هذه الآية تتحدث عن غزوة بدر ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتصر في غزوة بدر ، أظهر اليهود خبثهم فقالوا يا محمد لا يغرنك أنك انتصر على قوم لا يحسنون القتال ، لو نازلتنا لرأيت أننا نحن أولئك القوم ، فأنزل الله سبحانه وتعالى قوله { قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } يعني اليهود { سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } آل عمران12 ثم أعطاهم دلالة وآية على قدرة الله سبحانه وتعالى على نصرة عباده ولو كان عددهم قليلا { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ } يعني أيها اليهود المتبجحون بهذا القول ، لكم آية ودلالة واضحة ظاهرة { فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا } فئة النبي صلى الله عليه وسلم وكان معه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، والفئة الأخرى وهي فئة كفار وكان معهم ما يصل إلى ألف مقاتل ، بمعنى أنهم أكثر من عدد الصحابة رضي الله عنهم { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ } وهي الفئة التي ذات عدد قليل { وَأُخْرَى كَافِرَةٌ } وهي ذات عدد كثير وهم كفار قريش
{ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ } كيف نوضح هذه الآية ؟ نوضح هذه الآية من خلال آيات أخرى في سورة الأنفال ، ولتعلم أُخيَّ أن سورة الأنفال تحدثت عن غزوة بدر ، فإذا أردت أن تعرف تفاصيل غزوة بدر فاقرأ سورة الأنفال ، وإذا أردت أن تعرف تفاصيل عزوة أحد فاقرأ سورة آل عمران ، وإذا أردت أن تعرف تفاصيل غزوة الأحزاب فقرأ سورة الأحزاب ، وإذا أردت أن تعرف ماذا جرى في صلح الحدييبة وما أعقب ذلك من فتح مكة فاقرأ سورة الفتح ، وإذا أردت أن تقرأ تفاصيل غزوة تبوك وما جرى من المنافقين فاقرأ سورة التوبة .
{ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} ما معنى هذه الآية ؟ قال تعالى في سورة الأنفال { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا }الأنفال44 ،
ما هو هذا الأمر ؟
هو أن ينصر عباده المؤمنين وأن يخذل الكفار المجرمين ، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى أرى المؤمنين عدد الكفار كأنهم قلة ، كأنهم لا شيء ، حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه ( كنت أتشاور مع صاحب لي فقلت أهم سبعون رجلا ؟ فقال بل مائة ، قال فما عرفنا حتى أسرنا شخصا منهم ، فسألناه كم عددكم ؟ قال ألف ) ثم في المقابل قلَّل الله سبحانه وتعالى عدد المسلمين في أعين الكفار { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا } فأنتم ترون الكفار عددا قليلا { وَيُقَلِّلُكُمْ } أنتم أيها المؤمنون { فِي أَعْيُنِهِمْ } أي في أعين الكفار { لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا }
من أجل ماذا ؟
قلل الله عز وجل عدد الكفار في أعين المسلمين من أجل ألا يجبن المسلمون ، وقلل عدد المسلمين في أعين الكفار حتى لا يتولوا هاربين ، فلما التحم الجيشان ، ما الذي جرى ؟ كشف الله سبحانه وتعالى عدد المسلمين للكفار ، حتى إن الكفار يرون المسلمين { مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ } نصرة من الله عز وجل مع قلل عددهم { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }البقرة249
ولذلك قال الله عز وجل في سورة آل عمران ، لأنها تحدثت عن غزوة أحد ، وأصاب المسلمين في أول الأمر هزيمة نكراء ، فبين جل وعلا أن ما أصابهم بسبب ذنوبهم ، وبين لهم أن نعمته قد سبقت هذه الهزيمة التي حلت بهم { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ } يعني قلة { فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }آل عمران123
بل إن الله سبحانه وتعالى أمد المسلمين بألف من الملائكة قاتلوا معهم في غزوة بدر { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ }الأنفال9 يعني متتابعين ، بل إن الله أكرمهم لما صبروا واتقوا بأن مدهم بأكثر من هذا العدد ، بين تعالى في سورة الأنفال أنه مدهم بألف ، وفي سورة آل عمران أمدهم بأكثر من ذلك { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ }آل عمران124، ثم بين أن هناك عددا آخر { بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ }آل عمران125 ، يعني لهم علامات معينة ، إما في ثيابهم كما قال بعض المفسرين ( أن الملائكة كان عليهم عمائم ) أو لهم علامات على خيولهم ، ولكن انظروا إلى كرم الله سبحانه وتعالى ، أمدهم في غزوة بدر بألف ، ثم بين لهم أنهم إن صبروا واتقوا أمدهم بثلاثة آلاف ، ثم بعد هذه الثلاثة يكون المجموع خمسة آلاف
وهذا يدل على أن الصبر والتقوى هما ركنا سعادة الإنسان في هذه الدنيا ، إذا تحقق له الصبر والتقوى فقد سعد أيما سعادة ، والصبر يتعلق بالقدر ، يعني تصبر على ما قدَّره الله عز وجل عليك مما لا يلائمك ولا يناسبك في هذه الدنيا ، والتقوى تتعلق بالشرع ، فإذا أقمت شرع الله سبحانه وتعالى وصبرت على أقدار الله سبحانه وتعالى ظفرت بشيء عظيم ، ولا يمكن للإنسان أن يصل إلى شيء يريده إلا بمطية الصبر ، ولذلك جمع الله سبحانه وتعالى بين الشرع والقدر في قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ } هذا فيما يتعلق بالقدر { وَالصَّلاَةِ } هذا ما يتعلق بالشرع ، ولذا قال تعالى ، وهي أعظم آية ودلالة ليحرص المسلم على الصبر والتقوى ، وهي أعظم آية ودلالة على المحن التي حلت بأنبياء الله سبحانه وتعالى ، قصة يوسف معروفة ، وما حل به عليه الصلاة والسلام من الآلام والأحزان منذ الصغر إلى أن كبر عليه السلام ، فماذا قال لما التقى بإخوانه وعرفوا أنه يوسف ؟ { قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ } بعدما ما ملكه الله سبحانه وتعالى ، وبعدما نجاه من حيلهم وخداعهم { قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } يوسف90 ، ولا ترى رجلا صابرا تقيا إلا وهو من المحسنين في أقواله وفي أفعاله وفي تصرفاته .