بسم الله الرحمن الرحيم
تقريب شرح السنة لعامة الأمة
صحيح البخاري ـ كتاب الإيمان
الأحاديث ( 29 ـ 30 ـ 31 ـ 32 )
[الدرس العاشر]
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
10/4/1446 هـ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢١) باب: كُفْرَانِ الْعَشِيرِ، وَكُفْرٍ دُونَ كُفْرٍ
فِيهِ أبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِي – صلى الله عليه وسلم –
٢٩ – حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ النَبِيُّ – صلى الله عليه وسلم -: “أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أَكْثرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ يَكْفُرْنَ “. قِيلَ: أيكْفُرْنَ بِالله؟ قَالَ: “يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيرًا قَطُّ”.).
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين أما بعد
ذكر البخاري رحمه الله بابًا فقال:
(باب: كُفْرَانِ الْعَشِيرِ، وَكُفْرٍ دُونَ كُفْرٍ فِيهِ أبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِي – صلى الله عليه وسلم -) من فقه البخاري رحمه الله أنه لما ذكر فيما مضى من أن العمل إيمان؛ ناسَب أن يذكر أن المعاصي كفر، والمقصود مبينًا له من أنه كفر دون كفر، وليس المقصود الكفر المخرج من الملة لا، وإنما هو كفران النعمة
ولما كان هذا الباب مبينًا فيه الكفر دون الكفر ذكر مثالًا:
(كُفْرَانِ الْعَشِيرِ) أي: الزوج من قِبَلِ الزوجة، وهذا إن دل يدل على أن العمل الصالح كما يزيد الإيمان كما هو معتقد أهل السنة والجماعة، فإن الذنوب تُنقص الإيمان
قال فيه يعني في هذا الباب ما يدل على ما ذكرت -هذا قصده- ما الذي فيه من الأدلة؟
( أبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِي – صلى الله عليه وسلم -) مع أنه ذكر لأنه في حديث أبي سعيد قال: ” تَكْفُرْنَ العَشِيرَ”، هو أورد في الباب حديث ابن عباس، وحديث أبي سعيد هذا سيأتي معنا إن شاء الله، أراد هنا أن يبين أنه لحديث ابن عباس أكثر من طريق، أو لعله قصد بحديث أبي سعيد الحديث الذي لفظُه ” لا يَشْكُرُ اللهَ مَن لا يَشْكُرُ الناسَ” هذا احتمال يعني، هذا احتمال
فذكر حديث أنس:
قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ مَسْلَمَةَ) القعنبي المدني البصري ومر معنا، وهو مع ثقته وحفظه عابد؛ من أضبط الناس في موطأ الإمام مالك
ولذلك روى عمن؟
عن مالك بن أنس رحمه الله المدني وهو الفقيه المشهور أحد الأئمة الأربعة حتى قال البخاري رحمه الله أصح الأسانيد: مالك عن نافع عن ابن عمر
(عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) وزيد بن أسلم مولى لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو مدني من الثقات
(عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) المدني وهو ثقة وصاحب عبادة ووعظ
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) هو عبد الله بن عباس بن عم النبي عليه الصلاة والسلام
(قَالَ: قَالَ النَبِيُّ – صلى الله عليه وسلم -: “أُرِيتُ النَّارَ) هذا مقتطع من حديث طويل في صلاة الكسوف سيأتي معنا إن شاء الله، وهذا يدل على أن البخاري يرى تقطيع الحديث حَسْبَ ما هو نافع بشرط ألا يخل بالمعنى مما كان قبلَه أو بعدَه، وهنا لم يحصل خلل، وبالتالي كما قال ابن حجر رحمه الله من أجل هذا الاقتطاع بعضُ العلماء كابن الصلاح وغيره قالوا: إن أحاديثَ صحيح البخاري بدون مكرر إنها تبلغ أربعة آلاف حديث من غير التكرار، ويقول التحرير ليس كما قالوا، لأنهم يجعلون مثل هذا الاقتطاع يجعلونه حديثا مستقلًا، ولذلك يقول: التحرير في عدد أحاديث البخاري من غير تكرار (الفان وخمسمائة وثلاثة عشر حديثًا)
(قال: “أُرِيتُ النَّارَ) من الذي أراه؟
الله عز وجل، وهذا يدل على أن النار موجودة الآن ومخلوقة خلافًا للجهمية وأشباههم الذين ينفون وجودها وخلْقَها الآن!
(قال: “أُرِيتُ النَّارَ) وفي هذا بيان قدرة تحمل النبي عليه الصلاة والسلام بما أعطاه الله من القوة في تلك الصلاة في صلاة الكسوف؛ مما جعله يرى هذه النار بثبات ويصف ما رأى فيها
-كما سياتي معنا في صلاة الكسوف- ويصف ما رأى فيها، ومن ضمن ما رأى فيها
قال:(فَإِذَا أَكْثرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ) ثم قال: ( يَكْفُرْنَ) يعني هو لما ذكر وجود أكثر النساء في النار ذكر العلة والسبب: ( يَكْفُرْنَ)
(قِيلَ) وفي هذا سؤال (أيكْفُرْنَ بِالله؟) فالسؤال عن علة الحكم لا بأس بذلك لمعرفة العلة، لكن السؤال عن علة الحكم بحيث لا يعمل إلا إذا علم بالحكمة، فهذا مذموم.
ولذلك عائشة رضي الله عنها لما سُئلت “ما بَالُ الحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ، ولَا تَقْضِي الصَّلَاةَ” لم تقل لأن الصلاة متكررة مع أنها من الحكم والعلل، لكن ردتها إلى الشرع قالت: “كانَ يُصِيبُنَا ذلكَ، فَنُؤْمَرُ بقَضَاءِ الصَّوْمِ، ولَا نُؤْمَرُ بقَضَاءِ الصَّلَاةِ” يعني إن علمت الحكمة فبها ونعمة، ما علمت ما يتردد الإنسان فيما أمر به الشرع.
ولذلك لما كان الأصل في إطلاق لفظ الكفر على أنه الكفرُ المُخرِجُ من الملة.
(قِيلَ أيكْفُرْنَ بِالله؟ قَالَ: “يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ) دل هذا على أن كفران العشير ليس كفرًا مخرجًا عن الملة، لأن الكفر المخرج من الملة الكفر بالله، فلما قال: يكفرن العشير، أي المعاشر أو الزوج دل هذا على أنه كفر دون كفر
(يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ) سبحان الله لفظ العشير فيه حثٌّ لهن كزوجات، وللرجال كأزواج أن يحسنوا المعاشرة، ولذلك قال تعالى: { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19].
(يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ) ومما يدل على أنهن بهذا الوصف إلا ما رحم ربي، لأنه انظروا ليس كل النساء هكذا، لأنه قال: فإذا أكثر أهلها النساء، السبب كفران العشير، ولم يقل من أن الكل في النار، دل هذا على أن هناك من النساء من لا يكفرن العشير
قال: (وَيَكْفُرْنَ الإحْسَانَ) الجملة هذه تدل على أن طبيعة المرأة إلا ما رحم ربي؛ أنها تكفر الإحسان الذي يكون من الزوج كما تضمنته الجملة الأولى، والإحسان من كل رجل قريب منها، من أب، من أخ، من عم، من خال، ولذلك قال: (وَيَكْفُرْنَ الإحْسَانَ) الإحسان هو ما يحسن إليهن، ثم قال مما يدل على خطورة هذه الخصلة عند النساء فعليهن أن ينتبهن منها
(لَوْ أَحْسَنْتَ) الخطاب هذا لكل رجل؛ ليس لرجل معين
(لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ) انظروا قال الدهر هو الزمن؛ يعني لو أحسنت الدهر، الدهر ماذا؟
يعني العمر يعني لو أحسنت إليهن عمرك كله، دل هذا على أن كلمة الدهر تطلق على العمر، ويصح من باب المبالغة: لو أحسنت إليهن الدهر يعني الحياة كلها
(ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا) أي شيء يسوؤها من قول أو فعل أو ينقص منها من غير إساءة لها.
(قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيرًا قَطُّ”) وهذا يدل على ماذا؟
يدل على أن المرأة ذات شعور متأثر، فالزوج عليه أن يراعي هذا الجانب، فلا يُحَمِّلُها ما لا تحتمل
ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال:” إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ لَنْ تَسْتَقِيمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ، فَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ، وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا ؛ كَسَرْتَهَا وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا” (ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيرًا قَطُّ”) يعني نفت الإحسانَ كلَّه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٢) بابٌ: الْمَعَاصِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا يُكفِّرُ صَاحِبُهَا بارْتِكابهَا إِلا بالشِّرْكِ لِقَوْلِ النبي – صلى الله عليه وسلم -: “إِنكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّة”
وَقَوْلِ الله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]
٣٠- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبةُ، عَنْ وَاصِلٍ، عَنِ الْمَعْرُورِ، قَالَ: لَقِيتُ أَبا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنّي سَابَبْتُ رَجُلًا، فَعَيَّرتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم -: “يَا أبا ذَرٍّ، أَعيَّرتَهُ بِأُمِّهِ إِنكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ”.)
ثم ذكر رحمه الله الباب الذي يليه فقال:
(بابٌ: الْمَعَاصِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا يُكفِّرُ صَاحِبُهَا بارْتِكابهَا إِلا بالشِّرْكِ) ويصح أن تُنطَق (ولا يَكْفُر) صاحبها
ثم استدل ولذلك قيَّد رحمه الله (قال: وَلَا يُكفرُ صَاحِبُهَا) وأنا أرى أن التشديد يكون أفضل وأولى
(وَلَا يُكفِّرُ صَاحِبُهَا بارْتِكابهَا إِلا بالشِّرْكِ) حتى يُرَدّ على الخوارج
ولذلك من دقة تعبيره قال: من أمر الجاهلية، ولذلك مما يُحْذَر ويُحَذّر منه من المصطلحات التي تكون عند بعض الكُتّاب ممن يتبنى المنهج التكفيري يقول: (هذا العصر عصر جاهلية) هذا تكفير بالجملة؛ خطأ محض
ولذلك قال مستدلًا على كلامه من أن المعاصي مؤثرة على إيمان العبد، وأنها من أمور الجاهلية، وإذا كانت -سبحان الله البخاري هذا عجيب- الآن اتضح لي أنه لما ذكر الباب السابق كفر دون كفر، الكفر من وقع فيه؟
أهل الجاهلية، الذنوب كفر دون كفر، هنا أتى بما يدل أتى في هذا الباب بما يدل على أن الجاهلية جاهلية دون جاهلية، ومعلوم أن المسلم ينبذ أن يوصف بالجهل أو بالجاهلية
(لِقَوْلِ النبي – صلى الله عليه وسلم -) هذا من حسن ترتيبه لما ذكر كفر دون كفر، وكان الكفر الأكبر يقع من الكفار في جاهليتهم؛ ذكر أن الذنوب من الجاهلية، لكنها ليست جاهليةً تُخْرِج عن الملة.
(لِقَوْلِ النبي – صلى الله عليه وسلم -: “إِنكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّة”) هو قاله هو لأبي ذر رضي الله عنه لما حصل ما حصل في منازعته وفي قوله لأم ذلك الرجل -على خلاف هل هو بلال أم غيرُه-
(يا ابن السوداء) فقال هنا: (إِنكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّة”) سبحان الله لما ذكر الدليل لم يقل أنت جاهلي: فيك جاهلية، يعني فيك خصلة من خصال الجاهلية فاحذر منها.
ولما قال: (وَلَا يُكفِّرُ صَاحِبُهَا بارْتِكابهَا إِلا بالشِّرْكِ) ذكر الدليل على هذه الجملة وعلى هذه الجزئية ما هي؟
(وَقَوْلِ الله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}
ثم ذكر حديث المعرور في لقياه لأبي ذر لأنه قال: (إنك) -في التبويب- (إنك امرؤ فيك جاهلية) البخاري أحيانًا يبوب بجزئية من حديث فقال:
(حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ) البصري لكنه انتقل فصار قاضيًا في مكة، وهو من الحفاظ الثقات.
(قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبةُ) مر معنا فهو شعبة بن الحجاج البصري كان الثوري -والثوري جبل سفيان الثوري جبل- إذا أتتك تزكية والثناء من جبل على جبل، فهذا يدل على فضيلة هذين الإمامين
ولذلك كان الثوري يقول عن شعبة: (هو أميرُ المؤمنين في الحديث) يعني لولا الله ثم شعبة في العراق، ما تنقى وتصفى حديث النبي عليه الصلاة والسلام، سبحان الله ذب عن السنة، ومع هذا سبحان الله التوفيق من الله من العُبَّاد، يعني لما تنظر كيف ذلك الوقت الذي أمضى فيه في حفظ، في سفر، في تنقل لطلب العلم، في نشره، مع تعبد؛ ليس أي تعبد ما يوصف بأنه عابد إلا لأنه ذو عبادة عظيمة، التوفيق من الله عز وجل سبحان الله.
(عَنْ وَاصِلٍ) الأحدب وهو الكوفي ثقة ثبت
(عَنِ الْمَعْرُورِ) ابن سويد الكوفي ثقة
(قَالَ: لَقِيتُ أَبا ذَرٍّ) اختُلف في اسمه واسم أبيه، المشهور جندب (قَالَ: لَقِيتُ أَبا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ) هذا مكان في البادية يعني بعيد إلى حد ما عن المدينة
فيقول: (لَقِيتُ أَبا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ) الحلة ثوبان يلبسان معا، لا تسمى حلة إلا إذا كانا اثنين واشترط بعضهم أن يكون جديدًا
(قال: وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ) يعني هذه من الأمور المستغربة أن يكون السيد والغلام بهذا اللباس الواحد، وهذا إن دل يدل على أن أبا ذر رضي الله عنه أثرت فيه تلك الكلمة التي قالها عليه الصلاة والسلام: إنك امرؤ فيك جاهلية
(قال: فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنّي سَابَبْتُ رَجُلًا) طبعا هو سأله لأنه على خلاف المألوف كما سبق
(سَابَبْتُ رَجُلًا) وفي رواية: “من إخواني” كما قلت ورد لكن بإسناد منقطع من أنه بلال رضي الله عنه، والسب هو القطع
(إِنّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرتُهُ) أي عبته (بِأُمِّهِ) وما صدر من أبي ذر طبيعة البشر ليس بمعصوم
(فَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم -: “يَا أبا ذَرٍّ، أَعيَّرتَهُ بِأُمِّهِ) لأن هذا الوصف، وهذا الفعل إنما يصدر من أهل الجاهلية
فقال عليه الصلاة والسلام: (إِنكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ) هو أخطأ رضي الله عنه- ولو كان أبو ذر رضي الله عنه فيه من الكبر ما فيه ما أخبَر عن سبب ذلك الأمر، كان كتمه لأن في رواية قال له: “يا ابن السوداء”
فقال عليه الصلاة والسلام: (إِخْوَانُكُمْ) ما دام أنه مسلم فلا يُنظَر إلى درجته عند الناس، هو أخ لك {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
(إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ) أي خدمكم (وخولكم) يعني خدمكم، ولذلك لم يقل إنهم خدمكم أو عبيدكم، لأن كلمة خولكم تدل على أنهم يعني تنظروا إليهم بهذه النظرة لا بنظرة التعيير والتحقير، لتنظروا إليهم من أنهم نعمة
ولذلك ماذا قال عز وجل؟ {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً} [الزمر: 49] يعني أعطيناه نعمة يعني هم عطية ونعمة، وكيف يكونون نعمة وعطية؟
نعمة وعطية لأنهم يقومون على خدمتك هذا جانب، جانب آخر من أنكم لم تكونوا العكس، فلم تكونوا عبيدًا
(إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ) انظروا لتتمة العبارة (جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ) هذا دليل على أنهم عطية من الله عز وجل، وهذا يدل على عظم النبي عليه الصلاة والسلام وعلى حرصه على إسداء المعروف، وإفشاء الرحمة
قال: (فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ) لأن ما كان تحت اليد يدل على السيطرة تحت يده، لأن ما كان من تحت فهو متمَكَّن منه، وهو مالك له
(فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ) لماذا ذكر الطعام واللباس؟
لأن في اللباس سِترًا للظاهر، ولأن في الطعام سترًا للباطن، وهذا أهم ما يحتاجُ إليه الإنسان من الضروريات، اللباس والطعام، وهو عليه الصلاة والسلام قال: (فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ) لكن أراد أبو ذر رضي الله عنه أن يبلغ الكمال الذي يريده لنفسه أن يكون لهذا الرقيق تكفيرًا لما قاله.
ثم لما كانوا أصحاب خدمة قال: (وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ) الكَلَفَة هي المشقة (مَا يَغْلِبُهُمْ) أي ما يتعبهم، لأن الغَلَبَة كما سلف، قد تكون الغلبة حسيًا ومعنويًا، حسيًا من حيث الأشخاص، معنويًا من حيث الصفات كما قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كما مضى معنا قال: (فغلبني ما أعلم منه)
(فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ)
فذكر المصنف رحمه الله هذا الحديث من أجل جملة إنك امرؤ فيك جاهلية. يعني: إذا كان هذا في حق العبد المملوك الذي تملكه، فما ظنك بالحر الذي يأتي إليك لخدمتك من داخل البلاد أو من خارجها! فلا يُكَلّفون ما لا يُطيقون، وعلى من يأتي بهم أن يحسن إليهم بالقول وبالفعل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بابٌ: ({وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} فَسَمَّاهُمُ الْمُؤْمِنِينَ
٣١ – حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ: حَدَّثَنَا أيُّوبُ، وَيُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: ذَهَبْتُ لأنصُرَ هَذَا الرَّجُلَ، فَلَقِيَني أبو بَكْرَةَ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: أَنْصُرُ هَذَا الرَّجُلَ. قَالَ: ارْجِعْ فَإِنّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله – صلى الله عليه وسلم – يَقولُ: “إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ في النَّارِ”. قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: “إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ”.)
ثم قال رحمه الله:
(باب {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} فَسَمَّاهُمُ الْمُؤْمِنِينَ) هنا أراد رحمه الله أن يبين من أن المسلم لا يخرج من الإسلام إلا بالكفر الأكبر، أما ما كان من ذنوب ولو كانت عظامًا، فإنه لا يكفر، فلا يخرج من الملة؛ خلافًا للخوارج.
فقال رحمه الله: (فَسَمَّاهُمُ الْمُؤْمِنِينَ) يعني مع الاقتتال، والاقتتال من كبائر الذنوب بين المؤمنين، ومع ذلك سماهم الله عز وجل بالمؤمنين، وهذا نظيره فيما يتعلق بالقِصاص في القتل قال:
{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} [البقرة: 178] وصفه بأنه أخٌ له.
ثم ذكر حديث الأحنف بن قيس
(قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ) البصري من الثقات
(حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ) وهو بصري من الثقات الفقهاء الأثبات، وقد أصيبَ بالعمى في آخر حياته، لكن سبحان الله لم يمنعه العمى من العلم ونَشْرِه.
(حَدَّثَنَا أيُّوبُ) وهو أيوب بن أبي تميمة السختياني من كبار الفقهاء العُبّاد -نسأل الله يرحمنا-
(وَيُونُسُ) وهو يونس بن عبيد البصري أيضًا من الثقات الأثبات
(عَنِ الْحَسَنِ) وهو الحسن بن أبي الحسن البصري معروف الحسن البصري من الثقات، من الفقهاء
(عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ) البصري هو رأى النبي عليه الصلاة والسلام قبل أن يسلم، ولذلك يعد مخضرمًا، وبه يضرب المثل في الحِلم، فيكون هذا السند الرجال فيه كلهم بصريون، وأيضًا فيه رواية تابعي عن تابعي عن تابعي أيوب عن الحسن عن الأحنف بن قيس.
(قَالَ:) الأحنف بن قيس (ذَهَبْتُ) ليس وحده أراد بقومه
(ذَهَبْتُ لأنصُرَ هَذَا الرَّجُلَ) هذا الرجل هو علي بن أبي طالب كما جاء في رواية مسلم؛ (لأنصر ابن عم الرسول عليه الصلاة والسلام) وأراد بذلك ما وقع في وقعة الجمل ما بين علي وبين عائشة ومن معها رضي الله عنهم أجمعين، ومعتقد أهل السنة والجماعة ألا يُخاض فيما كان بينهم، فهم مجتهدون المصيب له أجران، والمخطئ له أجر واحد.
(قال: ذَهَبْتُ لأنصُرَ هَذَا الرَّجُلَ فَلَقِيَني أبو بَكْرَةَ) وهو نفيع بن الحارث
(فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: أَنْصُرُ هَذَا الرَّجُلَ. قَالَ) أبو بكرة له: (ارْجِعْ) ثم أعطاه الدليل
(فَإِنّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله – صلى الله عليه وسلم – يَقولُ: “إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ في النَّارِ”) هنا موضع الشاهد من أنه أطلق عليهما وصف الإسلام كما في الآية
(قال: “إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ في النَّارِ”)
هو أبو بكرة ممن اعتزل الفتنة، فهو رضي الله عنه أتى بالحديث على وجه العموم، ليشمل يعني لم يَعِب -هو أبو بكرة- عليًا، ولا عائشة، وإنما أراد أن يذكر بأن هناك حديثًا يشمل كلَّ مسلم قاتل أخاه المسلم في هذا الأمر أو في غيره
(قال: “إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا) وذِكْر السيف لأنه هو المشهور، لكن لو صار في مثل هذا الزمن بغير السيف يصدق عليه الحكم
(قال: فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ في النَّارِ”) لكن ليس على وجه التأبيد لا
(قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: “إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا) الحرص يدل على الرغبة، فكونه يأتي بسيفه أراد ماذا؟
أراد أن يقتل أخاه المسلم، لكن ما الذي جرى من أن ذلك المسلم تغلب عليه فقتله، وهذا يدل على أن العزم مع أخذ الأسباب، العزم على الذنب مع أخذ الأسباب لوقوع الفعل من أنه يأثم صاحبه
(“إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ”.) وأيضًا كلمة (صاحبه) تدل على أنه ما زال مسلمًا، وأيضًا ليس من اللائق أن يقتل الصاحب صاحبَه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٣)بَابٌ: ظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ
٣٢ – حَدَّثَنَا أبو الْوَليدِ، قَالَ: حَدَّثَنا شُعْبَةُ؛ ح: قَالَ: وَحَدَّثَني بِشْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: لمَّا نَزَلَتْ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: ٨٢]. قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: أيُّنا لَمْ يَظْلِمْ؟ فَأنزَلَ اللهُ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: ١٣])
ثم ذكر رحمه الله فقال: (بَابٌ: ظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ) وهذا كما سلف يدل على استيعاب البخاري رحمه الله لفهم الأحاديث، وهذا يحصل من تبوبيه ومن ترتيبه، يعني لما ذكر الأعمال التي تزيد الإيمان أو أنها من الإيمان، ذكر بعدها الذنوب التي هي كفر دون كفر، ثم ذكر من أن الجاهلية جاهلية دون جاهلية؛ ذكر أيضًا الظلم، هناك ظلم دون ظلم (بَابٌ: ظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ)
ثم ذكر حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
(قال: حَدَّثَنَا أبو الْوَليدِ) وهو أبو الوليد الطيالسي البصري ثقة ثبت
(قَالَ: حَدَّثَنا شُعْبَةُ) مر معنا كثيرًا شعبة بن الحجاج البصري
(ح) يعني الانتقال من سند إلى سند آخر
(قال: وَحَدَّثَني بِشْرٌ) وهو بشر بن خالد العسكري البصري ثقة
(قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ) وهو محمد بن جعفر ربيب شعبة؛ يعني هو ابن زوجة شعبة أيضًا ثقة
(عَنْ شُعْبَةَ) شعبة بن الحجاج
(عَنْ سُلَيْمَانَ) بن مِهران وهو الأعمش البصري ثقة وحافظ يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء، ولا بيضاء في سوداء؛ يعني من حين ما يسمع يحفظ مع هذا كان عالم بالقراءات
(عَنْ إِبْرَاهِيمَ) إبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي فقيه معروف عند الفقهاء (إبراهيم النخعي)
(عَنْ عَلْقَمَةَ) علقمة بن قيس أيضًا نخعي ثقة ثبت فقيه وعابد من أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه
(عَنْ عَبْدِ الله) وهو عبد الله بن مسعود
قَالَ: (لمَّا نَزَلَتْ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا} ) أي لم يخالطوا
({إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: ٨٢].) يعني بشرك
(قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: أيُّنا لَمْ يَظْلِمْ؟) هذا يدل على ماذا؟
قوله: (لم)أداة نفي، ( بظلم )نكرة والنكرة في سياق النفي تعم، ولذلك هذا دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم فهموا أن النكرة في سياق النفي تعم
فقالوا: (أيُّنا لَمْ يَظْلِمْ؟) يعني ما أحد يسلم من الظلم، ظلم لنفسه، ظلم لزوجته، ظلم لقريبه، لكن الآية المقصود منها الظلم الأكبر، ولذلك تبويب البخاري ظلم دون ظلم
(فأنزل الله عز وجل هذه الآية {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: ١٣]) وهذا فيه فائدة عظيمة جليلة، ينبغي لمن فسر كلام الله عز وجل أن يحرص عليها، تفسير القرآن بالقرآن
قال: ({إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: ١٣]) فأعظم الظلم هو الشرك بالله عز وجل، لكن في رواية يعني ظاهرها أن هذه الآية معلومة لديهم، فكيف يقول: (فأنزل)؟
يحتمل أن يكون نزولُها وقع في الحال، فتلاها عليهم النبي عليه الصلاة والسلام.