقول: إن الأحرف المقطعة لو تأمل فيها الإنسان لوجد أن لها تعلقًا بالسورة، فكلمة ﴿ص﴾ تدل على كثرة الخصام الموجود في هذه السورة، ولذلك ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ﴾[ص:21]، ﴿مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ [ص:69].

وكما قال رحمه الله في سورة {ق} كثُر فيها القول ﴿وقال قرينه﴾ [ق:23]، ﴿قال قرينه﴾[ق:27].

وأيضًا ﴿ألم﴾ بمعنى: أن هذه الحروف تكون في المقدمة من الفم وفي الوسط وفي المؤخرة، قال: فما من سورة ابتدأت بـ ﴿ألم﴾ إلا وهي تتحدث عن بدء خلق الإنسان وعن أطواره وعن بعثه في يوم القيامة.

﴿والقرآن ذي الذكر﴾ أقسم بالقرآن بالذكر لأن من أراد التذكر ففي القرآن، وأيضًا ﴿ذي الذكر﴾ يعني: الشرف، ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ [الزخرف:44] أي هذا القرآن شرفٌ لك ولقومك، ولو قيل: أين جواب القسم؟ جواب القسم يدل عليه ما بعده ﴿وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ أقسم الله ﷻ بالقرآن، أنك يا محمد على الحق وأن البعث سيكون حاصلاً، وهذا أصح من قول من يقول: إن جواب القسم في آخر السورة ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ﴾ [ص:64]، وقيل غير ذلك.

﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ ليست عزة غلبة، بل عزة طغيان وإثم، كما قال عز وجل: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ﴾ [البقرة:206]، ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ في نزاعٍ وشقاقٍ معك يا محمد.

﴿كم﴾ هنا خبرية للتكثير يعني ليتأمل كفار قريش ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ﴾؟ ممن مضى، ﴿فَنَادَوْا﴾ أنهم استغاثوا ﴿وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾ لا مفر ولا مهرب من عذاب الله ﷻ لما نزل بهم، أفلا تعتبر كفار قريش فيما حصل بالأمم السابقة ﴿فَنَادَوْا﴾ تلك الأمم السابقة ﴿فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾ ليس الوقت وقت مفر وهروب ونجاة.

﴿وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ﴾ عجبت كفار قريش لما جاءهم منذر منهم يعرفونه ويعرفون حاله وهو من أنسابهم ﴿وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾ وصفوه بالسحر وأنه كذاب على صيغة مبالغة أنه كثير الكذب.

ويستغربون ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ لم يقولوا: “عجيب” لأن ﴿عجاب﴾ يدل على أنه أتى بأمرٍ عظيمٍ بلغ في العجب مبلغًا عظيماً.

فقال الله ﷻ عن هؤلاء: ﴿وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ﴾ هنا كما قال بعض المفسرين: أنهم أتوا إلى أبي طالب ليشكوا النبي ﷺ حتى يكف عن سب آلهتهم، فقال ﷺ: ” يَا عَمِّ إِنِّي أُرِيدُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يَقُولُونَهَا تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمْ بِهَا الْعَجَمُ الْجِزْيَةَ. ففزعوا لكلمته ولقوله فقال القوم كَلِمَةً وَاحِدَةً: نَعَمْ وَأَبِيكَ عَشْرًا، فَقَالُوا وَمَا هِيَ؟ وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ وَأَيُّ كَلِمَةٍ هِيَ يا ابن أخي؟ قال ﷺ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فنفروا من ذلك، وهذه فيها ما فيها من الضعف، على كل حال يدل هذا على أنهم تواصوا بالبقاء على الباطل.

فإن الله ﷻ لما قال عن هؤلاء ﴿وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ﴾ عليكم أن تثبتوا وأن تصبروا على آلهتكم ﴿إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ﴾ شيءٌ يريد محمد ﷺ أن ندع ما كنا عليه وما كان عليه آباؤنا، ﴿إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ﴾ بملتنا، وهذا يدل على أنهم أرادوا أن يبقوا على عبادتهم.

﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ﴾ يقولون: ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة، لم نسمع ذلك في عهد آبائنا الأقربين، وأيضاً لم نسمع ذلك في ملة عيسى عليه السلام، مما قاله محمد ﷺ، بل سمعنا في عهد عيسى أنهم افترقوا فجعل بعضهم عيسى إلهاً وبعضهم جعله ثالث ثلاثة.

﴿إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ﴾ شيء اختلقه محمد ﷺ وأتى به من عنده ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ﴾ أي: ما هذا إلا اختلاق.

﴿أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا﴾ وهذا يدل على تناقض هؤلاء، يعني: إذًا لما ذكروا ما ذكروا فيما مضى قالوا مستبعدين يعني لو نزل هذا القرآن على غيره لآمنا فكان التناقض، فقال الله ﷻ عن هؤلاء: ﴿أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا﴾ ﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾[ص:1] القرآن ﴿أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا﴾ يعني: كيف يكون له ذلك ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي﴾ بل هم في شك من ذكري وهو القرآن، ﴿بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ لو ذاقوا عذاب الله ﷻ لعلموا بطلان ما هم عليه.

﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ﴾ ﴿أم عندهم﴾ يعني: هل عندهم خزائن رحمة ربك حتى يجعلوا النبوة فيمن يشاءون؟ ولذلك قال ﷻ عن هؤلاء ﴿وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ﴾ [الزخرف: 31-32].

فقال الله عز وجل: ﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ﴾ فيعطون من شاؤوا ويمنعون من شاؤوا ﴿الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ﴾ ﴿العزيز﴾ القوي، ووهاب يهب لمن يشاء، ليس لهم ذلك.

﴿أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾؟ الجواب: لا، ﴿فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ﴾ فليصعدوا إلى الأسباب التي توصلهم إلى السماء فيمنعوا الوحي عن محمد ﷺ، لكن لا ملك لهم، ﴿جند ما﴾ وهنا للتحقير لهؤلاء ﴿جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ﴾ هم من جملة الأحزاب الذين تحزبوا على الأنبياء السابقين فهزمهم الله ﷻ.

﴿كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوحٖ وَعَادٞ وَفِرۡعَوۡنُ ذُو ٱلۡأَوۡتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوۡمُ لُوطٖ وَأَصۡحَٰبُ لۡـَٔيۡكَةِۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلۡأَحۡزَابُ (13) إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنظُرُ هَٰٓؤُلَآءِ إِلَّا صَيۡحَةٗ وَٰحِدَةٗ مَّا لَهَا مِن فَوَاقٖ (15) وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبۡلَ يَوۡمِ ٱلۡحِسَابِ (16)﴾

﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ﴾ كذبت قبل كفار قريش قوم نوح وقوم عاد وقوم فرعون ذو الأوتاد.

﴿ذو الأوتاد﴾ هو صاحب الجنود العظيمة والجيش العظيم الذين يثبّتون ملكه كالأوتاد، وقيل أيضاً: أنه كان إذا أراد أن يقتل أحدًا يجعل له أوتاداً ويصلبه في هذه الأوتاد حتى يموت، ولذلك هدد موسى عليه السلام قال: ﴿لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾[الشعراء:29].

﴿وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ﴾ وقد مر معنا ﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء:176] الذين أُرسل شُعيب إليهم.

﴿أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ﴾ تحزبوا على الأنبياء فكان حالهم أن الله ﷻ أهلكهم، فماذا يساوي قولك عند هؤلاء؟ ولذلك قال الله عز وجل: ﴿وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ﴾[سبأ:45]. يعني ما بلغوا عُشر ما أوتي أولئك من الأمم السابقة.

فقال الله عز وجل: ﴿إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ﴾ أي: ما كل إلا كذب الرسل ﴿فحق عقاب﴾ أي وجب عقاب الله ﷻ على هؤلاء لما كذبوا الرسل.

﴿وَمَا يَنظُرُ هَؤُلاءِ﴾ كفار قريش ﴿إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ وهي صيحة البعث، ﴿مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ﴾ أي من رجوع، يعني لا أحد يستطيع أن يردها أو يصرفها ﴿أَزِفَتِ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ﴾ [النجم:57-58].

﴿من فواق﴾ كما هو الزمن الذي يكون بين حلب هذه الشاة وحلب تلك الشاة، ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا﴾ أي نصيبنا، يعني استعجلوا العذاب، قالوا: إن كان هناك بعث ونشور ولنا عذاب فعجل به في هذه الدنيا ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا﴾ نصيبنا من العذاب ﴿قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ﴾.

﴿ ٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱذۡكُرۡ عَبۡدَنَا دَاوُۥدَ ذَا ٱلۡأَيۡدِۖ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرۡنَا ٱلۡجِبَالَ مَعَهُۥ يُسَبِّحۡنَ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِشۡرَاقِ (18) وَٱلطَّيۡرَ مَحۡشُورَةٗۖ كُلّٞ لَّهُۥٓ أَوَّابٞ (19) وَشَدَدۡنَا مُلۡكَهُۥ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡحِكۡمَةَ وَفَصۡلَ ٱلۡخِطَابِ (20)﴾

﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ اصبر يا محمد على قولهم هذا، وتسلَّ بداود عليه السلام، ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ﴾ ذا القوة -من آد يئيد-، ﴿إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ أي أنه رجّاع إلى طاعة الله عز وجل.

﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ﴾ ومر معنا ذلك في سورة سبأ ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾[سبأ:10]. فهي تسبح معه، ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ﴾ في آخر النهار، بالعشي من الزوال إلى المغرب ﴿والإشراق﴾ وقت الإشراق.

﴿وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ﴾ وسخرنا الطير محشورة أي: مجموعةً له، وهذا يدل على عِظم الله ﷻ أعظم ما ينفر من الآدميين هي الطيور، ومع ذلك محشورة.

﴿كل له أواب﴾ كلٌ من الطير والجبال تُرجِّع مع داود لله ﷻ بالتسبيح ﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ﴾ كما قال عز وجل: ﴿وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ [البقرة:251].

﴿وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ﴾ الحكمة” وهي الإصابة في القول وفي العمل، مع الحكمة والتعقل، وأيضاً الحكمة يدخل فيها النبوة.

﴿وفصل الخطاب﴾ فصل الخطاب هو توضيح الكلام، وبيان الكلام، وفصاحة الكلام، ومن ذلك يدخل ما قاله بعض العلماء أن كلمة: “أما بعد” هي من فصل الخطاب.

﴿۞وَهَلۡ أَتَىٰكَ نَبَؤُاْ ٱلۡخَصۡمِ إِذۡ تَسَوَّرُواْ ٱلۡمِحۡرَابَ (21) إِذۡ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُۥدَ فَفَزِعَ مِنۡهُمۡۖ قَالُواْ لَا تَخَفۡۖ خَصۡمَانِ بَغَىٰ بَعۡضُنَا عَلَىٰ بَعۡضٖ فَٱحۡكُم بَيۡنَنَا بِٱلۡحَقِّ وَلَا تُشۡطِطۡ وَٱهۡدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَٰطِ (22) إِنَّ هَٰذَآ أَخِي لَهُۥ تِسۡعٞ وَتِسۡعُونَ نَعۡجَةٗ وَلِيَ نَعۡجَةٞ وَٰحِدَةٞ فَقَالَ أَكۡفِلۡنِيهَا وَعَزَّنِي فِي ٱلۡخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدۡ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعۡجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِۦۖ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡخُلَطَآءِ لَيَبۡغِي بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَقَلِيلٞ مَّا هُمۡۗ وَظَنَّ دَاوُۥدُ أَنَّمَا فَتَنَّٰهُ فَٱسۡتَغۡفَرَ رَبَّهُۥ وَخَرَّۤ رَاكِعٗاۤ وَأَنَابَ۩ (24) فَغَفَرۡنَا لَهُۥ ذَٰلِكَۖ وَإِنَّ لَهُۥ عِندَنَا لَزُلۡفَىٰ وَحُسۡنَ مَـَٔابٖ (25) يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلۡنَٰكَ خَلِيفَةٗ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱحۡكُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلۡهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدُۢ بِمَا نَسُواْ يَوۡمَ ٱلۡحِسَابِ (26)﴾

﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ﴾الاستفهام للتشويق، وهل أتاك يا محمد نبأ الخصم أي: خبر الخصم ﴿إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ﴾ وقال هنا الخصم مفرد مع أن الذي تسور اثنان، وقال هنا: ﴿تسوروا﴾ وهذا يدل على أن كلمة الخصم تطلق على المفرد وعلى الجمع وعلى التثنية، ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾[الحج:19].

﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ﴾ يعني: أنهم تسلقوا المحراب إلى المكان الذي كان يتعبد فيه داود عليه السلام وحده، ولم يخرج للقضاء بين الناس، ﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ﴾ يعني: خاف منهم وهذا فزع طبيعي، كما قال عز وجل: ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى﴾[طه:67]. وهذا لا يدل على انحطاط قدر الأنبياء عليهم السلام، ﴿قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ﴾ يعني: اعتدى بعضنا على بعض ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ﴾ ليكن الحكم بيننا بالحق ﴿وَلا تُشْطِطْولا تُجر ولا تظلم أحدنا على أن لا تعطيه حقه ﴿وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِإلى الطريق الوسط الذي به يكون صلاح أمرنا.

﴿إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةًوالنعجة تُطلق على أنثى الغنم وتطلق على أنثى البقر ﴿وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَالتكن عندي مضمونة إليّ ولكي أتملكها حتى تكون مئة ﴿وَعَزَّنِيغلبني ﴿فِي الْخِطَابِ﴾.

قال داود عليه السلام: ﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِوبعض المفسرين قال: ﴿إلى﴾ بمعنى (مع)، وقد بَينا أن الحروف لا ينوب بعضها عن بعض، بل يبقى الحرف على ما هو عليه، ﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِيعني: إلى ضمها إلى نعاجه، ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِمن الشركاء ﴿لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ ليعتدي بعضهم على بعض ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِفهؤلاء لا يحصل منهم بغي ﴿وَقَلِيلٌ وأكد ذلك بقوله: ﴿ما هم﴾.

﴿وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُاختبرناه ﴿فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُمما جرى منه ﴿وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَيعني: وخر ساجداً، وهذه نسجد عندها كما جاءت السنة الصحيحة عنه ﷺ بذلك، وإنما ذكر الركوع هنا لأنه يُطلق على السجود الركوع، أو أنه إذا كان الإنسان قائماً لا يتم له سجود إلا إذا كان قريباً في ثنايا سجوده إلى الركوع.

﴿فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَأي: مما جرى منه ﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَىقربة ومكانة ﴿وَحُسْنَ مَآبٍحسن مرجع، لكن ما هو هذا الأمر الذي حصل لداود وفُتن داود عليه السلام به؟

قال بعض المفسرين أقوالاً كثيرة وبعضها لا تليق بداود عليه السلام، وإنما سياق الآيات أن داود عليه السلام لما أتى هذان وتسلقا المحراب، ففزع ظناً منه هذا الظن، أنهما أرادا به السوء، فلما تبين له أنه لم يريدا منه السوء، تبين لداود لما عرضا عليه ما جرى بينهما أن ما كان يضمره في نفسه خيفةً منهما ليس بصحيح وهذا هو الظن، أما ما يقال أنه عليه السلام لم يسمع لقول الآخر وإنما حكم قبل سماع القول الآخر فهذا لا يليق بداود عليه السلام، لأن الله ﷻ أثنى عليه في أول الآيات ﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾[ص:20].

ومن الحكمة: أنه لا يحكم إلا بعد أن يسمع من الطرف الآخر. وأما قوله: ﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ[ص:24]. يعني: إن كان القول كما تقول أنه ظلمك وهذا على مسمعٍ من الشخص الآخر، فدل على أن الشخص الآخر قد أقر بذلك.

وأما ما يُذكر أن داود عليه السلام اطلع فرأى امرأةً جميلة فقيل: إنها امرأة لأحد الجنود فأوصى رئيس الجند أن يجعله في المقدمة حتى يموت فيتزوج داود عليه السلام بها، أو أنه -يعني داود- قال لزوج هذه المرأة تنازل بها عني، فهذا لا يليق بمقام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام! ولذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن اليهود سبب من أسباب هذه القصص المختلقة، إنما هي من اليهود الذين أرادوا أن يشوهوا سيرة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

فإذًا ظاهر الآيات واضح ولله الحمد.

قال هنا: ﴿عندناتدل على القرب، وتدل على المكانة العليا لداود عليه السلام ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِخليفة في الأرض بما مكنك الله ﷻ من الملك، وكما قال عز وجل: ﴿وشددنا ملكه﴾.

﴿فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّفدل هذا على أن الملك لا يثبت ثباتًا مستقرًا ونافعًا وصالحًا إلا بالعدل، ﴿وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَىلأن من اتبع الهوى مصيره إلى الضلال ﴿فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ولذلك نُصب الفعل المضارع بعد فاء السببية لأن ما بعدها “أن” مضمرة وجوبًا لما سبقه من النهي.

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوابسبب نسيانهم يوم الحساب ﴿بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِبما نسوا وتركوا ما يكون فيه نجاة لهم يوم الحساب.

 

﴿وَمَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَا بَٰطِلٗاۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ (27) أَمۡ نَجۡعَلُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ كَٱلۡمُفۡسِدِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ نَجۡعَلُ ٱلۡمُتَّقِينَ كَٱلۡفُجَّارِ (28) كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ مُبَٰرَكٞ لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ (29)﴾

﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًاما خلقهم الله ﷻ إلا بالحق كما ذكر في آيات كثيرة، ما خلقها إلا بالحق من أجل أن يعتبر الناس في خلقه ﷻ للسماوات وللأرض، فيعلمون أن الذي خلقهما هو الذي يستحق العبودية وينظرون ويتأملون فيها.

فقال الله عز وجل: ﴿ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوالأنهم لا يتدبرون ولا يتمعنون في هذه المخلوقات، ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ فلم يقل: فويلٌ لهم ليدل على أن كل كافر له الويل، وهو الوعيد الشديد.

 لأنهم يقولون: نحن قد أعطينا المال والمكانة في الدنيا إذًا لو بُعثنا على ما تقولون فستكون لنا المنزلة أعلى وأعظم في الآخرة، ولذلك قال تعالى ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى﴾[سبأ:37].  لأنهم قالوا: ﴿وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ[سبأ:35].

فقال الله ﷻ هنا: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِثم من باب التأكيد أكثر وأكثر ﴿أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِأُتِي بها بجملة أخرى بصيغة أخرى للتأكيد، فهذا لا يتوافق مع حكمة الله ﷻ، حكمة الله ﷻ أنه يعذب هؤلاء المجرمين المفسدين وأنه يكرم هؤلاء المؤمنين المتقين.

﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌبه البركات، وبه الخيرات، ومر معنا ما يدل على ذلك في سورة الأنعام وفصلنا بركة القرآن، من أجل ماذا؟ ﴿لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِيعني: لما لم يتدبروا في خلق السماوات والأرض، لما لم يتدبروا في آيات الله الكونية فليتدبروا في آيات الله الشرعية، ﴿لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِوأعظم ما يُتدبر من آيات الله المتعلقة بأسماء الله وصفاته ﴿وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ

يعني: من تدبر يؤديه هذا التدبر إلى التذكر، والتذكر يورث العمل، لكن الذي يتذكر هم أصحاب الألباب أصحاب العقول السليمة الصحيحة.

 

﴿وَوَهَبۡنَا لِدَاوُۥدَ سُلَيۡمَٰنَۚ نِعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٌ (30) إِذۡ عُرِضَ عَلَيۡهِ بِٱلۡعَشِيِّ ٱلصَّٰفِنَٰتُ ٱلۡجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّيٓ أَحۡبَبۡتُ حُبَّ ٱلۡخَيۡرِ عَن ذِكۡرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتۡ بِٱلۡحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّۖ فَطَفِقَ مَسۡحَۢا بِٱلسُّوقِ وَٱلۡأَعۡنَاقِ (33) وَلَقَدۡ فَتَنَّا سُلَيۡمَٰنَ وَأَلۡقَيۡنَا عَلَىٰ كُرۡسِيِّهِۦ جَسَدٗا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ ٱغۡفِرۡ لِي وَهَبۡ لِي مُلۡكٗا لَّا يَنۢبَغِي لِأَحَدٖ مِّنۢ بَعۡدِيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ (35) فَسَخَّرۡنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجۡرِي بِأَمۡرِهِۦ رُخَآءً حَيۡثُ أَصَابَ (36) وَٱلشَّيَٰطِينَ كُلَّ بَنَّآءٖ وَغَوَّاصٖ (37) وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي ٱلۡأَصۡفَادِ (38) هَٰذَا عَطَآؤُنَا فَٱمۡنُنۡ أَوۡ أَمۡسِكۡ بِغَيۡرِ حِسَابٖ (39) وَإِنَّ لَهُۥ عِندَنَا لَزُلۡفَىٰ وَحُسۡنَ مَـَٔابٖ (40)﴾

﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَهبة يعني الابن سليمان هبة لداود المذكور آنفاً ﴿نِعْمَ الْعَبْدُنعم العبد هو سليمان ﴿إنه أوابرجّاع إلى طاعة الله.

﴿إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّالعشي: من الزوال إلى المغرب، ﴿الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُالخيل الصافنات التي تقف على ثلاثة أرجل وترفع رجلاً واحدة ﴿الجياديعني: السريعة، فهنا وصفت أنها حال وقوفها تكون هكذا، وهذا أحسن منظر لحالها إذا كانت واقفة لم تجرِ، وإذا جرت فإنها سريعة.

﴿فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي﴾ الخير هنا: “الخيل”، لأن الخيل بها ما يحصل من خير، ولذلك النبي ﷺ كما جاء في الصحيح قال: ” الخَيلُ مَعقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الخَيْرُ إلى يَوْمِ القيامة”

قال كثير من المفسرين: ﴿عن ذِكر ربييعني: عن الصلاة صلاة العصر، لأنه اشتغل بها مع أنها خير، فغربت الشمس ولم يصلَّ تلك الصلاة، فقال الله عز وجل: ﴿حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾. يعني: حتى اختفت الشمس بالحجاب أي أن القرص ذهب.

﴿رُدُّوهَا عَلَيَّ الخيل ﴿فَطَفِقَ مَسْحًامسحاً: ليس اسماً لطفق، وإنما هو مفعول مطلق يعني: فطفق يمسح، يمسح الجملة هي خبر لطفق وهي من أفعال الشروع.

﴿فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ أنه يقطعها من حيث الساق، بالسوق والأعناق.

﴿فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِهذا هو عليه كثير من المفسرين، وبعض المفسرين يقول: أنه لم يفعل ذلك لأنه لا ذنب للخيل فهذا إفسادٌ وإسراف للخير.

ولذلك يقولون: معنى الآية: ﴿إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِيعني: أحببت حب الخير ﴿عَنْ ذِكْرِ رَبِّيمن أجل أنها من ذكر ربي ﴿حَتَّى تَوَارَتْيعني: الخيل ﴿بِالْحِجَابِاختفت عنه، ثم لما اشتاق إليها قال: ﴿ردوها عليّ فطفق مسحاًبيده ﴿بالسوقيعني على ساقها وعلى أعناقها.

لكن من يقول بالقول الأول يقول: إنما كان ذلك جائزاً، وهو أنه يذبحها من أعناقها ومن أسواقها، ولذلك يقولون لما ذبح وعقر هذه الخيول، عوضه الله ﷻ بالريح ﴿تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ وعلى كل حال هذان القولان وبهما في كل واحد منهما قوة، لكن القول الأول ليس به إضمار أو ما شابه ذلك.

وعلى كل حال قال عز وجل: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَاختبرنا سليمان، ﴿وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَفما هو هذا الذي أُلقي على كرسيه؟ هناك قصص، ولذلك اليهود يريدون أن يشوهوا سيرة الأنبياء عليهم السلام، ومن ثَمَّ فإن هذه الفتنة والاختبار الذي حصل لسليمان عليه السلام ليس كما يقال: أنه أتى جنيّ في صورة سليمان وأخذ الخاتم من زوجته وإذا به يتحكم في مملكة سليمان ويفعل فيها ما يفعل في مملكته، أو أن الله ﷻ عاقبه لما وُلد له مولود فخشي سليمان أن الشياطين تتعرض له، فقال للنجوم: احفظيه عندك أو ما شابه ذلك فهذا لا يليق بالأنبياء.

ومن ثَمَّ قال بعض العلماء: الفتنة حصلت لكن الله أعلم بما هي، لكن نقول: الأدلة من السنة تدل على أن الفتنة حصلت لما قال سليمان: لأطوفنّ الليلة بسبعين امرأة”. وفي رواية عدد آخر. “تلد كل امرأة غلامًا يجاهد في سبيل الله”، فقيل له: قل إن شاء الله، فلم يقل إن شاء الله، وهذا قد يحصل للأنبياء من باب النسيان كما حصل للنبي ﷺ ﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24].

فلما لم يفعل إذا بهن لم يلدن إلا واحدة ولدت جزء من إنسان، فهذا الجزء هو الفتنة الذي وُضع على كرسيه.

﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ[ص:34]. رجع إلى الله ﷻ وعلم أنه لو قال المشيئة لحصل له مقصوده، ﴿ثُمَّ أَنَابَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِيملك لا ينبغي لأحدٍ من بعدي، ومن ثَمَّ فإن بعض الناس قد يقول: لماذا يقول هذا والأنبياء لا يريدون الدنيا؟ فهو عليه السلام لما طلب هذا الملك أراد أن يكون هذا الملك عونًا له على إقامة شرع الله ﷻ في أرض الله، ولذلك النبي ﷺ كما ثبت عنه أنه قال: ” إنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الجِنِّ جَعَلَ يَفْتِكُ عَلَيَّ البارِحَةَ، لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلاةَ، وإنَّ اللَّهَ أمْكَنَنِي منه فَذَعَتُّهُ، فَلقَدْ هَمَمْتُ أنْ أرْبِطَهُ إلى جَنْبِ سارِيَةٍ مِن سَوارِي المَسْجِدِ، حتَّى تُصْبِحُوا تَنْظُرُونَ إلَيْهِ أجْمَعُونَ، أوْ كُلُّكُمْ، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَ أخِي سُلَيْمانَ: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لي وهَبْ لي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِن بَعْدِي﴾ [ص:35]، فَرَدَّهُ اللَّهُ خاسِئًا “

ذكر المغفرة لأنها تتعلق بأمور الدين، فأمور الدين مقدمة على أمور الدنيا، مع أن ما طلبه من أمر الدنيا هو من أجل أن يستعين بذلك على طاعة الله عز وجل.

قال: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُأنت الوهاب الذي تهب لمن تشاء، وهذا يدل على أننا علينا أن نتفقه في معاني أسماء الله ﷻ فهو الوهاب الذي يهب لمن يشاء ﷻ بما يشاؤه ويريده عز وجل.

﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَبدل تلك الخيل ﴿تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءًيعني: لينة ﴿حَيْثُ أَصَابَحيث أراد، ولذلك في الآية الأخرى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةًيعني: شديدة، ﴿تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأنبياء:81].

﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ[سبأ:12]. ما تقطعه الدواب في شهر تقطعه في روحة وفي غدوة في أول النهار وفي آخر النهار، وكل ذلك هي عاصفة وهي رخاء لينة، كل ذلك بأمره إن أرادها لينة وإن أرادها عاصفة.

﴿وَالشَّيَاطِينَيعني: سخر له الشياطين ﴿ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍمن يبني له الأبنية ويغوص في البحر لاستخراج اللؤلؤ.

ولذلك قال تعالى: ﴿وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ[الأنبياء:82]. وقال تعالى فيما يتعلق بالأبنية: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ[سبأ:13] . فقال الله ﷻ هنا: ﴿ وَآخَرِينَمن الشياطين ﴿مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِيعني: مقيدين بالقيود، لأنهم لم يذعنوا لسليمان عليه السلام، ﴿هَذَا عَطَاؤُنَالك يا سليمان ﴿فامننما معناها؟ تفسرها كلمة: ﴿أمسك﴾، ﴿فامننيعني: أعطِ ﴿فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْيعني: تمن على من تشاء العطية، أو تُمسك فلا جناح عليك لست بمؤاخذ، وهذا كرم من الله ﷻ فهو ليس بمؤاخذ إذا أعطى أو إذا أمسك ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍلا حساب عليك ولا مؤاخذة، ﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَىلمنزلة وقربة ومكانة، ﴿وَحُسْنَ مَآبٍيعني: حسن مرجع إلى الله عز وجل.

 

وللحديث تتمة إن شاء الله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.