تفسير سورة عبس ـ الجزء الثاني
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحابته وسلم تسليماَ كيراً إلى يوم الدين أما بعد
قال تعالى
{ قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ(17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ(18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ(19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ(20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ(21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ(22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ(23) }.
معاني الكلمات
{ قُتِلَ } : لعن.
{ الإِنْسَانُ } : هو الكافر.
{ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ } : يسر له أموره الدينية والدنيوية.
{ أَنْشَرَهُ } : بعثه.
{ كَلَّا } : كلمة ردع وزجر أو بمعنى حقا .
{ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ } : لم يفعل ما وجب عليه.
من فوائد هذه الآيات
- بيان ما عليه الإنسان من الظلم والجهالة وهذا من حيث أصله كما قال تعالى { وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } {الأحزاب:72} لكن من حيث ما منَّ الله عز وجل عليه به يرتقي ويتطهر من هذه الأنجاس إلى أعالي الأمور كما قال تعالى { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(10) }. {الشمس}.
- أن معنى { مَا أَكْفَرَهُ } {عبس:17} أما أن يكون استفهاما أي ما الذي حمله على الكفر؟ أو أنه أسلوب يتعجب منه أي ما أشد كفره.
- أن القرآن كما أسلفنا يفسر بعضه بعضا فإنه لمَ سأل عن خلق هذا الإنسان بين خلقه { مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ } {عبس:19} .
- أن الأسلوب في القرآن يتنوع إذ ذكر خلق الإنسان من باب إيقافه على ضعفه فهنا قال { مِنْ نُطْفَةٍ } وقال تعالى { أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ } {المرسلات:20} وأبهم في سورة المعارج{ كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ } {المعارج:39} فلا داعي إلى أن يتكبروا أو يعرضوا.
- بيان حسن خلق الله لابن آدم فإنه لما خلقه قدره وهذا في خلق الله للخليقة كلها فإنه إذا خلق جل و علا كان خلقه خلقا مقدرا كل بحسبه قال تعالى { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى(2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى(3) }. {الأعلى}. وقال تعالى { يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ(6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ(7) }. {الانفطار}. وقال تعالى { الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } {طه:50} وقال تعالى { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا(1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا(2) }. {الفرقان}. والآيات في هذا المعنى كثيرة . فيكون في ذلك دعوة للإنسان أن يشكر ربه إذ لم يجعله كلباً أو حماراً أو أنه غير متناسب الأطراف وإنما خلقه وقدره أحسن تقدير.
- تيسير الله عز وجل لابن آدم أموره الدينية والدنيوية فإن قوله تعالى { ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ } {عبس:20} يشمل معاني كثيرة فيسر له السبيل ووضحه سبيل الخير وسبيل الشر كما قال تعالى { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } {الإنسان:3} وقال تعالى { وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ } {النحل:9} ويسر له سبيل الطعام والشراب وسبيل الخروج من بطن أمه فالكلمة تشمل معاني متعددة.
- تكريم الله عز وجل لابن آدم إذ شرع أن يدفن بعد موته خلافاً للبهائم فإنها ترمى.
- بيان إثبات البعث والجزاء والحساب إذ قال { ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ } {عبس:22} فإن ابن آدم يمر بمراحل متعددة وبأطوار مختلفة ولذا قال تعالى { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } {الانشقاق:19} أي في أحوال مختلفة متباينة في الدنيا وفي الآخرة وقال تعالى { مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا(13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا(14) }. {نوح}.
- أن مع هذا البيان الشافي لم يوفِ الإنسان ما أوجبه الله عز وجل عليه من أمره وهذا يتفق في الأسلوب مع قوله تعالى { مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا(13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا(14) }. كأنها جمله تعليلية وقال تعالى { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } ما الذي بعدها { فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } {الانشقاق:20} وقال تعالى { وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } {الذاريات:21} فإن الإنسان لو نظر إلى أحواله من حين ما كان في بطن أمه ثم صار طفلاً ثم شاباً ثم كهلاً ثم شيخاً ثم هرماً يشعره ذلك بأنه عبد لله عز وجل يجب عليه أن يعبد الله وأن يعظمه.
قال تعالى
{ فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ(24) أَنَّا صَبَبْنَا المَاءَ صَبًّا(25) ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا(26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا(27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا(28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا(29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا(30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا(31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ(32) }.
معاني الكلمات :
{ فَلْيَنْظُرِ} :نظر إعجاب وتفكر.
{ المَاءَ } : المطر.
{ قَضْبًا } : هو القت الأخضر المعروف عندنا بالبرسيم.
{ غُلْبًا } : ذات أشجار ملتفة لكثرتها.
{ أَبًّا } : طعام البهائم.
من فوائد هذه الآيات
- فضل الله عز وجل وفي نفس الوقت عظمة هذا القرآن الذي نوع الأسلوب لابن آدم علَّه إذا أعرض أن يقبل فإنه لما ذَّكره بحقيقة أصله ذكره بعبرة أخرى وهي ما يراه من هذا المطر ومن هذا الطعام الذي يكون له ولبهائمه.
- أن الإنسان مأمور أن ينظر في آيات الله عز وجل سواء كانت الآيات القرآنية أو الآيات المشاهدة في الخليقة التي في الكون ولذا حث عز وجل على النظر والاعتبار ففي سورة ق { أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ(6) وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } (لمَ؟) { تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ(8) }.
قال تعالى { أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ } {الأعراف:185} فإن النظر وسيلة سريعة إلى زيادة الإيمان ألم تقرأ وتسمع ما ذكره الله عز وجل { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ } لمن؟ { لِأُولِي الأَلْبَابِ(190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } زادهم هذا الاعتبار إيماناً بل وصفهم بوصفٍ حميد من اتصف بهذه الصفة وهي ذكر الله عز وجل على كل حال فإنه من أهل النظر والاعتبار لأن أصحاب الغفلة لا يتفكرون ولا ينظرون إنما الذي يتفكر وينظر هم أهل الذكر ولذا لما خلت قلوب الكفار من الإيمان والذكر اختلفت مقولتهم عن مقولة هؤلاء أولي الألباب قال تعالى { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواِ } {ص:27} هذا ظنهم لكن أولي الألباب يختلفون عنهم .
- شكر الله عز وجل على نعمه المتتابعة ومن نعمة أن يسر لنا الطعام بل خلق لنا ما في الأرض جميعا لمَ خلق لنا ما في الأرض جميعاً؟ للاستعانة بها على عبادة الله عز وجل فهو خلق لنا ما في الأرض جميعا وخلقنا من أجل عبادته { وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } {الذاريات:56} .
- أن طعامنا كائن من السماء والأرض ولذا قال تعالى { أَنَّا صَبَبْنَا المَاءَ صَبًّا } {عبس:25} هذا يتعلق بالسماء وهو نزول المطر { ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا } {عبس:26} التي هي محل النبات لهذا المطر ولذا قال تعالى { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ } {الأعراف:96} وقال تعالى { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ(65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ }.
ولذا سمى الله عز وجل المطر رزقا قال تعالى { هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ } {غافر:13} وقال تعالى { وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } {الجاثية:5} .
- أن الله عز وجل يسر طعام بهائم ابن آدم لتقوم حياة ابن آدم فهنا ذكرٌ للقضب وهو القت الرطب وفيه ذكر للأب الذي هو نوع من أنواع طعام بهائمنا ولذا قال تعالى { وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } {الزُّمر:6} على قول بعض المفسرين إن إنزال البهائم ليس إنزالاً حقيقياً و إنما لأن هذه البهائم تعيش على ما نزل من السماء فإذا نزل المطر من السماء وأنبتت الأرض قامت حياة هذه البهائم التي بها تقوم حياة بني آدم.
- أن المنبت لهذه الأشياء هو الله جل و علا كما هو منبتنا فإذا أنبت هذه الأشياء لنا فهو أنبتنا وكيف تنبت هذه الأشياء من المطر ففيه تذكيرٌ لنا بأن هناك حياة أخرى فكما أن الأرض الميتة تحيى بالمطر أنتم إذا متم تحيون يوم القيامة وكما قلت لكم والله إن المتأمل لكلام الله يمكن أن يفسر جل آيات الله عز وجل من خلال آيات أخرى ويجد أن ما في هذه السورة موجودٌ في هذه السورة لكن بأساليب متنوعة تثمر فوائد جديدة وهذا مصداق قوله تعالى { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } {القمر:17} يعني أنت ابدأ فقد قامت الحجة علينا قال عز وجل { وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا } {نوح:17} { ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا } فالإنبات منه جل و علا وليس من أنفسنا ولذا قال تعالى { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ(63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ(64) }. {الواقعة}. الجواب: الزارع هو الله عز وجل.
- أن فضل الله عز وجل عظيم ولذا نوع الطعام الذي لنا ولبهائمنا حتى لا تمل نفوسنا { فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا } {عبس:27} الحب يشمل جميع الحبوب من القمح والذرة , العنب نوع آخر من الطعام لنا ,القضب نوع من أنواع طعام بهائمنا, الزيتون نوع آخر من أنواع طعامنا , النخل الذي ينبت أفضل الثمار وهو التمر نوع آخر, الأب نوع آخر من أنواع طعام بهائمنا ,الفاكهة وهي كل ما يتفكه به الإنسان ثم مع هذا كله فإن البطون لما امتلأت بهذه الأنواع المتعددة أعطى الله عز وجل لنا بهجة وسرور في أعيننا وفي نفوسنا بإيجاد هذه الحدائق الغناء كثيرة الأشجار.
- أن أبا بكر وأيضاً روي عن عمر رضي الله عنهم لما سئل عن (أبا) قال (أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كلام الله عز وجل ما لا أعلم) سبحان الله نحن نعرف الأب ويعرفه من سبقنا من العلماء ولا يعرفه أبو بكر وعمر مع أنهما أعظم الأمة إيماناً وعلما وصحبة لنبي عليه الصلاة و السلام لا يمكن هذا ولذا قال شيخ الإسلام رحمه الله (إنهما لما سئل عن الأب أجابا بهذا الجواب ليس لكونهما لا يعرفان أن الأب نوع من أنواع طعام البهائم وإنما لأنهما لا يعرفان تحديد هذا الطعام ) ففرق بين الأمرين هما يعرفان أن الأب نوع من أنواع الطعام لكن ما هية هذا الأب ما هو بالتحديد لا يعرفانه.
- أن ذكر هذه الأشياء وهو الحب والعنب والزيتون والنخل ذكرها لفضلها وإلا فغيرها من أنواع الأطعمة كثير.
- أن بعض هذه المذكورات كالعنب مثلاًَ داخلٌ تحت معنى الفاكهة ومع ذلك أفردها بالذكر مما يدل على أن أنواع الفواكه المذكورة هنا ذكرت لفضلها أو لكونها المشهورة عندهم آنذاك.
- أن ما ذكر من هذا الفضل من أجل أن نتمتع به نحن وبهائمنا فيكون فيه دلالة على أن ابن آدم له أن يستمتع بما أباح الله له من المطاعم والمشارب ولذا قال تعالى { وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } {الأنعام:119} وقال تعالى { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ }.
قال تعالى
{ فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ(34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ(35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ(36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ(37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ(38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ(39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ(40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ(41) أُولَئِكَ هُمُ الكَفَرَةُ الفَجَرَةُ(42) }.
معاني الكلمات
{ الصَّاخَّةُ } :يوم القيامة وسمي بهذا الاسم لأن به صيحة تصخ أسماع الخلق.
{ وَصَاحِبَتِهِ } :زوجته.
{ مُسْفِرَةٌ } : مضيئة .
{ غَبَرَةٌ } :غبار.
{ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } : يعلوها سواد.
من فوائد هذه الآيات
- نجد أن سورة النبأ لما تحدثت عما خلق الله عز وجل قال بعدها { إِنَّ يَوْمَ الفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا } {النَّبأ:17} نجد أنه لما تحدث عن ما خلق الله عز وجل في سورة النازعات قال { فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الكُبْرَى } {النَّازعات:34} وهنا ذكر ما ذكر هناك لكن بأساليب متنوعة ثم جاء الحديث عن يوم القيامة, إذاً ما ذكر هنا من خلقٍ لله عز وجل يذكر ابن آدم بخلقه يوم القيامة وأن هناك يوماً سيحاسب فيه ولذا قال { فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ } {عبس:33} .
- تنوع أسلوب القرآن في تسمية يوم القيامة فقد سميت بأسماء متعددة كالطامة الكبرى – القارعة – الحاقة وهنا قال (الصَّاخَّةُ) كل ذلك من أجل أن يتفطن ابن آدم ويستعد لحياته الحقيقية حتى لا يقول يوم القيامة ما ذكره عز وجل عن ذلك الرجل كما ذكر في سورة الفجر{ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } {الفجر:24} .
- بيان تهويل صاخة وصيحة يوم القيامة مما تهول ابن آدم وقد ذكر عز وجل ذلك آيات كثيرة من بينها ما ذكره عز وجل { يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الخُرُوجِ } {ق:42} وقوله تعالى { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } {الزُّمر:68} وقال تعالى { وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } {النمل:87} .
- تفسير ما يترتب على هذه الصاخة وهو ما ذكر بعدها { يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ } {عبس:34} إلى آخر ما ذكر جل و علا.
- فرار ابن آدم من أحب الناس إليه وهو أخوه وأمه وأبوه وزوجته وبنوه فغيرهم من باب أولى وهذا يدل على هول ما يكون في ذلك اليوم فإذا تبرأ من حواشيه وهم المعبر عنهم (بالأخ) بل أقرب الحواشي إلى ابن آدم الأخ وإذا تبرأ من أقرب الأصول إليه وهو (الأم والأب) وإذا تبرأ من أقرب الفروع إليه (وهم بنوه) وإذا تبرأ من أقرب الأصحاب إليه وهي زوجته دل على خطر ما يكون في ذلك اليوم وذلك لأن هؤلاء المذكورين لو احتاج أحدهم إلى عضو من أعضائه في الدنيا لتبرع به إليه وقال تعالى { يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ المُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ(11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ(12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ(13) وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ(14) }.
- بحث كل إنسان عما ينجيه يوم القيامة ولذا الرسل عليهم الصلاة و السلام ماذا يقول أحدهم؟ (نفسي نفسي) هؤلاء هم الرسل عليهم الصلاة و السلام فمن دونهم كيف يكون حالهم .
- بيان انقسام الناس إلى قسمين مفلحون وخاسرون وهذا من دلالة كون القرآن مثاني فإنه تثنى فيه الأخبار فإذا ذكر أهل الجنة ذكر أهل النار وإذا ذكر النعيم ذكر العقاب وفي ذلك تقريب النفوس من استحضار ذلك اليوم ولذلك النبي عليه الصلاة و السلام لما سئل (من أكيس الناس) أي من أعقلهم قال (أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم لما بعده استعدادا).
- اجتماع الخيرين لأهل الفلاح يوم القيامة خير الظاهر وخير الباطن فإن الله عز وجل يجمع لهم بين إضاءة الوجه وبين السرور الذي في القلب وهذا هو خير الباطن قال تعالى { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ } {آل عمران:106} وقال تعالى { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ } {المطَّففين:24} وقال تعالى { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ } {القيامة:22} من النضارة
وقال تعالى { وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا } {الإنسان:11} ومن ثم ظهرت آثار هذين الخيرين على الشفاه فإن الإنسان إذا استنار وجهه وفرح قلبه ضحك وتبسم ولذا قال تعالى في حق الشهداء { فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(171) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ المُؤْمِنِينَ } {آل عمران:171} .
- بيان حال أهل الخسارة يوم القيامة إذ تغبر وجوههم ويعلوها السواد وهذا مذكور في آيات كثيرة .