بسم الله الرحمن الرحيم
تقريب شرح السنة لعامة الأمة
صحيح البخاري ـ كتاب الإيمان
من حديث (22) إلى (25)
[الدرس الثامن ــ 6/4/1446 هـ ]
فضيلة الشيخ/ زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(15) باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال
٢٢ – حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَني مَالِكٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيىَ الْمَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ – رضي الله عنه -، عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: “يَدخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: أَخْرِجُوا مَنْ كانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ. فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا قَدِ اسْوَدُّوا فَيُلْقَوْنَ في نَهَرِ الْحَيَا أَوِ الْحَيَاةِ، -شَكَّ مَالِكٌ- فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ في جَانِبِ السَّيْلِ، أَلمْ تَرَ أَنَّهَا تَخْرُجُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيةً”.
قَالَ وُهَيْبٌ: حَدَّثَنَا عَمْرو: “الْحَيَاة”. وَقَالَ: “خَردَلٍ مِنْ خَيْرٍ”.
ثم ذكر رحمه الله فقال: باب: تَفَاضُلِ أَهْلِ الإِيمَانِ في الأَعْمَالِ
(حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) وهو إسماعيل بن عبد الله المدني ابن أخت الإمام مالك؛ يعني: أن مالكًا خالُه.
(قَالَ: حَدَّثَني مَالِكٌ) التوفيق من الله عز وجل، بعض الناس قد يكون القريب لهم عالمًا من العلماء لكن لا ينتفعوا، إنما ينتفعُ مِن عِلمِه البعيد، لكن هناك من ينتفع من الأقرباء كحال إسماعيل، وابنُ أخِ الزهري -كما سيأتي إن شاء الله معنا.
(حَدَّثَني مَالِكٌ) مالك بن أنس.
(عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيىَ الْمَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ) وهو مدني أيضًا.
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ – رضي الله عنه -، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: “يَدخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ) كما قال عز وجل: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ} [مريم:39] قضي الأمر بدخول أهل الجنة الجنة، وبدخول أهل النار النار
{هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} [البقرة:210]
{ وَقالَ الشَّيطانُ لَمّا قُضِيَ الأَمرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} [إبراهيم: 22] الآية.
(“يَدخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ) وهذا يدل على أنهما طريقان: فريقٌ في الجنة كما قال عز وجل: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ} [الشورى: 7] {وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] أنجانا الله وإياكم من السعير.
(ثُمَّ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى) وفي هذا إثبات صفة القول لله عز وجل، وأيضًا إثبات صفة العلو له لكلمة (تعالى)
(أَخْرِجُوا مَنْ كانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ) أي وزن.
(حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) الخردل هو أصغر النباتات.
(مِنْ إِيمَانٍ) انظروا! قال: (مَنْ كانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ) فالإيمان يتفاضل، ويتفاضل أهلُه، لكن من دخل الجنة في أول الأمر، كما في الحديث السابق هم أصحاب إيمان، ليس إيمانهم كإيمان هؤلاء.
(مَنْ كانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ) يعني هذا هو الاعتقاد، لكن مع عمل، وهذا يدل على أنه لا بد مع الإيمان من عمل خلافًا للمرجئة، ولذلك في رواية: ” أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ ذَرَّةً “
(فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا قَدِ اسْوَدُّوا) وذلك من أثر النار.
وقد جاء في الأحاديث الأخرى من أنهم يُخرجون (ضبائر) يعني جماعات، ولا تأكلُ النار مواضع السجود، فيُميتهم الله إماتة -وسيأتي له مزيدُ حديثٍ إن شاء الله-
(فَيُلْقَوْنَ في نَهَرِ الْحَيَا أَوِ الْحَيَاةِ، -شَكَّ مَالِكٌ-) مالك هو الإمام مالك رحمه الله الراوي عن عمرو بن يحيي المازني؛ شَك، هل ضبطها الحياء مقصورة وليس مدا؟ أو الحياة؟
ووهيب وهو: وهيب بن خالد بن عجلان الباهلي الذي روى عن عمرو، الإمام مالك روى عن عمرو، ووهيب روى عن عمرو، ووهيب لم يشك كما شك مالك، أثبت من أن الكلمة هي (الحياة)
قال: (فَيُلْقَوْنَ في نَهَرِ الْحَيَا) الحيا هو المطر، ذلك بأن المطر هو سبب لحياةِ الأرض، فكذلك هذا النهر الذي في يوم القيامة إذا ألقوا فيه أحياهم الله، وقد ضُبطت هذه الكلمة بالمد (الحياء)، بعضهم لم يرها، والذي أرى أنها لا إشكال فيها لمَ؟
لأن الحياء مأخوذ من مادة الحياة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: “الْحَياءُ خَيْرٌ كُلُّهُ” ولذلك الذي يستحي هو حي القلب، والذي لا يستحي هو ميت القلب.
(فَيُلْقَوْنَ في نَهَرِ الْحَيَا أَوِ الْحَيَاةِ، -شَكَّ مَالِكٌ- فَيَنْبُتُونَ) هذا يدل على أنهم قد انتهوا انتهاء كاملًا،
ولذلك في الحديث الآخر: “يُميتُهم فيها إماتةً” ولذلك عبر هنا سبحان الله بالنبات، كما أن النبات يحيي بالحيا الذي هو المطر {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} [يونس:24]
ولذلك قال الله عز وجل عن أصلنا آدم في سورة نوح {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح:17]
(فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ) الحِبَّة جمع؛ وهي بذور الحبوب هذا جمع، والحَبَّة مفرد.
إذًا/ فينبتون كما تنبت الحبوب.
وهذا يدل على عِظَم اللغة العربية، فإنه بمجرد تغيِّر حركة تغيَّرَ المعنى.
(فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ في جَانِبِ السَّيْلِ) السيل هو أثر المطر
(أَلمْ تَرَ أَنَّهَا تَخْرُجُ) يعني هذه الحِبَّة.
(صَفْرَاءَ مُلْتَوِيةً”) يعني هذا في طبيعة نشأتها تكون صفراء ملتوية.
(قَالَ وُهَيْبٌ: حَدَّثَنَا عَمْرو: “الْحَيَاة”) -كما قلت لكم- يعني أثبت ولم يشك وهيب كما شك مالك.
(وَقَالَ: “خَردَلٍ مِنْ خَيْرٍ”) رواية مالك: ” خردل من إيمان ” هنا خردل من خير، دل هذا على ماذا؟
على أن الإيمان يُطلق عليه خير، وأن العمل الصالح هو خير، لأن جملة “خردل من خير” تشمل الإيمان وغيرَه، فيدخل فيها العمل
وهذا الحديث ردٌّ على الخوارج وعلى المعتزلة الذين يقولون من أن صاحب الكبيرة مخلدٌ في نار جهنم! لكن معتقد أهل السنة والجماعة: من أن صاحب الكبيرة تحت مشيئة الله، إن شاء اللهُ رَحِمَه ابتداءً فلم يعذبْه، وإن شاء عذبه بقدر ذنبه ثم أخرجه من النار.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم ذكر حديث أبي سعيد قال:
٢٣ – حَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِح، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْل، أنهُ سَمِعَ أبا سعيد الْخُدْرِيَّ، يَقُولُ: قَالَ رَسُول الله – صلى الله عليه وسلم -: “بَيْنَا أنا نَائِم رَأَيْتُ النَاسَ يُعْرَضُونَ عَليَّ، وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثدِيَّ، وَمنْهَا مَا دُونَ ذَلِكَ، وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ بْن الْخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ”. قَالُوا: فما أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: “الدينَ”.
(قال: حَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ) السلمي المدني.
(قَالَ: حَدَّثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ) ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف.
إذًا جده الثاني هو عبد الرحمن بن عوف الصحابي المعروف.
(عَنْ صَالِح) وهو صالح بن كيسان المدني، وهو ثقة ثبت فقيه.
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) مر معنا كثيرًا وهو محمد بن مسلم الزُّهرِي.
(عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْل) أبو أمامة اسمه أسعد وهو ابن سهيل المدني هو رأى النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن لم يسمع منه.
(أنهُ سَمِعَ أبا سعيد الْخُدْرِيَّ) فهو سعد بن مالك مر معنا في الحديث السابق.
(يَقُولُ: قَالَ رَسُول الله – صلى الله عليه وسلم -: “بَيْنَا) مرت معنا أصلها: بين (باء ياء نون)، فأُشبعت الفتحة فصارت ألفًا، وقد يزاد فيها الميم، فيقال: بينما.
(“بَيْنَا أنا نَائِم) هذه رؤيا للنبي عليه الصلاة والسلام، ورؤيا الأنبياء وحي وحق، وقد ذَكَرت فيما مضى من دروس بعض الأدلة.
(رَأَيْتُ النَاسَ يُعْرَضُونَ عَليَّ) وعرضُهُم على النبي عليه الصلاة والسلام لكي يعلمَ بحالهم في دين الله عز وجل.
(وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ) وفي هذا دليل على جواز لُبس القميص، بل مستحب.
(وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثدِيَّ) الثُّدِي جمع ثَدي ومعلومٌ الثَدي، وهذا دليل يدل على أنه كما يُطلق الثدي على المرأة، يطلق على الرجل عند أهل اللغة يسمون الثَدي الذي عند الرجل (ثُنْدُوَه)، لكن هذا الحديث بيَّن أن ما كان في الصدر مما هو للمرأة يسمى بالثَدي، كذلك الرجل
وهذا يدل على أن بعضهم القميص فقط من عاتقه إلى ثدييه، وهذا يدل على أن الإنسان لو لبِسَ لباسًا يغطي صدره -إن جرت العادة والعرف عند كل أهل بلد بحسبهم- يلبس لباسًا يغطي صدره، فلا إشكال في ذلك لأنه قال: “منها ما يبلغ الثدي”، فلو كان ما يلبس بهذه الطريقة، لو كان محرمًا لنبه عليه، عليه الصلاة والسلام.
(وَمنْهَا مَا دُونَ ذَلِكَ) أي ما هو أنزل من ذلك.
(وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ بْن الْخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ”) الجر هو السحب، ولا يعني أنه يجوز الإسبال.
لو قال قائل: لم ينكر النبي عليه الصلاة والسلام أن يُلبس القميص مجرورًا كما قلتم في أول الحديث “مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثدِيَّ”؟
نقول: تحريمُ الإسبال ورد من أحاديث أخرى.
(وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ” قَالُوا: فما أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟) أي: ما عبَّرت ذلك؛ التأويل هو يطلق على التفسير، ويطلق على عاقبة الشيء ولذلك أتت هذه الكلمة في سورة يوسف مما يدل على المراد التفسير.
(قَالَ: “الدينَ”) المعروف دين الإسلام، هذا يدل على أن الناس يتفاوتون في الإيمان وفي الدين، كما تفاوت هؤلاء في لُبس القميص، ولما كان دينُ وإيمانُ عمر دينًا كاملًا، فإنه رآه عليه الصلاة والسلام وهو يجر قميصَه.
وذِكْرُ القميص الذي هو اللباس، لأن القميص كما هو يستر البدن، فالدين يستر الإنسان في الدنيا وفي الآخرة، ولذلك ماذا قال عز وجل؟
{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26].
ومن كمال إيمان ودين عمر رضي الله عنه -ما أحسن الدينَ إذا كان له أثر يبقى- ولذلك قال: (وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ) لم يقل وعليه قميص كاملٌ؛ قال: يجره والذي يُجرُّ على الأرض سيكون له أثر، فدل على أن دينه له أثر ولا شك في هذا أنه رضي الله عنه كان له أثر في حياته وبعد وفاته.
ولا يلزم من عدم ذِكْرِ أبي بكر رضي الله عنه أن يكون عمر أفضل، لكن هذه الرؤيا رآها عليه الصلاة والسلام، ومن ضمنها رأى عمر، فاسْتُفِيدَ من هذا الحديث الذي ذكره البخاري من أن الناس يتفاوتون في الإيمان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم ذكر رحمه الله فقال:
(16) باب: الْحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ
٢٤ – حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ الله، عَنْ أَبِيهِ، أَنّ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – مَرَّ عَلَى رَجُل مِنَ الأنصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ في الْحَيَاءِ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: “دَعْهُ فإِنّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ”.
هذا الحديث تقدم معنا وذُكِر، ولماذا ذكره؟
ذَكَرَهُ هناك تبعا لشعب الإيمان، وهنا ذَكَرَهُ قاصدًا له يعني هناك تبعا للشعب، هنا ذَكَرَهُ قاصدًا له بذاته، مع تغير الطريق طريق الحديث.
ولذلك هناك ماذا قال؟
“الإِيمَانُ بضْعٌ وسِتُّونَ شُعْبَةً، والحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمَانِ” فكان تبعًا لشعب الإيمان.
هنا في هذا الحديث لم يذكر شعب الإيمان، وإنما ذكره استقلالًا.
(قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ) مرَّ معنا التِّنْيسِي المصري الدمشقي هو أصله من دمشق، لكنه نزل بمصر.
(قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ) ابن أنس. (عَن ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم.
(عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ الله) ابن عمر. (عَنْ أَبِيهِ) أبوه من؟ عبد الله بن عمر.
(أَنّ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَرَّ عَلَى رَجُل مِنَ الأنصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ في الْحَيَاءِ) وهذا يدل على أن الوعظ لا ينحصر في زمن ولا في مكان، كما فعل هذا الأنصاري إذ وعظ أخاه في الحياء، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام أنكر عليه وعْظَهُ في الحياء، ولم ينكر عليه أصل الوعظ.
(وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ في الْحَيَاءِ) في سببية لسبب الحياء، ووعْظُهُ له كما جاءت بذلك الروايات الأخر من أنه يعاتبُ أخاه في الحياء، فإنه يرى أن حقه يُنْتَقص بسبب حيائه، وهو لا يستوفي كاملَ حقه أيضًا من غيره لحيائه.
(فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “دَعْهُ) يعني: اتركه
كيف يتركه؟ مع أن حقه لا يستوفيه من غيره، وغيرُه يستوفي حقَّه أكثرَ من حقِّه منه؟!
حتى لو كان كذلك فإنه لا يُعدَم من حصول الأجر من الله عز وجل، فلو غُلِب فإنه مأجور.
ولذلك قال: (دَعْهُ) ثم علل: (فإِنّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ) ومرت معنا هذه الجملة مشروحة في حديث:
” والحياءُ شعبةٌ من الإيمان ” هناك قال: “شُعْبَةٌ”، هنا قال: “مِنَ الإيمَانِ” وفي هذا فائدة وهي:
أنه عليه الصلاة والسلام أنكر ما رآه، ولو كان هذا الإنكارُ في الطريق، فالإنكارُ لا ينحصر بزمن ولا بمكان، وأيضًا فيه حرصُ النبي عليه الصلاة والسلام على تعليم أمته كلَّ شيء؛ مما فيه مصلحة لهم، ودَفْعُ مَضَرَّة ومفسدة عنهم
وهنا في هذا الحديث أثبت أن الحياء من الإيمان.
والبخاري رحمه الله يذكر شعب الإيمان، ثم يأتي بفواصل لأن تلك الفواصل تابعة؛ ثم هو يريد ألا يذهب عقلُ القارئ وذهنه وقلبه عن الشعب مرة أخرى، فيُعيدها، لكن إعادةً فيها تغاير إما من حيث المتن، وإما من حيث السند،
وفرقٌ بين الخجل وبين الحياء:
فالحياء من الإيمان، لكن الخجل: هو المقصود منه أن ينقبض الإنسان عن إقامة شرع الله عز وجل، إما فعلًا للمأمور، أو تركًا للمحظور.
أما ما يتعلق بالأمور الدنيوية فلا يدخل في هذا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم ذكر رحمه الله فقال:
(17) بابٌ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}
٢٥ – حَدَّثَنَا عَبْد الله بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو رَوْح الْحَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاقِدِ بْن مُحَمَّدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّث، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: “أُمِرْتُ أَنْ أقاتِلَ النَاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، وَيُقِيمُوا الصَّلاة، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلُامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ”.
يعني باب تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5].
ولذلك لعظم السنة وأيضًا بيان فقه البخاري رحمه الله أنه أتى بالآية، وأتى بعدها بالحديث؛ حديث ابن عمر رضي الله عنه، لكي يفسر الآية في الحديث.
الحديث ماذا قال؟
“حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله” هنا: {فَإِنْ تَابُوا}، تابوا عن ماذا؟
تابوا عن الشرك {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] وهذا يدل على أنه لا غنى عن السنة، ولذلك يُطعن في السنة في هذا الزمن نسأل الله السلامة والعافية، ويقولون نحن لا نأخذُ إلا بالقرآن، وكذبوا فإنهم كذَّبوا القرآن، لأن القرآن أمر بالأخذ بالسنة:
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ} [النساء:80] كيف يُطاع الرسول عليه الصلاة والسلام إلا بمعرفة سنته {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] والأدلة كثيرة.
(قال: حَدَّثَنَا عَبْد الله بْنُ مُحَمَّدٍ) الْمُسْنَدِيُّ ومر معنا وهو البخاري،
والْمُسْنَدِيُّ بفتح النون – كضبط -: الْمُسْنَدِيُّ.
(قَالَ: حَدَّثَنَا أبو رَوْح الْحَرَمِيُّ) هذه كنيته وحَرَمِيُّ هذا بصري رحمه الله وقال: الحرمي صيغته صيغة نسب، فهو اسمٌ بلفظ النسب تُثْبَتُ فيه الألف واللام وتحذف، مثل مَكْيِّ والمَكْيِّ، واسمه ثابت لماذا قيل الحرمي؟ هل هو منسوب إلى الحرم؟
لا، ليس هو منسوبا إلى الحرم بأي حال من الأحوال، لأنه بصري من حيث الأصل، ومن حيث المولد، ومن حيث المنشأ، ومن حيث المسكن، ومن حيث الوفاة.
(قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ) وهو شعبة بن الحجاج مر معنا كثيرًا الثقة الثَّبْت البصري.
(عَنْ وَاقِدِ بْن مُحَمَّدٍ) المدني. (قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي) أبوه من؟ محمد بن زيد.
(قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّث، عَنِ ابْنِ عُمَرَ) هو عبد الله بن عمر.
(أَنَّ رَسُولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: “أُمِرْتُ) من الآمِر؟
هو الله، فدل هذا على ماذا؟
على ما ذكرنا سابقًا، من أن الصحابي كان إذا أمرهم، أمرهم من الأعمال بما يطيقون.
(“أُمِرْتُ أَنْ أقاتِلَ النَاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا) الأمر بالقتال هنا صيغة عموم، وخُصِّصَت هذا يسمى عند الأصوليون مُخَصِّصْ متصل، يعني ليس نصًا عامًا، وهناك نص مستقل هو خاص فخصصه، لا التخصيص في نفس الحديث (“أُمِرْتُ أَنْ أقاتِلَ النَاسَ) هذا عام، التخصيص متى؟
(حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، وَيُقِيمُوا الصَّلاة، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ) ولذلك الآية {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5].
وقد اسْتَدَّلَ أبو بكر رضي الله عنه في قتاله للمرتدين بهذا الحديث دون جملة ” ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ” ولذلك لما أنكر عمر على أبي بكر قال: كيف تقاتل الناس وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؟
-هو قاتلهم لما منعوا الزكاة، طائفة ارتدت فقاتلهم لردتهم، وطائفة منعت الزكاة فقاتلهم- فقال عمر: كيف تقاتل من منع الزكاة؟
فقال رضي الله عنه: الزكاة من حق الإسلام “واللَّهِ لَأُقاتِلَنَّ مَن فَرَّقَ بيْنَ الصَّلاةِ والزَّكاةِ” والزكاة من حق الإسلام هذا يدل على ماذا؟
يدل على أن أكابرَ الصحابة رضي الله عنهم قد يخفى عليهم من السنة ما يخفى، وإلا لو كان أبو بكر حافظًا ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة لاستدل بها، ولو كان عمر رضي الله عنه حافظًا لها، لما أنكر على أبي بكر.
فلا أحد يقول: فلان – لما يُستَدلّ على بعض الناس بدليل – يقول: فلان العالم الفلاني قال كذا وهو أعلم، خطأ! فإذا خفي بعض السنة على أكابر الصحابة فمن دونهم من باب أولويات.
ثم سبحان الله من الراوي؟
ابنُ عمر فهو إن كان حاضرًا، ما كان بين أبيه وبين أبي بكر، فإنه قد نسي، وهذا يعتري الإنسان أن ينسى، وإن لم يكن حاضرًا ولا أظن أنه لا يحضر لأن هذا أمر مشهور؛ ولكن لو قيل: كيف لابن عمر لم يذكر هذا؟
نقول: لم يحضر المجلس الذي حصل بين أبيه وبين أبي بكر رضي الله عنهم.
وهذا يدل على أن القياس إذا كان منضبط، فإنه أصلٌ من أصول التشريع، لأن أبا بكر رضي الله عنه استدل بالقياس قال: “لَأُقاتِلَنَّ مَن فَرَّقَ بيْنَ الصَّلاةِ والزَّكاةِ” فقاس الزكاة على الصلاة، لكن إذا وُجِد الدليل فهو المتعين، ثم إن في هذا دلالةً على عِظَمِ فَهْمِ أبي بكر رضي الله عنه.
(أُمِرْتُ أَنْ أقاتِلَ النَاسَ) وفرق بين القتال والقتل، فالإسلام لم يأتِ لزهق الأرواح أو سفك الدماء، المقاتلة هنا تدل على المفاعلة من جانبين، فحتى لا يُوقَف في طريق الدين يُقاتَل المشركون، ولم يقل أُمِرتُ أن أقْتُل، فلا يستلزم من المقاتلة القتْل.
ولذلك قال: (أُمِرْتُ أَنْ أقاتِلَ النَاسَ) ليس كل الناس، وإنما المشركون بدليل وجود رواية: “أمرت أن أقاتل المشركين”
قال: (حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، وَيُقِيمُوا الصَّلاة، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ) ماذا قال؟ “فإذا فعلوا ذلك” دل هذا على أن كلمة الفعل تطلق على العمل والقول، لأن ما مضى قول وفعل ما هو القول؟ الشهادتان
(فإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا) أي منعوا.
(عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) وهذا يدل على حرمة ماذا؟
دم ومال المسلم، لأنهم إذا فعلوا ذلك دخلوا في الإسلام، فلا يجوز أن يُتعرض لهم ولا لأموالهم بشيء.
وقال: (عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) فيه مثل عندنا قد تدل عليه هذه الجملة عندنا يقولون: [المال عديل الروح] يعني مثل الروح، ولذلك جمع بينهما فقال: (عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ) التي هي الروح (وَأَمْوَالَهُمْ) المال.
ولذلك من يخسر مالَه قد يستخف عقلُه! إلا أن يثبته الله.
فقال: (عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلُامِ) لأن للإسلام حقوقا؛ بمعنى أنهم لو فعلوا ما مضى، وأخلوا بشيءٍ من حقوق الإسلام، فلا يُكَفّ عنهم؛ يؤمرون.
ولذلك استدل أبو بكر رضي الله عنه مع القياس بهذه الجملة “إلا بحق الإسلام” لأن من حق الإسلام الزكاة ركن من أركان الإسلام؛ قال: (إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلُامِ).
قال: (عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) بمعنى أن من فعل ما سبق ولو كان كفره بأي نوع من أنواع الكفر، فيُعصم
أيضًا: مهما بلغ الإنسانُ من فجور وكبائر، فلا يجوز أن يُتعرّض له.
وفي هذا الحديث ردٌّ على الخوارج، لماذا يُقاتِل الخوارج المسلمين؟
لأنهم يرون أنهم كفار، باعتبار أنهم فعلوا الكبيرة!
لكن معتقد أهل السنة والجماعة: من أنه مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته؛
أو بتعبير آخَر: ناقص الإيمان، فلا يُتعرَّض لهم.
كذلك المبتدعة -مع أنهم بغيضون ومكروهون- إذا كانت البدعة ليست مكفرة، فلا يتعرض لهم في أموالهم، ولا في دمائهم، لكن لولي الأمر أن يُعزِّرهم وأن يؤدبهم على حسب ما يراه من مصلحة، لكن لو كانت البدعة مكفرة: فهم كفار.
قال: (إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلُامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ) ما أحد يقول: والله ربما أن إسلامَه مغشوش أو مدخول أو أراد أن يصون نفسَه؛ لا! السرائر عند الله، إنما يؤخذ بالعلانية، ولذلك قال: (وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ) يعني: لا يُبْحَث عما في بواطنهم ما علينا إلا الظاهر.
وفي جملة (وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ) كما أننا نُوَكِّل سرائرَهم إلى الله؛ تحذيرٌ لمن لم يكن إسلامُه صحيحًا، او فيه ما فيه، تحذيرٌ له مما يكون من حساب في يوم القيامة.
وقوله: (وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ) يدل على كمال الخالق وإحاطته، وعلى نقص المخلوق ولو كان من كان.
(وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ) قال على الله: إما أن تكون (على) بمعنى (إلى)
وحسابهم إلى الله، أو على بابها: وهو الأقرب والأصح.
(وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ) يعني من أن الله أوجب على نفسه دون أن يوجب عليه أحدٌ؛ أوجب على نفسه أن يكون هناك حساب وجزاء؛ كلٌّ يجازى بعمله.
فقال: (عَلَى اللهِ) يعني أنه متحققٌ لا محالة، لا مفر.
ففي هذا الحديث الرد على الخوارج الذين خالفوا في الإيمان.