تفسير قوله تعالى ( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر … ) سورة الأنعام الآيات ( 74 ـ 83 )

تفسير قوله تعالى ( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر … ) سورة الأنعام الآيات ( 74 ـ 83 )

مشاهدات: 478

تفسير قوله تعالى

{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِين }

فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

 

أما بعد :

 

مما قُرأ في هذه الليلة قوله سبحانه وتعالى { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِين }الأنعام74 ، إلى آخر ما ذكره سبحانه وتعالى في قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه الذين عبدوا غير الله سبحانه وتعالى .

 

فقوله تعالى { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ } إبراهيم عليه الصلاة والسلام أبو وإمام الأنبياء كان له أب يسمى بـ[ آزر] قد أضله الله سبحانه وتعالى وصرفه عن طريق الحق فعبد الأصنام فأتاه إبراهيم عليه السلام من باب إسداء النصح إلى والده ، لأن أحق من يسدى إليه الحق والنصح هو الوالد ولاسيما فيما يتعلق بحق الله سبحانه وتعالى ، ولذا :

وهي لفتة إلى الآباء والأمهات لفتة يجب وينبغي أن يتنبه إليها وهي :

أن بعض الأبناء الصالحين إذا أتى إلى والده أو إلى أمه ليبين لهم شيئا فيما يتعلق بحق الله سبحانه وتعالى غضب أحد الوالدين وشنع به القول مع أن هذا الابن لم يرد إلا خيرا ، ولذلك ينبغي لنا أن تتسع العقول وأن تدرك أن الحق يُقبل من أي شخص كان سواء كان صغيرا أو كبيرا ، كافرا أو مسلما ، الحق إذا أتى يجب أن يقبل من أي شخص كائنا من كان

ولذا كثيرا من الشباب ينزعج انزعاجا كبيرا حينما يريد أن ينبه أباه على أمر قد أخطأ فيه في دين الله سبحانه وتعالى ، قد أتاه بأسلوب لطيف وبطريقة حسنة ومع ذلك بعض الآباء أو بعض الأمهات إذا أتى إليه هذا الابن بهذا الأسلوب وبهذه الطريقة الحسنة كي يخلصه من منكر فعله أو يدعوه إلى واجب قد تركه إذا بهذا الأب أو بهذه الأم تظن أو يظن الأب بابنه سوءا بأنه قد تطاول عليه وأنه تجاوز حدَّه

وهذا ليس بصحيح فينبغي لنا أن تتسع العقول والقلوب ، وإذا كان الأب أو إذا كانت الأم إذا كانا بهذا الصورة كيف يربون الأبناء ! حينما يأتي إلي ابني ويرشدني إلى أمر ما قد غفلت عنه ، لأن العلم ولأن الهدى يؤتيه الله عز وجل من يشاء ، ولذلك ماذا قال إبراهيم عليه السلام في سورة مريم ؟ { يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا } مريم43

بمعنى أنك أنت أيها الأب لا تظن مع كبر سنك أن العلم قد أحطت به وقد أدركته ( لا ) وإنما متى ما أتاك الخير ولا سيما من أحد أبنائك فعليك أن تقبله بصدر رحب وعليك أن تدعو لابنك وأن تحثه على هذا الأمر

لأن الأب إذا لم يعط ابنه الثقة في نفسه مَنْ يعطه الثقة ؟

فإذا وجد الابن تجاوبا من أبيه أو من أمه انطلق وأصبح رجلا يتحدث أمام الملأ وأمام الناس ، لكن إذا كان الأب ينتهر الابن من حين ما يبين له شيئا من الأشياء حينها يتضاعف الابن ولا سيما مع كثرة الانتهار فيصبح هذا الابن منعزلا عن الناس منطويا عنهم ،

ومن ثم يجني هذا الأب أو هذه الأم أو هذا الابن يجني ثمارا غير نافعة فيما يتعلق بأمور دينه ودنياه .

 

قال إبراهيم عليه السلام { إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } ثم ماذا قال ؟  { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } يعني كما أراه الله سبحانه وتعالى ضلال قومه وضلال أبيه أراه الله سبحانه وتعالى

{ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } لينظر ويتأمل فيها وما يجري في هذا الكون من أجل { وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } فدل على أن المسلم متى ما أراد أن يكون له يقين بالله سبحانه وتعالى وإقبالة على الله سبحانه وتعالى عليه أن يتفكر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق فيهما .

 

ثم انتقل السياق إلى الخطاب والمحاورة مع قومه ، لأن قومه كان منهم من يعبد الأصنام وكان منهم من يعبد النجوم فكانوا يتعلقون بهذه النجوم ويدعونها من دون الله سبحانه وتعالى { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ } يعني أتى الليل

{ رَأَى كَوْكَبًا } وهذا من باب التنزل مع الخصم في الأسلوب وفي المحاورة وفي الحديث

ماذا قال إبراهيم ؟ { قَالَ هَـذَا رَبِّي } يعني في زعمكم ، وليس معنى أن إبراهيم عليه السلام كان شاكا ( كلا ) كيف يكون شاكا وقد قال سبحانه وتعالى قبل ذلك { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } لو كان شاكا كيف يكون من الموقنين ؟

ولذلك ماذا قال تعالى { وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ } يعني من الصغر من قبل أن يؤتى النبوة { وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ } فلا يفهم من أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان شاكا في ربه ثم تبين له ربه ( كلا ) .

 

{ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي } على زعمكم وعلى ظنكم { فَلَمَّا أَفَلَ } يعني زال وذهب النجم

{ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ } لأن من كان إلها لا يمكن أن يغيب ولا يمكن أن تغيب عنه غائبة لا في السماء ولا في الأرض ، فلما لم ينتفعوا ، ما نفعهم الله سبحانه وتعالى بهذا الأمر ، فماذا قال سبحانه وتعالى عن إبراهيم ؟ { فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا } يعني طالعا { قَالَ هَـذَا رَبِّي } على زعمكم وعلى ظنكم { فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ } فيه إشارة إلى أنكم ضلّال فانتبهوا ، لأن من يغيب ليس بإله .

 

ثم يستفاد من قوله { لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ } يستفاد منه أن الناس بحاجة إلى أن يدعو الله سبحانه وتعالى بالثبات على الدين

فإذا كان إبراهيم عليه السلام قد دعا الله سبحانه وتعالى أن يثبته على طريق الحق وألا يزيغ قلبه فغيره من باب أولى ، ولذا النبي صلى الله عليه وسلم قال ( نحن أحق بالشك من إبراهيم ) يعني لو كان إبراهيم يشك لكنا أولى بالشك منه ، فنحن لا نشك فإبراهيم من باب أولى أنه لا يشك في قدرة الله سبحانه وتعالى

 

ولذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كما عند الترمذي من حديث أم سلمة رضي الله عنه ( لما قيل لها ماذا كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في بيتك ؟ ) فماذا قالت رضي الله عنها ؟ ( قالت : كان أكثر دعائه : اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ) فنحن بحاجة ماسة أكيدة إلى أن ندعو الله سبحانه وتعالى بالثبات على دينه ولا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه الفتن والشهوات والشبهات فنسأل الله عز وجل أن يثبتنا على دينه وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا .

 

فلما لم ينتفعوا بالأمر { فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ } يعني أكبر من النجم وأكبر من القمر ، وهذه آية تدل على أن الشمس في الحجم أكبر من القمر { قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ } يعني أكبر مما تعبدونه من النجم ومن القمر { فَلَمَّا أَفَلَتْ } أي زالت وذهبت ولم ينتفعوا { قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } لم ينفع هؤلاء موعظة { قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } ثم قال تعالى { وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ } في أمر الله وفي توحيد الله { قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ }

ثم قالوا يا إبراهيم احذر أن تصيبك آلهتنا بسوء لما عبتها وسفهتها فماذا قال عليه الصلاة والسلام ؟ { وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا } إذا شاء الله سبحانه وتعالى أن ينزل بي مالا أريده أو ما قدَّره من السوء فهذا أمر الله { إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُون } يعني مع وضوح هذه الأدلة ومع بيانها { أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } ثم قال { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} كيف أخاف من آلهتكم التي لا تنفع ولا تضر ولا تسمع ولا تفعل شيئا ؟ { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ } أنتم أم نحن ؟ { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }

 

ثم فصل سبحانه وتعالى في الأمر مبينا أن الإنسان إذا أراد الهداية والخير والأمن عليه بتوحيد الله سبحانه وتعالى {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ } يعني بشرك { أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ }الأنعام82

ولا ترى مجتمعا قد ظلل التوحيد ظلاله فيه إلا وجدت فيه الأمن والهداية وبقدر ما ينقص التوحيد في المجتمع بقدر ما تنقص الهداية والأمن ، وطبقوا هذا على حالنا لأن الذنوب والمعاصي تضعف التوحيد ، الناس قد انغرقوا فيما حرَّم الله سبحانه وتعالى

هل الأمن والهداية والتوفيق في هذا المجتمع مثل ما قبل عشر سنين أو عشرين سنة ؟ ( كلا )

فلما نقص التوحيد بقدر ما نقص نقصت الهداية ونقص الأمن ، وعلى قدر نقصانهما في الدنيا ينقصان في الآخرة وفي القبر ، ومن كان مفرطا في جانب الله سبحانه وتعالى لا يجد الأمن والهداية في قبره ولا في بعثه ولا في نشوره.

ثم ماذا قال سبحانه وتعالى ؟

{ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء } بمعنى أن العلم وأن الفضل وأن القدر وأن المكانة بيد الله سبحانه وتعالى يهبها لمن يشاء فقد أعطى الله عز وجل إبراهيم النبوة والحجة على أبيه وعلى قومه { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ }الأنعام83  يعني سبحانه وتعالى عالم بمن يضع فيه الحكمة ، بمن يضع فيه الهداية { حَكِيمٌ } يضع الأمور في مواضعها المناسبة لها ، فلا يعترض على قدر الله عز وجل ، ومن ثم فالابن إذا أفاق أباه أو أن الأخ الأصغر إذا أفاق أخاف الأكبر في العلم أو في القدر أو في شيء ما فليعلم أن هذا هو أمر الله وهذا قدر الله وعليه أن يسلم بهذا الأمر ، وإذا أتاه الأمر ولا سيما فيما يتعلق بأمر الدين إذا أتاه الخير من الأصغر بالتنبيه عليه سواء كان ابنا أو أخا أو قريبا أو ما شابه ذلك فعليه أن يقبله وأن يذعن للحق لأن هذا من أمر الله سبحانه وتعالى .

والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد .