المتأمل في الآية التي قبل هذه الآية ، وهي قول الله تعالى { وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }البقرة101 ثم قال بعدها { وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } الآية ، فالمتأمل في هذه الآية والتي قبلها يدرك أن من أعرض عن الخير وقع في الشر ، ومن ترك الهدى أصابته الضلالة ، ومن نبذ شرع الله ، اتبع طريق وسبيل الشيطان { وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }
اليهود ، اتبعوا ماذا ؟ اتبعوا ما بقي من تركة الشياطين من السحر في عهد سليمان عليه السلام ، الشياطين كانوا يسترقون السمع في عهد سليمان ، وكانوا يبثون بين الناس بعض الأخبار التي ستقع ، فزعم الناس في ذلك الزمن ، في عهد سليمان عليه السلام ، أن الجن يعلمون الغيب ، ولذا وبَّخ الله سبحانه وتعالى من يزعم ذلك ، لأن الجن وَقَرَ في نفوسها في عهد سليمان أنها تعلم الغيب ، فأمات الله سبحانه وتعالى سليمان وبقي متكئا على عصاه ، والجن مسخرون له ، يعملون له ما يشاء ، فقال جل وعلا في سورة سبأ { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ } يعني من عصاه { فَلَمَّا خَرَّ } يعني سقط ميتا { تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ }سبأ14
ما هو هذا العذاب المهين ؟ ما كانوا يعملونه لسليمان ، من الغوص في البحار لاستخراج اللؤلؤ والمرجان والذهب ، ومن تشييد البنيان والتماثيل والجفان ، وما شابه ذلك ، فهؤلاء الجن والشياطين كانوا يسترقون السمع مما سيقع مما يُتداول بين الملائكة ، فظن الناس أنهم يعلمون الغيب ، فقال سبحانه وتعالى :
{ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ } يعني ما تقرأ وتعمل الشياطين
{ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } يعني في عهد سليمان عليه السلام
{ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } لأن اليهود لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يذكر سليمان قالوا انظروا إلى هذا النبي يذكر سليمان وما كان سليمان إلا ساحرا ، لأنه ما وطَّن الجن إلا بالسحر – هذا في ظنهم – فقال سبحانه وتعالى { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } دل على أن السحر وتعلمه كُفر ، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث جابر ( لما سئل عن النشرة ؟ ) وهي فك السحر بسحر مثله ، إنسان مسحور يؤتى به إلى ساحر آخر ليفك سحره ، فقال عليه الصلاة والسلام ( هذا من عمل الشيطان ) فأفهمنا هذا الحديث وقبل ذلك هذه الآية أن ما يشاع من فتوى في هذا العصر التي في مضامينها أنه يجوز فك السحر بسحر مثله ، مناقضة لصريح القرآن ولصريح سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم
وإذا قلنا إن السحر يفك بسحر مثله ، يلزمنا في مثل هذه الحال أن نبقي بعض السحرة ، لأن فيهم فائدة – على غرار هذه الفتوى – ولكن هؤلاء ليس لهم فائدة ، ولذلك الشرع حكم على السحرة بالقتل ، ثم إن قلنا إن السحر يجوز أن يُفك بسحر مثله لقيل إن القرآن عاجز – وحاشاه – أن يشفي أمراض الناس
النبي صلى الله عليه وسلم لما أصابه السحر ما عدل إلى السحرة ، وإنما عدل إلى القرآن ، فقرأ عليه الصلاة والسلام المعوذتين حتى انفك السحر الذي أصابه عليه الصلاة والسلام ، فأردتُ أن أبين أن ما يُشاع ويذكر عبر وسائل الإعلام ، وما يتناقله الناس من هذه الفتوى ، أنها فتوى مناقضة لصريح القرآن وصريح سنة النبي صلى الله عليه وسلم .
فقال تعالى { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ } لم ؟
{ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } يعني ويُعلِّمون ما أنزل على الملكين { بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } هناك ملكان اسمهما
( هاروت وماروت ) أنزلهما الله سبحانه وتعالى بأرض بابل بالعراق ، وأمرهما جل وعلا أن يعلما الناس السحر ، ابتلاءً واختبارا ، ينظر هل هؤلاء البشر يعرضون عن السحر أم أنهم يقبلون عليه ، فأنزل الله عز وجل هذين الملكين ابتلاء واختبارا ، يعلمان الناس السحر ، ولذلك هذان الملكان يمخضان النصح والخير للناس
ولذلك قال تعالى { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } يعني ابتلاء واختبار من الله { فَلاَ تَكْفُرْ } فدل على أن تعلم السحر كفر ، ثم بين سبحانه وتعالى نوعا من أنواع السحر ، وهو ما يسمى بالصرف ، إذ إن في بعض أنواع السحر ما يُبغض الزوجة إلى زوجها والزوج إلى زوجته ، ولذا قال :
{ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } قد يظن أن هؤلاء الجن أو هؤلاء السحرة لهم من التمكين والقوة ما يستطيعون به إيصال الضرر للبشر ، فقال عز وجل { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ }
إذاً ماذا علينا نحن ؟
علينا أن نتسلح بالسلاح الذي أمرنا الله جل وعلا وأمرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن نتسلح به ، ما هو السلاح من الوقوع في السحر أو الوقوع في العين ؟ قراءة القرآن والذكر ، والآيات تدل على ذلك { نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ } قال بعض المفسرين ( هو القرآن ) فإذا نبذ القرآن ماذا يحل بالإنسان ؟ يحل به السحر والألم وكل ما لا يلائمه .
ثم قال تعالى { وَيَتَعَلَّمُونَ } يعني اليهود ، وهذا يدل على أن مكمن السحر من اليهود ، وأن أصله السحر من اليهود ، وكل الشر من اليهود {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } لم يقل { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ } وسكت – لا – { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } قد تتضرر بشيء وتنتفع بجزئية منه ، لكن هنا نفى النفع عن السحر، وأن السحر شر وضرر محض ، وليس فيه خير وليس فيه نفع ، فكيف يقال يجوز فك السحر بسحر مثله ؟!
ثم قال تعالى { وَلَقَدْ عَلِمُواْ } يعني اليهود، عندهم علم ، لكنهم اتبعوا أهواءهم ، ولذلك لما كان عندهم علم وتركوا العمل ، وصفهم الله عز وجل بأنهم مغضوب عليهم .
{ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ } يعني من استبدل السحر بكلام الله عز وجل { مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } يعني حظ ونصيب ، والذي لا نصيب له البتة في يوم القيامة هو الكافر ، فدل على أن السحر وتعلمه كفر بالله سبحانه وتعالى ، ثم ذم الله سبحانه وتعالى ما صنعوه
لأنهم باعوا أنفسهم لتعلم هذا السحر الذي يوصلهم إلى العذاب الأليم ، ولذا قال تعالى { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } يعني لو كانوا حقيقة ما ينتظرهم من العذاب بتعلم هذا السحر ما أقدموا عليه وما تركوا كلام الله .
ثم بين الله سبحانه وتعالى أن الطريق الأسلم الذي كان ينبغي لهم أن يسلكوه {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}البقرة103 هناك تقدير في الآية {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا } لأثيبوا ، ما الذي دل عليها ؟ { لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } البقرة103
نسأل الله عز وجل أن يجنبنا وإياكم الشر والوباء والبلاء والسحر والعين وما شابه ذلك من هذه الأمراض ، والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .