تفسير سورة مريم من الآية ( 1 ) إلى (50 ) الدرس (168)

تفسير سورة مريم من الآية ( 1 ) إلى (50 ) الدرس (168)

مشاهدات: 562

﴿بسم الله الرحمن الرحيـــــــم﴾

تفسير سورة مريم من آية (1) إلى آية (50)

 الدرس (168)

لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري – حفظه الله –

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة مريم من السور المكية، قال عز وجل:﴿كهيعص﴾ (1) مريم:

هذه من الحروف المقطعة ومرَّ توضِيحُها في أولِ سورة البقرة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا﴾ (2) مريم.

أي هذا المتلو عليك يا محمد من ذكرِ الله عز وجل إذ رَحِمَ عبدَهُ زكريا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا﴾ (3) مريم.

﴿إِذْ نَادَى﴾ أي وقتَ مناداة زكريا لربهِ ﴿ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ﴾ أي: هذا ﴿ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا﴾ رَحِمَ زكريا ﴿إِذْ﴾ وقتية هُنا: (وقت) ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ﴾ يعني زكريا ﴿نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا﴾ وهذا يدلُ على أنَّ الدعاء الخفيّ من وسائلِ استجابةِ الدعاء، ومن أيضاَ من آداب الدعاء، ولذلك ماذا قال عز وجل ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ (55) الأعراف.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾ (4)

﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ﴾ أي ضَعُفَ ﴿وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي﴾ ذكر العظم لأن العظم هو أساس قوة الإنسان فإذا وهَنَ العظم ماذا يحلُّ بالإنسان؟ الضعف ﴿إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي﴾ هذه فيما يتعلقُ بباطنه، والظاهر: ﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾ يعني أنَّ الشيبَ كَثُرَ في رأسه وهذهِ علامة الكِبَرْ.

﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾ أي لم أكن في يومٍ من الأيام بدعائك يا ربِ شقيا فإنك تستجيبُ دعَواتي فاستجب لي هذه الدعوة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا﴾ (5)

﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ﴾ وهم العَصَبةَ بنو أعمامِهِ ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي﴾ يعني بعد موتي ﴿وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا﴾ يعني أنها لا تلد ﴿وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا﴾ يعني ابنًا يلي هذا الأمر وهو أمر النبوة، وليس المقصود من ذلك أنه يمنعهم من الإرث لا، ولذلك الأنبياء لا يُورَثون كما ثبتت بذلك الأحاديثُ الصحيحة، قال ﷺ كما ثبت عنه

“إنَّا معشرَ الأنبياء لا نُورَثْ، ما تركناه صدقة”

فدل هذا على أنه أراد أنه يكونَ من بعده من يلي أمرَ هذا الدين؛ لأنه يخشى أن يضيعَ هذا الدين لمَّا رأى ما رأى من صدودِ وإعراضِ قومه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ (6) مريم.

﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾ ودل هذا على آل يعقوب تقدموا بسنوات طوال، دل هذا على أنَّ الإرث المقصود هنا هو إرث النبوة والعلم ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ أي اجعله رضياً من حيثُ الأفعال فترضى عنه يا ربَّنا، ويرضى عنه الخلق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا﴾ (7)

﴿يَا زَكَرِيَّا﴾ نوديَ زكريا ﴿إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ﴾ وهذه البشرى كما مرَّ معنا في سورة آل عمران، نادته الملائكة ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ (39) آل عمران.

فقال عز وجل هُنا: ﴿يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ﴾ قال ﴿بِغُلَامٍ﴾ دلَّ هذا على أنَّ هذا المولود سيكونُ غلاماَ مما يدلُ على أنه سيبقى حياً ولن يموت أولَ ولادَته، فقال هُنا: ﴿ اسْمُهُ يَحْيَى﴾ اسمهُ يحيى ﴿لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا﴾ ولعلَّ ذِكر اسم يحيى من (الحياة) مما يدلُ على أنه ستقر عينه بهذا المولود وسيبقى حياً إلى أن يُقدِرَ الله عز وجل وقت وفاتهِ، وكذلك لأنه سيحملُ عِلماً بهِ تحيا قلوب الناس وهو علم (النبوة) فقال هُنا: ﴿اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا﴾ يعني لم يتَسَمَّ أحدٌ بهذا الاسم قبلَه، أما ما قاله بعضُ المفسرين ﴿لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا﴾ أي لم نجعل له نظيراَ ومثيلاَ فإن في هذا نظرا لمَ؟ لأن قبله إبراهيم وأنبياء أفضل من يحيى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا﴾ (8)

﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾ هُنا سألَ من بابِ الاستعلام وليسَ من بابِ الاستحالة، فهو يعلم أنَّ الله عز وجل على كلِ شيءٍ قدير لكنه هُنا سألَ سؤال بيان واستعلام وتعجب، يعني بعد هذا السن وكون المرأة عاقراَ ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا﴾ يعني من حيثُ كِبَرْ السن ﴿وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا﴾ ولذلك في سورة آل عمران:

 ﴿وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾ (40)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾ (9)

﴿قَالَ كَذَلِكَ﴾ يعني الأمر كما ذكرت يا زكريا من حالك وحالِ زوجتك ﴿قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ قال ربك هذا الأمر عليَّ هين ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شيئاً﴾ يعني سأخلقُ هذا الولد منكما فلا تعجب من ذلك إذ إني خلقتك يا زكريا من العدم ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾ يعني من حيثُ العدم، فقال الله عز وجل هُنا عن زكريا: ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا﴾ (10)

﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ يعني علامة ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ علامة على أن زوجتي ستحمِل ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا﴾ ثلاث ليال بثلاثة أيام، ولذلك قال عز وجل عنه كما في سورة آل عمران: ﴿وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ (40-41) فهي ثلاثةُ أيام بِليالِيهنَّ ﴿ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا﴾ يعني أنك ليس بك علة، فأنت سوي لا عِلة بك، تُحبسَ عن الكلام مع أنه لا علة بك في هذا الكلام، اما قولُ بعض المفسرين ﴿ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا﴾ يعني ثلاث ليال متتابعة فالأظهر هو القول الأول وإن كان هذا داخلاً باعتبار أنَّ تلك الأيام تكونُ أياماً بِلياليِهنَّ كاملة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ (11)

﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ﴾ فخرج على قومه من المحراب وهو المكان المرتفع الذي يُخصصُ للعبادة ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ أوحىَ إليهم إشارةً كما قال عز وجل في سورة آل عمران ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ (41)

﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا﴾ (أَنْ) هُنا (تفسيرية) لأنها أتت بعد الوحي الذي يتضمن القول دون حروفه ﴿أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ (البكرة) أول النهار، و(العشيِ) آخر النهار.

ولذلك كما أمرهم زكريا أمره الله عز وجل بذلك كما في سورة آل عمران ﴿وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ (41)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ (12) مريم.

﴿يَا يَحْيَى﴾ أي قُلنا يا يحيى ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ﴾ يعني التوراة ﴿خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾ بقوة يعني بعزم وجد ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ قال بعضُ المفسرين: إنه أُوحِيَ إليه بالنبوة وهو صغير،

وقال بعضُ المفسرين: -ولعله هو الأظهر- أنه لم يُوحَ إليه منذُ الصغر لكن الله عز وجل أعطاه الحكم ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ يعني في حالِ صباه وصِغَرِهِ أعطاه الله الفَهْمَ السديدَ لهذا العلم مع العمل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا﴾ [مريم:13]

﴿وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا﴾ يعني أنه يحنو على غيرهِ، كلُّ ذلك برحمةٍ من الله عز وجل ﴿وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً﴾ يعني أنه طُهِّرَ ﴿وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا﴾.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا﴾ (14)

﴿وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا﴾ أي متشدداً متعنتاً متسلطاَ ﴿وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا﴾ يعني ليس عاصياَ، وقوله هُنا: ﴿وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا﴾ دلَّ هذا على أنَّ عقوقَ الوالدين يُعتبرُ الإنسانُ فيهِ مُتجبِراَ، ويُوصف بأنه متجبر لأنه تعدى وطغى على من له حقٌ عليه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾ (15)

﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ﴾ له السلامة ﴿يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾ لماذا ذُكِرت هذه المواطن الثلاث؟ لأن الإنسان ينتقل من حالٍ إلى حالٍ غير الحالةَ السابقة؛ لأن أشد المخاوف على الإنسان حينما يخرجُ من بطن أُمه إلى هذه الدنيا، وحينما يخرجُ من هذه الدنيا إلى قبره، وحينما يخرجُ من قبره إلى البعث في يوم القيامة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا﴾ (16)

﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ﴾ هُنا أُمِرَ النبي ﷺ واذكر يا محمد ﴿فِي الْكِتَابِ﴾ في هذا القرآن لقومِك حتى يعتبِروا ويتعظوا ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ﴾ وذكر قصةَ مريم هُنا بعدَ قصةِ زكريا عليه السلام لأن زكريا عليه السلام حصلَ منه الولد باعتبار أنه كبيرٌ في السن وباعتبار أنَّ امرأته عاقر، أما هُنا فذكر عز وجل ما يتعلقُ بمريم إذ وُلِدَ منها ولد من غيرِ أب.

﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا﴾ ﴿إِذِ انْتَبَذَتْ﴾ يعني أنها ذهبت وألقت لأن النبذ هو (الطرح) ألقت بنفسها في ﴿مَكَانًا شَرْقِيًّا﴾ أي مكاناً من جهة الشرق، إما من جهة شرق بيتِ المقدس أو من جهة شرق بيتها.

فقال عز وجل هُنا: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا﴾ ولذا تجد أنَّ النصارى يُعظمون جهةَ المشرق ﴿إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا﴾.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾ (17)

﴿فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا﴾ يعني سِتراَ حتى لا يُشاهدوها، قيل من أجل أن تغتسل من الحيض، وقيل من أجل أنها تتعبد لله عز وجل ولا مانع من هذه الأقوال كلِّها ﴿فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا﴾ وهو جبريل ﴿فَتَمَثَّلَ﴾ وسُمّيَ جبريل بأنه روح لأن الله عز وجل أرسله بالوحي الذي به الحياة – به حياةُ القلوب – ﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ (15) غافر.

فقال هُنا: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾ يعني تام الخِلْقَة على أحسنِ ما يكونُ من البشر ومن خِلْقَةِ البشر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾ (18)

﴿قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ﴾ التجأت باللهِ عز وجل واعتصمت به ﴿إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾ وتأمل معي هُنا اسم (الرحمن) تكررَ في هذه السورة عدَّة مرات لمَ؟ لأن ما ذُكِرَ في هذه السورة يدل على عِظَمِ رحمةِ الله، فزكريا لمَّا ذكره الله عز وجل ماذا قال؟ ﴿ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا﴾ (2) مريم.

ولمَّا ذكَرَ ما يتعلقُ بمريم ذكر (الرحمن) وكذلك في شأن قصةِ إبراهيم وما يأتي من آيات.

فقال هُنا: ﴿قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾ وانظر هُنا اعتصمت بالله عز وجل أولاّ، ثم بعد ذلك حذرته ووعظته من أن يَمَسّها بسوء لأنها لا تعلم أنه جبريل.

وتأمل هُنا الله عز وجل قال في آياتٍ أُخر ﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا﴾ (91) الأنبياء، نعم أحصنت فرجها هي في ستر وفي حاجزٍ بينها وبين أهلها وتمثَلَ لها هذا البشر سَويِ الْخِلْقَة وعلى أحسنِ ما يكون ومع ذلك أحصنت فرجها، ومع هذا كلّهِ وعظت جبريل عليه السلام لمَّا أتاها في صورة هذا البشر سَوي الْخِلْقَة ﴿قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾

﴿قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا﴾ (19)

﴿قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ﴾ هُنا قال: ﴿لِأَهَبَ﴾ لأنه سبب عليه السلام، وإلاَّ جاءت قراءة (لِيهَبَ) فالواهبُ من؟ هو الله لكن لماذا قال هُنا (الْهِبَة) منسوبة إلى جبريل لأنه كانَ سبباً بأمر الله عز وجل ﴿لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا﴾ يعني طاهراَ، وذلك كما قال المفسرون: أنه نفخَ في جيبِ درعِها أي في قميصها هذه النفخة ولَجَتْ إلى فرجها فحملت بعيسى عليه السلام فقال الله عز وجل عنها:

﴿قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ (20)

﴿قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾ أنَّى يعني تستبعد كيف يكونُ لي غلام ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ قال بعضُ المفسرين: ولم يمسسني بشر عن طريق النكاح ﴿وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ يعني: عن طريق الزنا، لكنَّ الأظهر من أنَّ قولَها ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ يعني: لم يمسسني بشر لا عن طريق الزواج ولا عن طريق الزنا، وأتت بقولها ﴿وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ من باب التأكيد من أنها طاهرة ليست من أهلِ الزنا؛ ومما يدلُّ على ما ذكرناه هُنا قال عز وجل عنها في سورة آل عمران: ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي﴾ (47) ولم تذكر ما يتعلقُ بالزنا.

 ﴿وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ يعني لستُ باغية ولستُ بزانية ﴿وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾ (21)

﴿قَالَ كَذَلِكِ﴾ أي الأمر كما قلتِ مما ذكرتِ ﴿قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾

يعني ما ذكرته لكِ من أنكِ ستحملين بولدٍ من غيرِ أن يمسكِ بشر هو من أمر الله وهو عليه هين.

﴿قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ﴾ يعني عيسى ﴿آيَةً لِلنَّاسِ﴾ علامة على أنه معجزة وأيضاً آية وعلامة إذا أوحى الله عز وجل إليه حتى ينتفعَ الناسُ من شرعهِ ﴿وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا﴾ رحمة منَّا لمن اتبعهُ وسارَ على طريقتهِ من بني إسرائيل ﴿وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾ يعني هذا أمر قد قُضي وقدَّره الله عز وجل، ولذا قال عز وجل في سورة آل عمران: ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (47).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا﴾ (22)

﴿فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ﴾ يعني ذهبت إلى مكانٍ بعيد ﴿فَانْتَبَذَتْ بِهِ﴾ وطرحت نفسها في مكانٍ بعيد ﴿فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا﴾ يعني بعيدًا ﴿فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا﴾.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا﴾ (23)

﴿فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ﴾ فأجاءها يعني: ألجأها المخاض وهو طلق الولادة ووجع الولادة.

﴿فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ﴾ تمنت الموتُ ﴿مِتُّ قَبْلَ هَذَا﴾ أي قبلِ أن يحصلَ هذا ﴿وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا﴾ أي شيئاً متروكاً لا يؤبهَ بهِ ولا يُذكر، من الشيء الذي لا قيمةَ له ولا قدر.

وهي هُنا لم تتمنَّ الموت لأمرٍ دنيوي ولأنها عَلِمتْ عنْ طريقِ جبريل سيكون منها ولد من غيرِ أب، لكنها تمنت الموت خِيفةً مِما يتعلق بأمرِ الدين، ولذلك النبي ﷺ كما في الصحيح قال:

” لا يتَمَنَّينَّ أحدُكم الموتَ لِضرٍ نزلَ به، فإن كانَ لا محالة فليقلْ اللهم احْينيِ ما كَانتْ الحياةُ خيراً لي وتَوَفنيِ إذا كانتْ الوفاةُ خيراً لي”

لكن هُنا لم تتمنَّ الموت لِضرٍ نزلَ بها وإنما خِيفَةً منْ فتن الدين.

ولذلك من دعاء النبي ﷺ كما ثبت عنه: ” وإذا أردتَ بعبادكَ فتنة فاقبضني إليكَ غيرَ مفتون”

﴿قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا﴾

وقوله هُنا ﴿فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا﴾ ﴿فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ﴾ قال بعضُ المفسرين: من حين ما حملت به ولدت ولعلهم أخذو ذلك عن طريق مجيء (الفاء) ﴿فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا﴾ ﴿فَأَجَاءَهَا﴾ لكن الذي يظهر من أنها حملت به كما تحمل النساء -كعادة النساء- وأما الإتيان (بالفاء) فإن (الفاء) من حيثُ الترتيب والتعقيب كلُّ تعقيبٍ بِحَسَبِه.

ولذلك لمَّا قال عز وجل: ﴿فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا﴾ [(14) المؤمنون] فهناك فاصل بين النطفة وبين المضغة بأربعين يوماَ كما جاء بذلك الحديث – حديث ابن مسعود رضي الله عنه-.

﴿فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا﴾ وليس هناك دليلٌ على أنها حملت به فوضعته مباشرة.

وذِكْرُ النخلة هُنا قال بعضُ المفسرين من أنَّ أطيبَ ما يكونُ للمرأة النُّفساء أن تأكلْ التمر، وقد جاءت أحاديثُ مرفوعة إلى النبي ﷺ لكنها لا تصح عنه ﷺ.

 وذكر النخلة هُنا يدلُ على ماذا؟ استدل بها بعضُ الناس على أن عيسى عليه السلام وُلِدَ في الصيف باعتبار أنَّ ثمار النخيل إنما تكون في الصيف، ومن ثمَ قال بعض الناس إنما تصنعه النصارى هُنا من باب أن ما ذكروه من تحديد هذا اليوم بولادة عيسى ليس صحيحاً.

وعلى كلِ حال ليس هناك دليلٌ صحيح على تعيين ولادة عيسى عليه السلام في صيفٍ أو في شتاء، ولا يُسْتَدَّلُ بهذه الآية على أنه وِلِدَ في الصيف؛ لأن ذكرَ النخلة هُنا قد يكونُ من باب كرامات الله عز وجل لها كما أكرمها بعدةِ كرامات مِنْ أنه يجعل جذع النخلة يكونُ عليه الرطبُ في الشتاء كما قال عز وجل هُنا بعد ذلك ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ﴾ (25) مريم، فكونُها تهز جذع النخلة ويتساقط الرُطب، وجذع النخلة قوي فدل هذا على أنه كرامة.

فعلى كل حال ليس هناك دليلٌ صحيحٌ في تعيين أنَّ عيسى وِلِدَ في ذلك التاريخ أو في الصيف أو في الشتاء.

فقال الله عز وجل عنها لمّا تمنت الموت: ﴿وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا﴾

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾ (24) مريم.

﴿فَنَادَاهَا﴾ من المنادي؟ جبريل أم عيسى؟

 هناك قراءة (فناداها مَنْ تَحْتَها) على أن (مَنْ) موصولية.

قال هُنا: ﴿فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا﴾ هل هو جبريل؟ رجَّح هذا بعضُ العلماء؛ وبعضُ العلماء قال: إنه عيسى عليه السلام، ولَعلَّ هذا هو الأقرب أنه عيسى عليه السلام باعتبار ماذا؟ باعتبار أن السياقَ كلهُ من حيثُ الضمائر يعودُ إلى عيسى عليه السلام، أما ذكر جبريل فقد تقدَّمَ وانتهى الحديثُ عنه.

ثم أيضاً هيَ لمَّا أشارت إليه حتى يُكلِموه دلَّ هذا على: أنَّها عَلِمتْ من خلالِ ما قاله لها عيسى من أنه يتكلم وهو رضيع، فدلَّ هذا على أنّ السياق يدلُّ على أن الذي ناداها مِنْ تحتها هو عيسى عليه السلام.

﴿فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي﴾ لا يُصيبُكِ حُزنْ ﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾ سرِيَّا: يعني (النَهَرْ) على الصحيح، بعضُ الناس يقول سرِيَّا يعني (شريفة) لأن عيسى عليه السلام شريف، لكنَّ أهل اللغة في الأكثر على أنَّ المقصود من السَّريِ هو (النَهَرْ الصغير)، وقد جاء حديث وإن كانَ فيه مقال، حديثٌ يُبين أنَّ السَّريِ هو (النَهَرْ) إلاَّ إنه يدلُّ على أن المقصود هُنا هو(النَّهَرْ) بدليل أنه قال: ﴿فَكُلِي وَاشْرَبِي﴾ دلَّ هذا على أن المقصود (النَهَرْ).

﴿أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ (25)

﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ﴾ جِذع النخلة لو هُزَّ ما اهْتز ولا تساقطَ منه رُطبْ فدلَّ هذا على أنها كرامة، وأيضاً يدلُّ هذا على أنه عز وجل قادر على أن يُسقِطَ عليها الرُطبْ من غيرِ هَز لكنه أمرها بفعل الأسباب فدلَّ هذا على أنَّ العبدِ مأمورٌ بفعلِ الأسباب.

﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ يعني مثمراً طيباً كما يُجْنى في أولِ أمرهِ من حيثُ الطيب، ومن حيثُ النضج، ومن حيثُ الطَعمْ ﴿رُطَبًا جَنِيًّا﴾.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾ (26)

﴿فَكُلِي﴾ منْ الرُطبْ ﴿وَاشْرَبِي﴾ يعني منْ النَهرْ ﴿فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا﴾ لتقر عَينُكِ ولا يُصيبكِ حُزنٌ ولا ألمْ.

﴿فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ﴾ هذه (إن) شرطية مزيدة معها (ماء) الزائدة.

﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا﴾ الصَّوم هُنا هو (الصَّومْ عن الكلام) ولذلك بعدها ﴿فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾ وهذا يدلُّ على أنه مشروعٌ السكوت في الأمم السابقة لكن في هذه الشريعة المحمدية لا، ولذلك النبي ﷺ- كما ثبت- لمَّا قيل هناك رجل نذرَ ألاَّ يتكلم فقال ﷺ مُرُوهْ فليتكلم، والنبي ﷺ قال” لا صُمَاتَ إلى الليل”

فدلَّ هذا على أن الصيامَ عن الكلام منهيٌ عنه إلاَّ إذا كانَ محرماَ أو مما لا ينبغي أن يُتحدَّثَ عنه لقوله ﷺ كما ثبت في الصحيح: ” من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو لِيصْمُتْ”

﴿فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾ لا بشأن هذا المولود ولا بشأن شيءٌ آخر ﴿فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾ وكلُّ هذا توجيهٌ من عيسى لأمهِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا﴾ (27)

﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا﴾ يعني افتراءً عظيماً ﴿لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا﴾.

﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾ [مريم:28]

﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ﴾ قالوا هُنا ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ﴾ أضافوها إلى هارون، وللمفسرين كلام هل هارون هذا هو اسمٌ في زمنها يُكنَى بالفساد أو يُكنى بالصلاح أو ما شابه ذلك؛

لأنه قد يُظن أن هارون لأنها مريم بنت عمران وهارون هو ابن عمران أخو موسى ابن عمران لكن الصحيح: موسى قبل مريم وقبل عيسى بسنوات طويلة.

فالمغيرةُ بنُ شُعبة كما ثبت الحديث لمَّا أتى إلى نجران وقرأ هذه الآية، قالوا له: كيف يقول يا أخت هارون وبينهما سنين طويلة – بين موسى وعيسى –؟ فرجع المغيرة إلى النبي ﷺ فقال: ألا أخبرتَهم بأنهم كانوا يتَسمَونَ بالأنبياء والصالحين من قبلهم، فهذا هارون مُسَمى على هارون السابق.

﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾ يعني ليست من أهل الزنا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾ (29)

﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ﴾ أشارت إليه من أجل أن يُكلِموه ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾ كيف نكلم من كان في المهدِ صبيَّا؟ فالصبيَّ لا يتكلم.

 

 

 

﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ (30)

﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾ أولَ ما نَطق نَطَق بالتوحيد ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ﴾ وهو الإنجيل، لكن هل آتاهُ وهو في المهد؟ قال بعضُ المفسرين بذلك، لكن الذي يظهر أنَّ هذا باعتبار ما سيكون مِنْ أني فيما يُستَقْبل سأُعطىَ الكتاب ﴿آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ أي فيما يُستَقْبل.

﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾ (31)

﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ﴾ في أيُّ مكان حَللتُ فيه فتكونُ البركة بما يكونُ معه من النبوة والخير الذي أعطاه الله عز وجل إيَّاه.

﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ﴾ يعني من أنَّ هذه الصلاة والزكاة أستمر عليها ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ﴾ يعني فيما يُستَقْبل على أن أقومَ بها حتى الممات ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾ ودلَّ هذا على مشروعية وعلى وجود الزكاة والصلاة في الأمم السابقة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾ (32)

﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾ يعني مُتسلطاً متعنتاً من أهل الشقاوة اللذين يسيئون إلى أمهاتهم، وأيضاً يسيئون إلى غيرهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ (33)

﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ يحيى ماذا قال تعالى عنه؟

﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾ (15) مريم.

لماذا ذكر هذه المواطن الثلاث؟ بيَناها الثلاث هُناك، لكن هُنا ماذا قال؟ ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ﴾ مَنْ المُسَلِّم هُنا؟ عيسى سَلَمَ على نفسه، قال بعضُ المفسرين: هذا من باب أنه أحسنَ الظنُ بالله عز وجل فدعا لنفسه بالسلامة في تلك المواطن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾ (34)

﴿ذَلِكَ﴾ أي ما مضى ذكره مما ذِكره عيسى ﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ﴾ أي قُلتُ القولَ الحق ﴿الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾ أي: يُشككون.

﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾ قُلتُ القولَ الحق الذي فيه يمترون.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (35)

﴿مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ﴾ لا كما زعمته النصارى وكما زعمه غيرهم من اليهود ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ (30) التوبة.

﴿مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ﴾ تنزيه لله عز وجل عما لا يليقُ به ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ هو إذا أرادَ أمراً فإنما يقول له كُنْ فيكون، فكيف يتخذُ ولداَ!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ (36)

﴿وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ هُنا استئناف ﴿وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ استئناف من قول عيسى ﴿وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ يقولُه عيسى ﴿فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ يعني التوحيد عبادة الله هي (الصراط المستقيم).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ (37)

﴿فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ﴾ اختلف الأحزاب والفِرَق في شأن عيسى، اليهود قالوا: إنه ابنُ زانية، والنصارى اختلفوا قال بعضهم إنه هو الله، وقال بعضهم إنه ابنُ الله – كما مرَّ معنا تفصيلُ ذلك في سورة المائدة – ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ الآيات… (17) المائدة.

﴿فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ﴾ كلمة وعيد وتهديد ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ صرَّحَ بالكفر هُنا لأن هؤلاء كفار، وأيضاً كل كافر له هذا العذاب ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ﴾ أي من حضور ﴿مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ وهو يوم القيامة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ (38)

﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ﴾ يعني ما أسمعهم وما أبصرهم، يعني ما أعظمَ سمعهم في يوم القيامة وما أعظم بصرهم، هم لا يسمعون ولا يُبصون الحق في هذه الدنيا لكن في يوم القيامة يسمعون ويُبصرون ما يَحِلُّ بهم من العذابِ والنكال.

وقد مرَّ معنا الجمع بين كَونهم يُبصرون ويسمعون في يوم القيامة وفي مواطن أخرى لا يسمعون ولا يُبصرون كما قال تعالى: ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ (97) الإسراء، وجمعنا هناك.

﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا﴾ يوم يأتوننا ما أعظمَ ما يسمعونه من الكلام الذي به العذابُ لهم، والعذاب الذي يبصرونه ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ﴾ يعني في هذه الدنيا ﴿لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ في غفلة، وفي ضلال مبين واضح.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ (39)

﴿وَأَنْذِرْهُمْ﴾ يا محمد أنذر كفار قريش ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ﴾ أي الندامة

﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ﴾ في يوم القيامة يتحسرون ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ﴾ متى يُقضىَ الأمر؟ بيَّنه النبي ﷺ في الحديث الصحيح حينما يؤتىَ بالموت على صورةِ كبش فيُذبح ويقال لأهل الجنة خلودٌ فلا موت ويا أهلَ النار خلودٌ فلا موت، فذلك قولُه تعالى: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ﴾ في هذه الدنيا ﴿وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ مع هذا كلِّه:

﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ (40)

﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا﴾ يعني سيموت الجميع ممن هو على هذه الأرض وسيبقى ما تركوه ﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا﴾ كما قال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [سورة الرحمن]

وكما قال تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ (88) القصص.

فقال عز وجل: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾. حيثُ يجازون على أعمالهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾ (41)

﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ﴾ واذكر يا محمد في الكتاب في هذا القرآن، واذكر من؟ ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ هؤلاء وهم كفار قريش اللذين يقولون إننا على ملةِ إبراهيم! ذكِّرهم بحالِ إبراهيم مع التوحيد.

﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾ الصدِّيق: كثير الصدق الذي لم يُجرَّبْ عليه الكذب. ﴿إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾ فوصفة بالصِدِّيقية وبالنبوة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾ (42)

﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ﴾ يعني اذكر وقت قولهِ لأبيه ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ﴾ أصلُها (يا أبي) فحذفت (ياء المتكلم) وأُتِيَ (بالتاء) وكُسِرت.

﴿يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾ ما يُغني عنكَ أيَّ شيء، وهذا يدلُّ على أنكِ تعبدُ ما لا يسمع ولا يُبصر، فدلَّ هذا على أنَّ تلكِ الطوائف الذين أنكروا صفة السمع لله وصفة البصر لله: أنهم شبهوه – تعالى الله عن ذلك – شبهوه بالجمادات لأن صفة السمع والبصر صفة كمال.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا﴾ (43)

﴿يَا أَبَتِ﴾ انظر إلى التلطف ﴿يَا أَبَتِ﴾ وكرر ﴿يَا أَبَتِ﴾

﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ﴾ قالَ قد جاءني من العلم ﴿مَا لَمْ يَأْتِكَ﴾ وقال هُنا: ﴿مَا لَمْ يَأْتِكَ﴾ يعني أنني أُعطيت من العلم مالم تُعطَ بمعنى أنه لو قال (لقد كان لي علمٌ) لنفر منه أبوه، ومع تلك الرقة ومع الأسلوب الرقيق إلا أن أباه أعرضَ.

فقال هُنا: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا﴾ أدلك على الصراط السويّ المستقيم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا﴾ (44)

﴿يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ﴾ وهم يعبدون الأصنام وقال هُنا: ﴿لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ﴾ لأن عبادة الأصنام من أمر الشيطان، ولذلك قال تعالى في سورة الأنعام كما مرَّ معنا: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ (74)

﴿يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا﴾ وانظر تكرر اسم (الرحمن).

﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾ (45)

أي تكونُ ولياً وقريناً له في النار.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾ (46)

﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ﴾ انظر مع تلك الرقة والأسلوب اللطيف قال أبوه ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ﴾ يعني عن هذا الكلام وعن هذه الدعوة ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ﴾ أي لأقتُلنَّكَ بالحجارة ﴿وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾ أو وقتاً وزمناً طويلا.

ولذلك أهلُ اللغة يُسمون الليل والنهار (بالمَلَوانْ) ﴿وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾ (47)

﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ﴾ سلام متاركَة لا أذىً مني تسْمعهُ مني ولا شيء.

﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾ فهو لطيف حفي يعتني بي، فالحفي هو (الطيف) الذي يعتني بي ويرعاني.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا﴾ (48)

﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي﴾ ولا أدعو معه غيرَه.

﴿عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا﴾ وهذا رجاء منه، دلَّ هذا على أن حتى الأنبياء لا يطمئنون إلى أعمالهم وإنما يرجون رحمةَ الله عز وجل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا﴾ (49)

﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ قال هُنا: ﴿وَمَا يَعْبُدُونَ﴾ في الآية السابقة (الدعاء) يدلَّ هذا على أن الدعاء (عبادة) من صرف هذا الدعاء لغير الله فقد أشرك بالله.

﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ لم يذكر إسماعيل؛ لأن إسماعيل سيأتي ذكرُهُ في الآيات القادمات.

﴿وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا﴾ يعني لمَّا اعتزلهم جعلَ اللهُ عز وجل إسحاق ويعقوب من الأنبياء.

﴿وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾ (50) مريم.

﴿وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا﴾ أعطى الله عز وجل إبراهيم وبنيه من رحمته عز وجل الشيء الكثير.

﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾ يعني جعل اللهُ عز وجل لهم الثناء العاطر الذي به تعلو أسماؤهم، ولذلك ماذا قال إبراهيم؟ ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾ (74) الشعراء.

وانظر لمّا اعتزلهم ما الذي جرى؟ ﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ عوَّضَه الله عز وجل ﴿وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾.

أهلُ الكهف: ﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا﴾ (16) الكهف، فهيأ اللهُ لهم ما يرتفقون به.

وللحديثُ تتمة إن شاء الله، وصلى الله وسلمَ وباركَ على نبينا محمد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ