شرح كتاب ( بلوغ المرام ) ـ الدرس العاشر ـ حديث ( 12 )
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــ
( أما بعد : فيا عباد الله )
فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
في باب ( المياه )
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال :
” جاء أعرابيٌ فبال في طائفة المسجد ، فزجره الناس ، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما قضى بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بِذَنُوبٍ من ماء فَأُهْريق عليه ” )
متفق عليه .
( من الفوائد )
أن هذا الأعرابي ذكر الشرُّاح أنه :
[ ذو الخويصرة اليماني ]
كان من سكان الصحراء ، فجهل حرمة وعظمة المسجد ، فصنع ما صنع .
&&&&&&&
( ومن الفوائد )
أن أهل اللغة يقولون :
[ إن الأعرابي هو من سكن البادية ]
سواء كان عربيا أو أعجميا ، فمن سكن البادية وإن كان أصله من العجم فإنه يطلق عليه أنه ” أعرابي ”
( ومن الفوائد )
أن مما يُميَز بين المفرد والجمع – كما قال أهل اللغة [ ياء النسب ]
فـ ( أعراب ) إذا نسبناها أصبحت مفردا ( أعرابي )
# و ( النسبة ) تكون ( للمفرد ) لا للجمع .
فلما لم يكن هناك مفرد لكلمة ( أعراب ) وضعت الياء في الجمع .
لأن اللغة العربية ثرية بمثل هذه الفرائد ، فتفرق بين الجمع والمفرد بـ [ ياء النسب ] كما هنا .
كما قالوا أيضا :
[ يفرق بين الجمع ومفرده بالتاء ]
مثال : ” تمر ” جمع ، مفردها ” تمرة .
بقر – بقرة
________
( ومن الفوائد )
أن البُعد عن المدن وعن حِلَق الذكر يجعل الإنسان ” جافيا غليظا جاهلا “
فما صنع هذا الرجل صنيعه إلا لأنه كان بعيدا عن تعلم الدين .
ولذلك كان من غرائب هذا الرجل – كما جاء في الروايات الأخرى – أنه قال :
( اللهم ارحمني وارحم محمداً ولا ترحم معنا أحدا )
فقال صلى الله عليه وسلم :
( لقد تحجَّرت واسعا )
أي : منعت واسعا ، لأن رحمة الله عز وجل واسعة .
لأن ( الحَجْر ) معناه ( المنع )
” حُجِر على فلان ” يعني مُنع من التصرف في ماله .
@@@@@@@@@
( ومن الفوائد )
أن ” بول الآدمي ” نجس ، وهو من النجاسات المتوسطة ، إلا إذا كان ” بول الغلام الرضيع الذي لم يأكل الطعام “
فإنه بوله نجس ، ولكن ” نجاسته مخففة ” يرش عليه بالماء .
########
( ومن الفوائد )
أن المتعاهد عليه :
” أن البول لا يلزم أن يكون الإنسان بعيدا عن الآخرين “
ولذلك لم ينكر عليه الصلاة والسلام في قربه ، وإنما أنكر عليه لفعله هذا في المسجد ، والنبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين ( بال وقد أمر حذيفة أن يقف عند عقبه )
ولكن : الأفضل – كما جاءت بذلك الأحاديث – أن يبتعد أثناء قضاء الحاجة ، سواء كان بولا أم غائطاً .
( ومن الفوائد )
أن ( الطائفة ) هي القطعة من الشيء “
إذ بال هذا الرجل في جزء من المسجد النبوي .
وإن كان الأصل في معنى ( الطائفة ) “ الدوران ” أي ما استدار .
( ومن الفوائد )
أن ( الطائفة ) أضيفت إلى المسجد
والإضافة هنا بمعنى ( الظرفية ) أي ” بال في طائفة في المسجد “
لأن الظرفية تأتي لمعاني ثلاثة :
المعنى الأول :
أن تكون بمعنى ( في ) وذلك :
[ أن يكون المضاف إليه ظرفا للمضاف ]
المعنى الثاني :
أن تكون بمعنى ( مِنْ )
[ إذا كان المضاف إليه جنسا للمضاف ]
تقول :
” اشتريت خاتم ذهبٍ ”
أي :” اشتريت خاتما من ذهب “
المعنى الثالث :
أن تكو ن بمعنى ( اللام ) فيما سوى هذين المذكورين .
تقول :
” هذا قلم زيد “
أي : ” قلمٌ لزيد ”
*********
( ومن الفوائد )
أن ( أل ) ترد في اللغة لمعاني كثيرة ، وهنا ألحقت بالمسجد ، فتكون :
( أل للعهد الذهني )
لما ذكر أنس رضي الله عنه هذا المسجد ، فالذي يعلق بالذهن ( المسجد النبوي )
$$$$$$$$
( ومن الفوائد )
أن بعض أهل اللغة يقول :
هناك لغة في المسجد ، وذلك أن ” يحذف الجيم ويوضع الياء “
وكان أجدادنا قديما ونسمعهم يقولون:
” اذهب إلى المسيد “
@@@@@@@
( ومن الفوائد )
أن المنكر يجب أن يُنكر ، كما فعل الصحابة رضي الله عنهم ، شريطة :
” ألا يترتب على إنكار المنكر منكر أكبر ، أو منكرات أكثر “
ولذلك ما زجرهم النبي صلى الله عليه وسلم من أجل إنكار المنكر ، وإنما لأسلوبهم في إنكار المنكر ، ولذا قال في الرواية الأخرى :
( إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين )
““““
( ومن الفوائد )
أن هذا الحديث يدل على القاعدة الشرعية :
[ترتكب أدنى المفسدتين درءا لأعلاهما ]
أو كما عبَّر بعضهم :
[ يختار أهون الشَّرين ]
فإن بول هذا الرجل في المسجد منكر ومفسدة وضرر –ولا شك في ذلك – ولكن لو زجروه وقام لترتب على ذلك منكرات كُثر ، من بينها :
أن هذا الرجل يُبغض الإسلام ، لأنه جاهل .
( ومن الفوائد )
بيان فضل الصحابة رضي الله عنهم ، إذ نقلوا لنا ما وقع في عصره عليه الصلاة والسلام ، حتى تستفيد منه الأمة ، ومن هؤلاء النقلة ” أنس رضي الله عنه ” إذ خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يقرب من عشر سنين .
( ومن الفوائد )
أن مما يتسامح فيه في ذلك العصر :
” أن البول إذا كان على مقرب من الناس فلا يستحيى منه “
بينما إذا كان ” غائطاً ” فإن السنة قد جاءت بالبعد .
أما إذا كان بولاً ، فقد جاءت السنة بالتسامح في ذلك ، فقد بال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه
( بال عند سباطة قوم قائما ، وأمر حذيفة أن يقف عند عقبه )
( ومن الفوائد )
أن الواجب على المسلمين أن يحترموا مساجد الله ، ومن احترامها ألا يلقى القذر فيها ، ومن أعظم القذر أن يبال أو أن يتغوط فيها .
وهل له أن يتوضأ فيها أو يغتسل ؟
لأنه في السابق لم تكن هناك دورات مياه ملتصقة بالمساجد كما هو الحال ؟
بعض العلماء : كره ذلك .
وبعضا العلماء : لم يكره .
والصواب /
لأن هناك بعض البلدان يمكن أن يتحقق فيها وصف المساجد القديمة ، فإذا لم يكن هناك أذية على المسجد ولا على الآخرين ، فلا بأس بذلك .
( ومن الفوائد )
بيان فضل الخُلطة ، فإن الخلطة أفضل من العزلة ، لأن الذي يخالط الناس يستفيد منهم ، فهذا الأعرابي وقع منه هذا الذنب العظيم ، لأنه كان بعيدا عن مصادر العلم والتعلم .
والعزلة لا تحمد إلا إذا خشي الإنسان على دينه ، إذا كثرت الفتن ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عند البخاري :
( يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن )
( ومن الفوائد )
أن الصحابة رضي الله عنهم زجروه ،و حُق لهم أن يزجروه ، فإن ما فعله منكر ، ولذا لم ينكر عليهم عليه الصلاة والسلام في إنكارهم ، وإنما أنكر عليهم أسلوبهم في الإنكار .
( ومن الفوائد )
أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطي حسن القول والفعل والتصرف ، فواجب على الأمة ولاسيما الدعاة أن يتأسوا به – صلوات ربي وسلامه عليه – فلا يهولنهم عظم المنكر ، لأن المنكر إذا استعظموه واستهالهم حُرموا حسن التصرف ، لأن المنكر قد وقع بقدر الله عز وجل ، فلا نرضى به من حيث فعل هذا الإنسان ، لكن علينا أن نعرف الطريقة المناسبة في إنكاره ، بقطع النظر على زوال هذا المنكر من عدمه ، فقد لا يزول ، لكن الواجب عليكم أن تقوم بالواجب ، قال تعالى :
{ وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }الأعراف164
لكي تُعذروا أمام رب العالمين أو لعل هؤلاء ينفع فيهم النصح في المستقبل فيتقون الله عز وجل .
( ومن الفوائد )
أن المنكر إذا أنكر فترتب عليه منكر أكبر فإن هذا الإنكار محرم ، لأن الشريعة جاءت بتقليل المفاسد ، ولذلك لو أن هذا الرجل انتُهر فقام انعدم بوله في المسجد ، لكن يترتب عليه مفاسد ومنكرات من بينها :
بُعد هذا الإنسان عن الدين – ولا شك أن تأليف الناس وتحبيبهم إلى دين الله عز وجل من أعظم الواجبات –
فكونه يقع في منكر أفضل من أن ينسلخ من الدين البتة .
ومن المفاسد :
أن هذا الرجل لو انتهر عند بوله ، لقام فلوث المسجد وانتشر البول في أكثر من موضع ، فإنه لما كان في موضع واحد سيكون في مواضع متعددة .
ومن المفاسد :
أن تتلوث ثياب وسراويل هذا الرجل .
ومن المفاسد :
أنه قد يصاب بمرض في المسالك البولية .
( ومن الفوائد )
أن هذا الحديث وأمثاله قد استوحى منه العلماء قواعد ، منها :
قاعدة : [ يختار أهون الشرين ]
وقاعدة [ ترتكب أخف المفسدتين دفعا لأعظمهما ]
وقاعدة [ درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ]
وقاعدة [ سدُّ الذرائع ]
( ومن الفوائد )
أن صنيع هذا الرجل يدل على جهله العميق ، لأنه لما أتى – كما في بعض الروايات – ( أتى فصلى ثم قال ” اللهم ارحمني وارحم محمدا ولا ترحم معنا أحدا ، فقال صلى الله عليه وسلم :
” لقد تحجرت واسعا ” )
ثم حصل منه البول .
مع أن بعض العلماء : يرى أن هذا الدعاء جرى بعد بوله في المسجد .
لكن ما أعرفه مما أطلعت عليه في السنن أنه ( دخل المسجد فصلى ثم وقع منه البول )
( ومن الفوائد )
أنه كلمة ( قضى ) لها معاني متعددة ، من بينها :
( الفراغ من الشيء ) كما هنا :
( فلما قضى بوله )
يعني فرغ منه .
( ومن الفوائد )
أن الأرض إذا وقعت عليها النجاسة يُصب عليها الماء ، فتطهير النجاسة سواء كانت هذه النجاسة نجاسة مغلظة وهي ” نجاسة الكلب ” أو نجاسة مخففة وهي ” بول الغلام الرضيع الذي لم يأكل الطعام “
أو نجاسة متوسطة وهي ” ما عدا هذين النوعين “
فإن تطهير الأرض وما يلتصق بها مما يتبعها من أحجار وصخور يكون بصب الماء .
مع أن بعض العلماء : ” أخرج الصخور ، بل أخرج الأرض الصلبة “
قال : إن الأرض الصلبة لا ينفع فيها صب الماء” فلابد أن تحفر ، فيكو ن أرض مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضا رخوة تشرب الماء .
والصواب / العموم ، فلا فرق بين الصلبة وبين ما لم تكن كذلك ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ” لم يفرق ” .
هذا إذا كانت النجاسة ليست ذات جرم ، أما إذا كانت ذات جرم فلابد أن يزال الجرم ، فلو كان غائطا فلابد من إزالة هذا الغائط ثم صب الماء عليها .
( ومن الفوائد )
أن هناك رواية في السنن :
( أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تحفر الأرض فيؤخذ ما عليها من التراب ويلقى ثم يصب الماء )
ولكنها رواية ” ضعيفة “
ولو صحت لوجب المصير إليها ، لكنها ضعيفة من حيث السند ومن حيث المتن ، لأن فيها نكارة ، ما وجه النكارة ؟
” أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو أمر بحفر الأرض وإلقاء ما بيل عليها لما كان في صب الماء فائدة “
( ومن الفوائد )
أن بعض العلماء : يرى أن بول الآدمي لو تُرك فجف وزال أثر النجاسة بريح أو شمس فإن الموضع يطهر .
واستدلوا على ذلك :
بحديث ابن عمر رضي الله عنهما كما عند البخاري :
( أن الكلاب كانت تقبل وتدبر وتبول في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) وفي رواية عند غير البخاري :
( تبول ) كما في السنن .
( ولم يكونوا يرشون شيئا من ذلك )
وهذا هو الصحيح .
وقد استدل بعض هؤلاء العلماء : بحديث :
( زكاة الأرض يُبْسُها )
لكنه حديث موقوف ، ليس مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فنخص من هذا :
أن الأرض تُطهر بوسيلتين :
$إما بجفافها حتى يزول أثرها بالشمس أو بالريح .
$وإما بصب الماء عليها .
وإنما صبَّ النبي صلى الله عليه وسلم الماء عليها لأنه أبلغ وأسرع في التطهير من غيره .
ولذا يرى علماء آخرون : الأخذ بهذا الحديث فقط ، وأن النجاسة لا تطهر إلا بالغسل “
( ومن الفوائد )
أن ( الذَنوب ) هو الدلو المملوء بالماء .
فإذا لم يكن فيه ماء فلا يسمى ( ذَنُوبا )
فإن كان خاليا من الماء يقال ( هذا دلوٌ )
( ومن الفوائد )
أن بعض الروايات أتت بقول النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة رضي الله عنهم
( إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين )
من باب حثهم على التلطف في دعوة الناس .
( ومن الفوائد )
أن قوله عليه الصلاة و السلام
( لا تزرموه )
أي لا تقطعوا عليه بوله .
( ومن الفوائد )
أن غُسالة النجاسة طاهرة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بصب الماء ، فإن الماء سيختلط بهذه النجاسة .
ومن ثمَّ فلو أن الإنسان غسل ثوبه الذي وقعت عليه النجاسة وطهر وبقي الماء يتقاطر فإن هذه النجاسة لا تدخل ضمن النجاسة .
( ومن الفوائد )
أن هذا الحديث ( متفق عليه )
والمقصود اتفق عليه الشيخان ” البخاري ومسلم “
ولو قال قائل : ما الفرق بين ( رواه الشيخان ) أو ( رواه البخاري ومسلم )
وبين حديث ( متفق عليه ) ؟
بعض العلماء : لا يُفَرِق .
ولكن الأدق في التعريف أن يقال :
إذا قيل حديث ( متفق عليه ) بمعنى أن الشيخين اتفقا عليه من حديث صحابي واحد ، فلم يخرجه البخاري ، ومسلم عن صحابي آخر ، اتفقا رحمهما الله على إخراج الحديث من طريق صحابي واحد ، كما هنا ، فيكون البخاري أخرجه من حديث أنس ومسلم كذلك .
__________