تفسير سورة يس من الآية ( 1 ) إلى ( 40 ) الدرس (213 )

تفسير سورة يس من الآية ( 1 ) إلى ( 40 ) الدرس (213 )

مشاهدات: 565

تفسير سورة يس من الآية (1) إلى (40)

الدرس (213)

فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد:

نشرع بعونٍ من الله ﷻ في تفسير سورة يس.

 

﴿يسٓ (1)وَٱلۡقُرۡءَانِ ٱلۡحَكِيمِ(2) إِنَّكَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ(3) عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ (4) تَنزِيلَ ٱلۡعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ (5) لِتُنذِرَ قَوۡمٗا مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمۡ فَهُمۡ غَٰفِلُونَ (6) لَقَدۡ حَقَّ ٱلۡقَوۡلُ عَلَىٰٓ أَكۡثَرِهِمۡ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلۡنَا فِيٓ أَعۡنَٰقِهِمۡ أَغۡلَٰلٗا فَهِيَ إِلَى ٱلۡأَذۡقَانِ فَهُم مُّقۡمَحُونَ (8) وَجَعَلۡنَا مِنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ سَدّٗا وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ سَدّٗا فَأَغۡشَيۡنَٰهُمۡ فَهُمۡ لَا يُبۡصِرُونَ (9) وَسَوَآءٌ عَلَيۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكۡرَ وَخَشِيَ ٱلرَّحۡمَٰنَ بِٱلۡغَيۡبِۖ فَبَشِّرۡهُ بِمَغۡفِرَةٖ وَأَجۡرٖ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحۡنُ نُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَنَكۡتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَٰرَهُمۡۚ وَكُلَّ شَيۡءٍ أَحۡصَيۡنَٰهُ فِيٓ إِمَامٖ مُّبِينٖ(12)﴾

سورة يس من السور المكية، و ﴿ يس﴾ من الحروف المُقطعة وقد وضحنا أن هذا ليس باسمٍ للنبي ﷺ، كما هو الشأن في طه فليس اسمًا للنبي ﷺ ،وإنما هو من الحروف المُقطعة كما مر توضيحه في سورة طه، ومر توضيحه أكثر في أول سورة البقرة.

﴿والقرآن الحكيم﴾ أقسم الله ﷻ بالقرآن ووصفه أنه حكيم لأنه مُحكم مُتقن، وكذلك يحكم على غيره، ومر معنا ما يتعلق بهذا الوصف للقرآن في أول سورتي يونس وسورة هود.

﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ هذا هو جواب القسم، أقسم الله ﷻ بالقرآن أن محمدًا ﷺ من المرسلين لا كما يقوله أولئك ﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا﴾[الرعد:43].

﴿ َعلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أي أنت يا محمد على دينٍ مستقيمٍ لا اعوجاج فيه ﴿ تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ نُصبت هنا من باب المدح ﴿عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ نُصبت هنا من باب مدح القرآن، أو أنه مصدر يعني نَزَل الله هذا القرآن تنزيل العزيز الرحيم.

وقال هنا: ﴿ تنزيل العزيز الرحيم﴾ وأضافه إلى نفسه ﷻ بذِكر اسميه (العزيز، الرحيم)،وهذا يدل على أنه كلام الله ﷻ.

ولذا من عزته ﷻ أنزل هذا القرآن، ولذا وصف الله ﷻ هذا القرآن بأنه عزيز ﴿ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ﴾[فصلت:41-42].

﴿الرحيم﴾ لأن تنزيله رحمة من الله ﷻ، ولذا قال في سورة فصلت ﴿تنزيلٌ من الرحمن الرحيم﴾ [فصلت:2]

﴿تنزيل العزيز الرحيم﴾،من أجل ماذا؟ ﴿ لتنذر قومًا ما أُنذر آباؤهم فهم غافلون﴾ يعني: أنهم في غفلة وفي ضلال، وتنذر آباء هؤلاء الذين هم الآباء الأقربون، أما الأباعد فقد جاءهم النُذر كإبراهيم وإسماعيل، ولذا مر معنا في قوله تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ﴾ [المؤمنون:68].

فأنت يا محمد أتيت هؤلاء من أجل أن تنذرهم لأن آبائهم الأقربين لم يأتهم نذير، وهنا ﴿ ما﴾ نافية، وهل هي موصولة؟ مر معنا موضحًا في قوله تعالى: ﴿ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾[القصص:46].

﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ﴾ وجب القول على أكثرهم أنهم لن يؤمنوا ﴿فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ وذلك لانصرافهم عن هذا القرآن، وما ظلمهم الله عز وجل.

﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا﴾ ذِكر الأغلال هنا يدل على أن اليد غُلت إلى الأعناق، فإن اليد وصلت إلى الذقن وهو الذي تحت الفم مجمع اللحيَيْن، فقال الله ﷻ مُبينًا أن هؤلاء ضلوا ضلالاً عظيماً، فقال الله ﷻ: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ﴾ بمعنى: أن رؤوسهم قد ارتفعت، وهذا يدل على انقباضهم وعلى عدم إتباعهم لك يا محمد.

﴿ وجعلنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا﴾ بمعنى: أنه جعل عليهم حجابًا فلا يؤمنون ﴿فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ﴾ جعل على أبصارهم غشاوة، وهذا يدل على أن الغشاوة تكون على الأبصار كما مر معنا ﴿ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم﴾[البقرة:7] ثم نقف فنقول: ﴿ وعلى أبصارهم غشاوة﴾ [البقرة:7] وكما قال تعالى: ﴿ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً﴾ [الجاثية:23].

 

فقال الله عز وجل: ﴿ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ﴾ أي يستوي ذلك ﴿أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ ومر معنا مفصلًا ذلك في أول سورة البقرة.

فقال الله ﷻ: ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ يعني: من اتبع هذا القرآن ﴿وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ﴾ خشي الله ﷻ وهو لم يرَ الله وخشي الله في سره ﴿فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ﴾ فبشره بمغفرة لذنوبه وهو زوال المكروه ﴿ وأجر كريم﴾ يعني: الجنة.

﴿إنا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى﴾ أي ما ينكرونه من إحياء الموتى فالله ﷻ سيحيي الموتى، وأكد ذلك ﴿وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ﴾ يعني نكتب ما قدموه من أعمال سواء كانت صالحة أم غير صالحة، وكذلك آثار تلك الأعمال التي بقيت بعد وفاتهم إن كانت صالحة أو إن كانت سيئة، وكذلك الآثار التي تحصل من جراء العبادة، ولذلك القوم الذين قال فيهم النبي ﷺ لما أرادوا أن يقربوا من المسجد قال: “ِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ، دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْحتى الآثار والخطوات التي يمشي الإنسان إلى عبادةٍ من العبادات تُكتب له.

فقال الله عز وجل: ﴿ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ كل شيء كُتب وحُفظ في إمامٍ مبين، والإمام المبين هو اللوح المحفوظ ومن ثَمَّ فإن الله ﷻ سيجازيهم على إنكارهم لهذا اليوم.

ومن ثَمَّ فإن الرافضة فسروا القرآن في غير هذه الآية بل في آيات كثيرة، وكذلك الصوفية فسروا آيات الله ﷻ على غير مراد الله إذ قالوا: ﴿ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ ؟ قالوا في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، -فأعوذ بالله من الخذلان ومن الشرك بالله ﷻ- إذ جعلوا عليً قد علم ما في اللوح المحفوظ وعلم كل شيء، نسأل الله السلامة والعافية.

 

﴿وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلًا أَصۡحَٰبَ ٱلۡقَرۡيَةِ إِذۡ جَآءَهَا ٱلۡمُرۡسَلُونَ (13) إِذۡ أَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهِمُ ٱثۡنَيۡنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزۡنَا بِثَالِثٖ فَقَالُوٓاْ إِنَّآ إِلَيۡكُم مُّرۡسَلُونَ (14) قَالُواْ مَآ أَنتُمۡ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُنَا وَمَآ أَنزَلَ ٱلرَّحۡمَٰنُ مِن شَيۡءٍ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا تَكۡذِبُونَ (15) قَالُواْ رَبُّنَا يَعۡلَمُ إِنَّآ إِلَيۡكُمۡ لَمُرۡسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيۡنَآ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ (17) قَالُوٓاْ إِنَّا تَطَيَّرۡنَا بِكُمۡۖ لَئِن لَّمۡ تَنتَهُواْ لَنَرۡجُمَنَّكُمۡ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٞ (18) قَالُواْ طَٰٓئِرُكُم مَّعَكُمۡ أَئِن ذُكِّرۡتُمۚ بَلۡ أَنتُمۡ قَوۡمٞ مُّسۡرِفُونَ(19)﴾

 

﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا﴾ أي: يا محمد اضرب مثلًا لكفار قريش حتى يعتبروا ﴿ واضرب لهم مثلا﴾ المثل هو القرية ﴿ أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ﴾ المثل: هو أصحاب القرية ﴿ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ﴾ وهذه القرية قال جماهير المفسرين: هي أنطاكيا.

وابن كثير رحمه الله يقول: ليست هي إلا إن كانت اسمًا على مسمى، قال: لأن أنطاكيا قد آمن بعيسى من قبل، فقال الله ﷻ هنا: ﴿أصحاب القرية﴾ ولا يهمنا ذلك، لأن العبرة أخذ العبرة من هذه القرية سواء عرفنا اسمها أم لم نعرف اسمها.

﴿إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ﴾ من هم هؤلاء المرسلون؟ قال كثير من المفسرين: هم رسل عيسى عليه السلام أرسلهم إلى هذه القرية، لكن يقول ابن كثير رحمه الله: إنما هم رسل من رسل الله ﷻ وليسوا رسلًا من قِبل عيسى، لأن هؤلاء وصفوهم بأنهم بشر، كما وصفت الأمم السابقة أنبيائهم بأنهم بشر كما في سياق الآيات، فقال الله ﷻ هنا: ﴿ إذ جاءها المرسلون﴾ أي: اذكر حال أصحاب القرية وقت أن جاءها المرسلون.

﴿إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ﴾ يعني: فقوينا هذين الاثنين بثالث ﴿فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ﴾ يعني: نحن رُسل إليكم.

﴿ قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾ وهذا هو دليل ابن كثير رحمه الله ﴿وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ﴾ يعني: ما أنتم إلا تكذبون.

 

﴿ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ﴾ وهذا يتضمن القسم هنا أقسموا للتأكيد.

ومن ثَمَّ لما قالوا هنا ﴿قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ﴾ لو قال الإنسان كما هي اللغة الدارجة عندنا، هنا بعضهم يقول: يعلم الله أنه حصل كذا وكذا فإن كان صادقا فلا إشكال في ذلك، لكن إن كان كاذباً يقول: يعلم الله أنه حصل كذا وكذا وهو كاذب فهذا على خطرٍ عظيم، لأنه استدل بعلم الله ﷻ على أن هذا الشيء وقع وهو لم يقع، حتى إن بعض العلماء قال: إنه بهذه المقولة يصير إلى الكفر، لأنه أنكر علم الله عز وجل.

وعلى كل حال يتنبه الإنسان لمثل هذا الأمر، لكن إن قالها على واقعٍ وصحيح فلا إشكال في ذلك لدلالة هذه الآية.

﴿ َمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ البلاغ الواضح البَين حتى تقوم الحجة عليكم ﴿ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ﴾ يعني: تشاءمنا بكم، وهذا شأن أعداء الرسل فإنهم قالوا ذلك لموسى عليه السلام ﴿ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ﴾[الأعراف:131].

وكما قال قوم صالحٍ لصالح عليه السلام قالوا: ﴿قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ﴾[النمل:47].

فقال الله ﷻ عن هؤلاء قالوا ﴿إنا تطيرنا بكم﴾ يعني: تشاءمنا بكم حصلت لنا المحن والسوء بسبب مجيئكم ﴿لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا﴾ وهنا أوعدوهم وأرهبوهم وخوفوهم ﴿لَنَرْجُمَنَّكُمْ﴾ يعني: بالحجارة حتى تموتوا، وأشد أنواع القتل: الرمي بالحجارة ﴿وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.

بمعنى: أننا نعذبكم العذاب الأليم ﴿ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ﴾ يعني: طائركم وشؤمكم ملازمٌ لكم بسبب أعمالكم، فقد قدره الله ﷻ عليكم بسبب أعمالكم، فما أصابكم من مِحن إنما هو من عند الله عز وجل، سببه سوء أعمالكم.

﴿أئن ذكرتم﴾ هناك شيء محذوف أئن ذكرتم تطيرتم بنا؟ يعني لما ذكرناكم تطيرتم بنا؟ ﴿ بل أنتم قوم مسرفون﴾ يعني: متجاوزون الحد في الطغيان وفي الذنوب.

 

﴿وَجَآءَ مِنۡ أَقۡصَا ٱلۡمَدِينَةِ رَجُلٞ يَسۡعَىٰ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلۡمُرۡسَلِينَ (20) ٱتَّبِعُواْ مَن لَّا يَسۡـَٔلُكُمۡ أَجۡرٗا وَهُم مُّهۡتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَآ أَعۡبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ (22) ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةً إِن يُرِدۡنِ ٱلرَّحۡمَٰنُ بِضُرّٖ لَّا تُغۡنِ عَنِّي شَفَٰعَتُهُمۡ شَيۡـٔٗا وَلَا يُنقِذُونِ (23) إِنِّيٓ إِذٗا لَّفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ (24) إِنِّيٓ ءَامَنتُ بِرَبِّكُمۡ فَٱسۡمَعُونِ (25) قِيلَ ٱدۡخُلِ ٱلۡجَنَّةَۖ قَالَ يَٰلَيۡتَ قَوۡمِي يَعۡلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلۡمُكۡرَمِينَ (27)۞ وَمَآ أَنزَلۡنَا عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ مِنۢ بَعۡدِهِۦ مِن جُندٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ (28) إِن كَانَتۡ إِلَّا صَيۡحَةٗ وَٰحِدَةٗ فَإِذَا هُمۡ خَٰمِدُونَ (29) يَٰحَسۡرَةً عَلَى ٱلۡعِبَادِۚ مَا يَأۡتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ(30)﴾

 

﴿وجاء من أقصى المدينة﴾ من هو هذا الرجل؟ قيل: هو حبيب النجار وقيل غير ذلك، وعلى كل حال ليس هناك دليل صحيح في تحديد اسمه، العبرة أننا نأخذ العبرة من حال هذا الرجل لأنه أتى من أجل أن ينصر رُسل الله عليهم السلام ﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى﴾ ومن ثَمَّ فإنه في ما يتعلق بقصة موسى قال﴿ وجاء رجل من أقصى المدينة﴾ [القصص:20] قدم الرجل، لكن هنا أخر الرجل لأن تقديم الرجل ﴿ وجاء رجل﴾ هذا هو الأصل لأن الرجل هو الذي يُقدم في سياق هذا الكلام، لكن أُخر هنا من باب بيان أن هذا الرجل أتى من بعيد من أقصى المدينة من أجل أن ينصر هؤلاء الرُسل تشريفًا لهذا الرجل، وأيضًا لبيان أن الحق لا يكون في عمق البلد فقد يكون في أطراف البلد،﴿ وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى﴾ يعني: يسرع يشتد سعياً.

﴿قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾ أمرهم بإتباع المرسلين.

ثم قال: ﴿اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا﴾ هم لا يسألونكم أجراً من أجور الدنيا والحال؟ ﴿وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ أي: أنهم على هداية.

ثم صرح وصدع ﴿وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي﴾ يعني: خلقني ﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ يعني هو فطرني وفطركم وخلقكم فلماذا لا نعبده الذي فطر وخلق هو الذي يُعبد والمصير إليه ﷻ ولذلك قال: ﴿ وإليه ترجعون﴾.

ثم قال: ﴿ وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي﴾ نسب الأمر إلى نفسه ﴿فطرني﴾ ثم قال: ﴿ وإليه ترجعون﴾ يعني: أنتم جميعاً سوف ترجعون إلى الله عز وجل، وأرجع معكم وكل سيحاسب على عمله.

﴿أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً﴾ استفهام إنكاري ﴿ إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ﴾ وتأمل ذُكر اسم ﴿ الرحمن﴾ أكثر من مرة، مما يدل على أن تنزيل هذا القرآن رحمة ﴿ تنزيل العزيز الرحيم﴾ وأيضًا من أقبل على الله ﷻ فإن الله ﷻ سيرحمه.

ولذلك لما أقبل هذا الرجل كان له ما ذكره ﷻ من الخير والرحمة هنا، فقال الله ﷻ عن هذا الرجل: ﴿إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا﴾ أي: تلك الآلهة لا تغني شفاعتهم لأنها لا شفاعة أصلا لها ﴿ولا ينقذون﴾ لا ينقذوني من عذاب الله عز وجل ﴿لا تغنِ عني شفاعتهم شيئا﴾ ولو بأقل ما يكون ﴿ إِنِّي إِذًا﴾ لو عبدت هذه الآلهة ﴿إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ﴾

هنا صرح بذلك ﴿إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ﴾ فاسمعوني سماع تفهم من أنني مؤمن وأنني كافر بآلهتكم ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ﴾ فدل هذا على أنه مات، ولذلك بعض المفسرين قال من هذه الآية يدل على أنهم قتلوه، وعلى كل حال ليس هناك دليل صحيح المهم أنه مات هل بقتل من هؤلاء أو بموت من الله ﷻ دون سبب الله أعلم، فقال الله ﷻ عن هذا الرجل لما قال: ﴿قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ﴾ أي: يعلمون بعاقبة أمري، ولذلك  قال بعدها ﴿ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾.

 

ولذلك يقول العلماء: لا يزال المؤمن ناصحًا في حياته وبعد مماته، فبعد مماته ما زال ناصحاً لقومه لأنه قال: ﴿يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾ إذ أكرمني بالجنات ومغفرة الذنوب.

﴿ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ﴾ من بعد موته ﴿ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾ ما أنزلنا عليهم من جند لأنهم حقيرون ﴿ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ﴾ أبدًا لهؤلاء، لأن استئصالهم سهلاً.

﴿ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ يعني: ما هي إلا صيحة واحدة يصيح بهم جبريل أو أحد من الملائكة ﴿ فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ﴾ أي أنهم ميتون كالنار التي تطفئ وتخمد فلا يبقى لها إلا أثر الرماد.

﴿ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون﴾

﴿ يا حسرة﴾ يعني الحسرة والندامة على هؤلاء العباد، حتى قال بعض المفسرين: أن هؤلاء لما أتاهم العذاب تحسروا على حالهم، لكن إذا نزل العذاب فلا ينفع.

﴿ يا حسرةً على العباد﴾ الحسرة والندامة على العباد ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون﴾ يعني: يسخرون منه.

 

﴿أَلَمۡ يَرَوۡاْ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّنَ ٱلۡقُرُونِ أَنَّهُمۡ إِلَيۡهِمۡ لَا يَرۡجِعُونَ (31) وَإِن كُلّٞ لَّمَّا جَمِيعٞ لَّدَيۡنَا مُحۡضَرُونَ (32) وَءَايَةٞ لَّهُمُ ٱلۡأَرۡضُ ٱلۡمَيۡتَةُ أَحۡيَيۡنَٰهَا وَأَخۡرَجۡنَا مِنۡهَا حَبّٗا فَمِنۡهُ يَأۡكُلُونَ(33) وَجَعَلۡنَا فِيهَا جَنَّٰتٖ مِّن نَّخِيلٖ وَأَعۡنَٰبٖ وَفَجَّرۡنَا فِيهَا مِنَ ٱلۡعُيُونِ (34) لِيَأۡكُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦ وَمَا عَمِلَتۡهُ أَيۡدِيهِمۡۚ أَفَلَا يَشۡكُرُونَ (35) سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡأَزۡوَٰجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنۢبِتُ ٱلۡأَرۡضُ وَمِنۡ أَنفُسِهِمۡ وَمِمَّا لَا يَعۡلَمُونَ (36) وَءَايَةٞ لَّهُمُ ٱلَّيۡلُ نَسۡلَخُ مِنۡهُ ٱلنَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظۡلِمُونَ (37) وَٱلشَّمۡسُ تَجۡرِي لِمُسۡتَقَرّٖ لَّهَاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ (38) وَٱلۡقَمَرَ قَدَّرۡنَٰهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلۡعُرۡجُونِ ٱلۡقَدِيمِ (39) لَا ٱلشَّمۡسُ يَنۢبَغِي لَهَآ أَن تُدۡرِكَ ٱلۡقَمَرَ وَلَا ٱلَّيۡلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِۚ وَكُلّٞ فِي فَلَكٖ يَسۡبَحُونَ(40)﴾

﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا﴾ ألم تر كفار قريش وهم يسيرون في أسفارهم جهة الشام وجهة اليمن ﴿ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ فأين من أهلكه الله من قوم عادٍ وثمود وهؤلاء، فهم لا يرجعون إليهم فليعتبروا ﴿ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ يعني: لا يرجعون إلى كفار قريش.

﴿ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا﴾ كثيرا من القرون ﴿وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ {إن} هنا بمعنى: ما، ولما بمعنى: {إن} يعني ما كلٌّ من السابقين ما كلٌّ إلا جميعٌ لدينا محضرون، فهم يحضرون في يوم القيامة ﴿ قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾[الواقعة:49-50].

﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ﴾ علامة بَينة لكفار قريش حتى يؤمنوا بالله ﷻ ويوحدوه ﴿ وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ﴾ ميتة ليس بها نبات وليس بها حياة﴿ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا ﴾ أخرجنا لهم فيها الحبوب ﴿ فمنه يأكلون﴾ يعني: يأكلون من هذه الحبوب، والحبوب هي القوت من خبزٍ وما شابه ذلك.

﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾ بساتين من نخيل وأعناب، وذُكرت النخيل والأعناب لأنها هي المعروفة في الحجاز﴿ وَفَجَّرْنَا فِيهَا﴾ أي: في تلك البساتين وفجرنا فيها وأيضاً في الأرض ﴿ من العيون﴾ المياه الواضحة البَينة العذبة.

﴿ ليأكلوا من ثمره﴾ ليأكلوا من ثمر تلك البساتين والنخيل والأعناب ﴿وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ﴾ هنا قال بعض المفسرين: ﴿ ما﴾ نافية، يعني: يأكلون ولم تعمله أيديهم.

وقال بعض المفسرين: ﴿ ما﴾ موصولة أي والذي عملته أيديهم.

وعلى كل حال: الأظهر هو الأول لأن به دلالة على قدرة الله ﷻ ﴿أفلا يشكرون﴾ هنا استفهام إنكاري يعني ينكر عليهم أنهم لم يشكروا الله مع وضوح هذه الدلالة.

﴿ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا﴾ الأصناف كلها من ذكر وأنثى ﴿مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ﴾ خلق أصناف مما لا نعلمه.

 

﴿ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ﴾ لما ذكر الآية المتعلقة بالأرض ذكر الآية المتعلقة بالسماء ﴿ نسلخ﴾ أي: ننزع منه نزعًا كاملًا كما يُنزع الجلد من على ظهر الشاة ﴿ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ﴾.

 

ولهذا يقول البغوي رحمه الله: يدل على أن الأصل هو الليل، فإذا غربت الشمس هنا سُلخ النهار فإذا بالظلمة حلت بالناس.

﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا﴾ لمستقرٍ لها من حيث المكان ومن حيث الزمان، بمعنى: أنها كما جاء في حديث أبي ذر في الصحيح أن النبي ﷺ قال: “ يا أبَا ذَرٍّ أتَدْرِي أيْنَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ؟ قُلتُ: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، قالَ: فإنَّهَا تَذْهَبُ حتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ العَرْشِ، فَذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذلكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ}”

تحت العرش يعني مما يلي جانب الأرض، وهذا سجودها ولا يدل على أنها تقف لأن سجودها قد يحصل من غير أن تقف، ولذلك قال الله عز وجل: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ۗ﴾ [النحل:12] ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ﴾[إبراهيم:33] أي: مستمرين.

ولذلك في قراءة ابن مسعود وابن عباس: {والشمس تجري لا مستقر لها}. أي أنها مستمرة في الجريان، هذا من حيث المكان أنها تجري إلى أقصى ما قدره الله ﷻ.

﴿ وكلٌ في فلكٍ يسبحون﴾ ومن حيث الزمان أيضاً تجري إلى أن تقف في يوم القيامة إذا انتهت الدنيا فإن الشمس والقمر يكوران في النار، كما ثبت بذلك الحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم ولذلك قال تعالى ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [الأنبياء:33].

ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما “مثل فلكة المخزل”

المخزل كانوا قديمًا فيه عود وإذا بفوقه مثل الدائرة، فالمرأة تغزل غزلها، فيقول: أن الشمس والقمر تدوران، ودل هذا على أن الأرض كروية، وذلك باتفاق السلف فالأرض كروية.

أما قوله تعالى: ﴿ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾[الغاشية:20] بُسطت ومُدت ولا يعني أنها ليست كروية، لأنها إذا كانت واسعة فإنها لو كانت كروية فأعلاها يكون بمثابة المسطح ولا ينفي أنها كروية، ولذلك لو عظُمت الكرة مثلا كمثال فإنه أعلاها يكون مسطحاً مستوياً، فكيف بهذه الأرض العظيمة؟ فالأرض كروية باتفاق السلف رحمهم الله عز وجل.

وأيضا السماء كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: “هي أفلاك”.

أما العرش فليس بفلك وإنما هو قبة على المخلوقات.

فإن قوله تعالى: ﴿ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا﴾ فدل على أن الذي يدور هو الشمس والقمر، أما الأرض فهي ثابتة، ولا دليل على ما ذهبوا إليه في مثل هذا الزمن على أن الأرض تدور، بل إن الذي يدور الشمس والقمر، وأعظم من ذلك الذي يقولون: إن الشمس والقمر هما ثابتان والأرض هي التي تدور.

وهذا مخالف مخالفة صريحة للقرآن، لأنه قال: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾[الأنبياء:33].

فـعلى كل حال: الله ﷻ قال: ﴿ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ﴾ أي: ما مضى من آيات ﴿ ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ فهو العزيز القوي الذي سير هذه الأشياء وهو عليم بما يُصلح أحوال خلقه أو بما يُصلح هذا الكون.

﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ﴾ أي يكون القمر كل ليلة في منزلة، فإذا كان الشهر تامًا فإنه يختفي في ليلتين، فإن كان ناقصاً فيختفي في ليلة.

قدّر له منازل ﴿حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ﴾ يعني في نهاية الشهر يجري يكون القمر كالعرجون، والعرجون هو العذق الذي يخرج من النخلة و به فروع الثمار –الرُّطب- فتجده  مقوساً، فيكون هذا القمر كالعرجون القديم اليابس، فدل هذا على أن حال القمر كحال هذا العرجون.

 

﴿ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ﴾ لا يمكن أن تكون مع القمر لأن كلًا من الشمس والقمر له سلطان، فسلطان الشمس النهار، وسلطان القمر الليل.

﴿ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ أي: يسيرون كسير من يسبح، وتأمل سبحان الله تجري الشمس ويجري القمر بهذه السرعة دون أن يكون هناك اختلال ولا إشكال، فدل هذا على قوة الله ﷻ وكيف أبدع هذا الأمر !  ومع ذلك كما قال عز وجل: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾ [الأعراف:54].

كل واحد منهم يطلب الآخر سريعا ليحل محله في سلطانه، ومع ذلك ﴿كل في فلكٍ يسبحون﴾.