تفسير قوله تعالى :
{ قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ{ 1 } الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ{ 2 } وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ{ 3 } وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ{ 4 } وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ{ 5 } إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ{ 6 } فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ العَادُونَ{ 7 } وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ{ 8 } وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ{ 9 } أُولَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ{ 10 } الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{ 11 } }
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
فقد قرأنا في هذه الليلة سورة المؤمنون ، وفي مطلع هذه السورة قول الله تعالى { قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ } { قَدْ } هنا معناها التحقيق ، بمعنى أن فلاح المؤمنين قد تحقق وانتهى ، وهذا يدل على فضيلة أهل الإيمان
بل قال بعض العلماء إن ” قد ” تُقرّب من زمن حال المتكلم ، فلو قلت مثلا ” قام زيدُ ” فإن قيامه في الماضي ، إما قبل سنة أو سنتين أو شهر أو شهرين أو ثلاث سنين
لكن إذا قلت ” قد قام زيدُ ” دل على أن قيام زيد قريب من زمن كلامك
فاستفدنا من هنا فائدة ما هي ؟
أن المؤمنين قد ثبت وكمل فلاحهم وأنهم على هذه الحال ، وفي هذا الحال مفلحون
إذاً هم كُتب لهم الفلاح وما ساروا عليه فلاح
ما هو الفلاح ؟
الفلاح : هو الفوز بالمطلوب و النجاة من المرهوب
يمكن أن يظفر الإنسان بخير ويصاب بضر ، وهذا ليس بفلاح حقيقي ، قد يُمنع عن الإنسان الضرر ولا يُصاب بخير وهذا ليس بفلاح حقيقي ، وإنما الفلاح الحقيقي الذي يسعد به الإنسان أن يظفر بمطلوبه و يُنجّى من مرهوبه ، فهؤلاء المؤمنون قد حصل لهم الخير ، وبَعُد عنهم الشر
و نظير هذا قوله تعالى { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } {يونس:62}
مَنْ هؤلاء المؤمنون ؟
ذكرهم الله تعالى ومن صفاتهم { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } يعني إذا صلّوا خشعوا ، وسكنت جوارحهم ، وأخبتت قلوبهم فهؤلاء هم الخاشعون في صلاتهم ، وذكر الصلاة في أول صفة من صفات هؤلاء المؤمنين يدل على فضل الصلاة
و لذا سمّاها الله سبحانه وتعالى إيمانا كما قال تعالى { وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } {البقرة:143} يعني صلاتكم ، فدل ذلك على أن الصلاة طريق سريع للإيمان إذا كانت هذه الصلاة قد خشع فيها المصلي ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في السنن (( ليس للرجل من صلاته إلا ما عقل منها ، و إن الرجل لينصرف من صلاته ولم يُكتب له إلا عشرها ، تسعها ، ثمنها ، سبعها ، سدسها، خمسها ، ربعها ،ثلثها ، نصفها ))
فخليق بنا أن نتعاهد صلواتنا
الصفة الثانية : من صفات هؤلاء المؤمنين { وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ }
{ اللَّغْوِ } ” هوما يُذم من الأقوال والأفعال ويدخل في ذلك جميع الذنوب ويدخل فيها ما لا يُحمد العبد على فعله أو قوله
ولذلك قال تعالى عن عباد الرحمن { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا } {الفرقان:72}
ما معناها ؟
معناها : إذا مرّوا باللغو كرّموا أنفسهم من أن يلجوا في اللغو والباطل الذي لا فائدة منه
ومعلوم من حيث الواقع أن الإنسان كلما قل لغوه حضر قلبه في صلاته
ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله ” من أسباب قسوة القلب كثرة الكلام ، وإذا قسى القلب قحطت العين ” فالعين طريق أو مرآة لما في قلب الإنسان
ولذا لو دمعت العينان دل ذلك على أن هناك خشوعا في قلب هذا الرجل
ولذلك يقول رحمه الله ” وما ضرب عبد بذنب أعظم من قسوة القلب “
الصفة الثالثة : { وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ }
الزكاة يدخل فيها الأعمال الصالحة بمعنى أنهم يزكون أنفسهم بالأعمال الصالحة ويدخل فيها زكاة الأموال وهذا يدل على ماذا ؟ يدل على أن الزكاة كما قال ابن كثير فُرضت في مكة ، أما مقاديرها وأنصبتها فقد فرضت في المدينة
الصفة الرابعة : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ{ 5 } إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ }
يعني ما تسروا من السرايا من الإماء ، أي أنهم غير ملامين على أن يأتوا نساءهم شريطة أن يكون ذلك الإتيان بضابطه الشرعي فلا يكون في الدبر ولا يكون في الفرج حال الحيض ، فإذا حصل غير ذلك فإنه يٌلام على هذا الفعل لقوله تعالى { فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ العَادُونَ } يعني الذين تجاوزوا حدهم ولو نظرنا إلى هذه الصفة والصفة الثانية { وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } لوجدنا أنهما من الضرورة بمكان أن يتخلق بهما المسلم لم ؟ لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال (( أكثر ما يدخل الناس النار الفم والفرج ))
وقال صلى الله عليه وسلم (( من يضمن لي ما بين لحييه وفخذيه أضمن له الجنة ))
الصفة الخامسة : { وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } ما هو العهد وما هي الأمانة ؟ الأمانة والعهد يشتملان على حقوق الخلق وحقوق الخالق ، فإنهم يراعون حق الله وحق المخلوق في الأمانة والعهد
الصفة الأخيرة : { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } كرر الصلاة وثنى بها لم ؟
في الأولى ذكر الخشوع ‘ فإذا كان الخشوع مطلوبا فإن هناك مطالبة بأصل هذا الخشوع وهو المحافظة على الصلاة ، المحافظة عليها في أوقاتها وعلى شروطها وأركانها
{ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } ما هي المنقبة وما هو الثواب الذي يظفر به هؤلاء ؟
{ أُولَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ{ 10 } الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
إذاً هناك إرث وتركة في الآخرة ، ماذا يرثون ؟ يرثون الفردوس
كيف يرثون ؟ يقول بعض العلماء ” ما يؤول إلى الإنسان يكون إرثا ، ولأن مآل المؤمنين إلى الجنة فتكون إرثا “
و لكن الصحيح ما جاءت به الأحاديث الأخرى أن أهل الجنة يرثون منازل أهل النار من الجنة لو دخلوها ، فهناك منزل لكل إنسان في الجنة وفي النار فإذا دخلوا النار ورث المؤمنون منازلهم في الجنة يرثون الفردوس ، ما هي الفردوس ؟
بيّنه النبي صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري (( إذا سألتم الله فسألوه الفردوس الأعلى فإنه أوسط الجنة ))
يعني : خيرها وأفضلها (( وأعلاها وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة ))
وهذا الإرث إرث مخلد { الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
ويقتنعون بها كما قال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفِرْدَوْسِ نُزُلًا خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا } {الكهف:108} لا يريدون أن يتحولوا عنها لأنها نعيم مقيم
نسأل الله عز وجل أن يدخلنا الجنة ويعيننا على الأعمال التي تقربنا إليها
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم