شرح كتاب التوحيد
( 18 )
باب قول الله تعالى :
{ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [القصص56]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا هو رابط هذا الدرس على القناة العلمية الصوتية للشيخ :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مناسبة ذكر هذا الباب مناسبة ظاهرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم مع علو منزلته لا يملك هداية أحد، ولا شك أن الهداية فيها منفعة ينتفع بها المهتدي يوم القيامة ، بل وينتفع بها حتى في دنياه ، فإذا كان صلى الله عليه وسلم لا يملك الهداية حتى لأقرب الناس إليه وهو عمه فمن باب أولى من هو دونه، ففيه قطع لوسائل الشرك.
من الفوائد تحت هذه الآية:
1 ـ فيه الرد على من يحتج بالقدر في عدم الهداية فيقال له تَعَرَّضْ لنفحات الله عز وجل ولذا قال في آخر الآية ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [القصص56] بصيغة اسم الفاعل ﴿ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ فدلَّ على أن هناك عملاً وكسباً من العبد ذاته فيجب عليه أن يقوم به.
فالهداية المنفية هنا عنه صلى الله عليه وسلم هي هداية التوفيق والإلهام، أما المثبتة له في قوله تعالى:﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى52] فهي هداية البيان والإرشاد.
3 ـ أن الإحسان إلى الكفار غير المحاربين مندوب دون أن تكون هناك محبة عالقة في القلب لهؤلاء، لقوله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ8﴾ [الممتحنة8]
4ـ أن هذه الآية كما سيأتي نزلت في عمه أبي طالب فقوله:﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص56] فكلمة ﴿مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾ لا تدل على أنه كان صلى الله عليه وسلم يُحب عمه أبا طالب لأن هذا يخالف قوله:﴿لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ [المجادلة22] وإنما المحبة هنا هي المحبة الطبيعية ، أو أنها بمعنى من أحببت هدايته ، فيكون صلى الله عليه وسلم إما محباً لهدايته أو محباً له لقرابته منه والنبي صلى الله عليه وسلم قد أحب أن يهتدي قومه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي الصحيح، عن ابن المسيِّب عن أبيه قال:
(«لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وعِنْدَهُ َعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى أُمَيَّةَ وأبو جهل، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَا عَمِّ قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. كَلِمَةً أُحاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَقَالاَ له أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِب؟ فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأعادا، فكان آخر ما قال هو على ملة عبد المطلب وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل «مَا كَانَ لِلنَّبِيّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ» وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَبِي طَالِبٍ «إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ َ »﴾ [القصص56]
من الفوائد :
1 ـ أن التوبة تقبل من العبد ما لم يُغَرْغِر، فإذا عاين الموت فإنها لا تقبل منه.
وهنا إشكال: وهو أن أبا طالب أصبح في حالة غرغرة بدليل أنه قال: «لما حضرت أبا طالب الوفاة» فماذا يقال؟
الجواب: قد يقال:
إن أبا طالب لم يصل إلى حدِّ الغرغرة، فإن قوله «لما حضرت أبا طالب الوفاة» يعني علامات الوفاة، وإن كان لايغرغر فلا إشكال.
وإن كان في حال الغرغرة فيكون معنى «حضرت أبا طالب الوفاة» يعني أنه غرغر وعاين الموت كقوله تعالى : ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ [النساء18]
فيكون الجواب عن هذه الآية : أن أبا طالب مستثنى من هذه الآية، وأبو طالب كما أنه مستثنى في الشفاعة من أهل الشرك فكذلك مستثنى هنا.
4ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمه: «قل لا إله إلا الله»
وهذا لا يتنافى مع قوله صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم:
«لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» وذلك لأن المسلم المحتضر يُلَقَّن هذه الشهادة ولا يؤمر بها، وذلك حتى لا ينزجر فلربما تكلم بكلمة غير هذه الكلمة بينما الكافر يؤمر بها لأنه لو تضجر فإنه باقٍ على كفره.
5 ـ أن أبا طالب قد مات على الكفر لا كما تزعمه الروافض من أنه مات على الإسلام.
6 ـ أن تعظيم الأكابر الذين على الضلال فيه خطر عظيم، فإن أبا طالب لما عظَّم أسلافه وخشي أن يدع ملة أبيه عبد المطلب بقي على كفره، أما إذا كان تعظيم الأكابر ممن كان على هدى من أسلافنا فإنه لا ضير في ذلك إذا عُظِمُوا وفق الضوابط الشرعية
7 ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لأستغفرن لك ما لم أُنه» وهذا لا يعارض النصوص التي جاءت بتحريم الاستغفار للمشركين، فالجواب عن هذا الحديث : أن استغفاره صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب قبل النهي ، لأدلة منها :
أولا: أن أبا طالب توفي بمكة والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال في غزوة أحد : «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» فدل على أن استغفاره لعمه في هذا الحديث قبل أن ينهى إذ لو كان منهياً لما استغفر لقومه في غزوة أحد.
ثانيا: أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر للمنافقين في المدينة فقال تعالى: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة80].
ثالثا: مما يدل على أن النهي عن الاستغفار للكفار متأخرا ، ما جاء عند مسلم قال صلى الله عليه وسلم: «اسْتَأْذَنْتُ رَبِّى أَنْ أَسْتَغْفِرَ لأمي فَلَمْ يَأْذَنْ لي وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لي» وكانت زيارته صلى الله عليه وسلم لقبرها بعد هجرته من مكة إلى المدينة.
فخلاصة ما تقدم أن ما جاء في استغفاره صلى الله عليه وسلم إنما كان قبل النهي، وأما قوله في الحديث «فأنزل الله ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ [التوبة113] وهذه الآية مدنية.
فالجواب عنها :
أن الآية لم تنزل مقرونة بهذه الحادثة بل نزلت متأخرة وهي لم تنزل إلا مرة واحدة لأسباب تقدمت فإن هذه الآية ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ [التوبة113]، نزلت بعدما حصلت هذه الأسباب منها: استغفاره لعمه أبي طالب، ثم استغفاره لقومه في غزوة أحد، ثم استغفاره للمنافقين ، ثم طلبه أن يستغفر لأمه.
ومن الدلائل على أنها لم تنزل الآية في وقت حادثة أبي طالب أنه قال في آخر الحديث «وأنزل في أبي طالب : ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [القصص56]».
8 ـ أن الشفاعة كما سلف نوعان:
أولا: مثبتة.
ثانيا: منفية.
فكذلك الهداية منها ما هو مثبت للخلق وهي هداية التبيين والإرشاد، ومنها ما هو منفي وهي هداية التوفيق والإلهام.
9 ـ أن عبد الله بن أبي أمية قد أسلم.
10 ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا عم: قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله» فكلمة «أحاج لك بها» تفسرها رواية «أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ»
11 ـ أن على المسلم ألا ينسب الشر إلى نفسه إذا ذكر شراً وقع من غيره، ولذلك أبو طالب في حقيقة الأمر ماذا قال؟ قال «أنا على ملة عبد المطلب» لكن الرواة قالوا «هو على ملة عبد المطلب» فلم ينسبوا هذا الشر إلى أنفسهم، وهذا كثير من بينها قوله صلى الله عليه وسلم عند مسلم:
«إذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِى يَقُولُ يَا وَيْلَهُ أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِىَ النَّارُ» ولم يقل:يا ويلي».
12 ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين كما قال تعالى:﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾
حتى كما قال بعض العلماء هو رحمة على الكافر، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم قتل هؤلاء الكفار وفي قتله لهم رحمة إذ لو بقوا لزادهم العذاب، إن أسلموا فهو رحمة واضحة، وإن لم يسلموا وقُتِلُوا فإنهم لم يَزدد عليهم العذاب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ