شرح كتاب التوحيد
( 41 )
باب قول الله تعالى :
{ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ } [النحل 83]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا هو رابط هذا الدرس على القناة العلمية الصوتية للشيخ :
https://www.youtube.com/watch?v=z1xu9s-KdQA&list=PLLqPd_eY0IBM6kO0TRJOVvrp3H7mmLbbz&index=42
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من الفوائد:
1 ـ أن المؤلف رحمه الله أراد بهذا الباب أن يذكر حكم من نسب النعمة إلى السبب مع نسيان الله عز وجل ، فمن نسب النعمة إلى السبب ونسي الله فإنه كافر، وبعد البحث في كلام المتقدمين والمتأخرين، لم أجد كلاما حول هذه المسألة، لا في شروحات الأحاديث ولا في بعض كتب العقيدة، اللهم إلا عند بعض المعاصرين ، منهم الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ، وقد توسع رحمه الله في هذا الباب، ومن هنا نخلص أنه لا يجوز أن تنسب النعمة إلى السبب، كأن يقول إنسان: لولا فلان لغرقت في البحر، ولو كان سببًا حقيقيًا؛ وذلك لأن النصوص الشرعية والآثار عن الصحابة رضي الله عنهم نهت عن ذلك.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم عن عمه أبي طالب «وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّار»
فهذا الحديث يقال فيه: إذا جاء السبب الحقيقي القطعي من قِبل الشرع أنه سبب قطعي فهنا يجوز، لأننا علمنا من قِبل الشرع بالدليل القطعي أن هذا هو السبب.
لكن لو قلتَ :« لولا الشيخ لما فهمت الدرس» فهذا سبب حقيقي، لكن ليس قطعياً، فإنك لو فهمت ما فهم غيرك، فمع كون هذا السبب سبباً حقيقياً فليس عندنا القطع والجزم من أنه هو السبب؛ ولذلك قال السلف: «السبب يحتاج إلى أسباب أخرى»، فبذر الحب في الأرض سبب، لكن يحتاج إلى أسباب أخرى مثل الهواء والشمس والسقي والمراعاة ونحو ذلك، ولو انفتح الباب لما عرفنا، لأن من يقول بالجواز يقول إن كان يعتقد أن الله هو الذي أتى بهذا الشيء وهذا سبب حقيقي فلا بأس، وهنا ينفتح الباب.
فلا يرد علينا حديث: «وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّار» لأنه صلى الله عليه وسلم علم من قِبل الله عز وجل أنه سبب في شفاعته صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب، فهو سبب حقيقي قطعي.
لو قال قائل: قوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين:
«لَوْلَا أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ» فهذا سبب حقيقي قطعي من قِبل الشرع، أنه ما منعه من التحلل إلا سوقه للهدى صلى الله عليه وسلم.
لو قال قائل: قول عمر رضي الله عنه لحفصة ل كما عند مسلم «وَلَوْلاَ أَنَا لَطَلَّقَكِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم »
فعمر رضي الله عنه علم أنه سبب حقيقي قطعي من قِبل النبي صلى الله عليه وسلم أنه سبب، ولذلك نسب الأمر إليه، قال:
«دَخَلْتُ فَإِذَا أَنَا بِرَبَاحٍ غُلاَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدًا عَلَى أُسْكُفَّةِ الْمَشْرُبَةِ مُدَلٍّ رِجْلَيْهِ عَلَى نَقِيرٍ مِنْ خَشَبٍ وَهُوَ جِذْعٌ يَرْقَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَنْحَدِرُ فَنَادَيْتُ يَا رَبَاحُ اسْتَأْذِنْ لِي عِنْدَكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَنَظَرَ رَبَاحٌ إِلَى الْغُرْفَةِ ثُمَّ نَظَرَ إِلَىَّ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا ثُمَّ قُلْتُ يَا رَبَاحُ اسْتَأْذِنْ لِي عِنْدَكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم فَنَظَرَ رَبَاحٌ إِلَى الْغُرْفَةِ ثُمَّ نَظَرَ إِلَىَّ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا ثُمَّ رَفَعْتُ صَوْتِي فَقُلْتُ يَا رَبَاحُ اسْتَأْذِنْ لِي عِنْدَكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ظَنَّ أَنِّى جِئْتُ مِنْ أَجْلِ حَفْصَةَ وَاللَّهِ لَئِنْ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِضَرْبِ عُنُقِهَا لأَضْرِبَنَّ عُنُقَهَا» إلى أن قال «فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَطَلَّقْتَهُنَّ قَالَ- لاَ – قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَالْمُسْلِمُونَ يَنْكُتُونَ بِالْحَصَى يَقُولُونَ طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ أَفَأَنْزِلُ فَأُخْبِرَهُمْ أَنَّكَ لَمْ تُطَلِّقْهُنَّ قَالَ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ».
هنا علم رضي الله عنه بدلالة الحال والمقال أنه سبب.
وأما قول بعض الصحابة:«لَوْلاَ آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُكُمْ» نفس الحكم السابق، لأن الآية سبب حقيقي قطعي من قِبل الشرع.
وكذلك قول عمر رضي الله عنه إن صح: «لَوْلاَ هَذِهِ الْبُيُوعُ صِرْتُمْ عَالَةً عَلَى النَّاسِ»
هذا سبب حقيقي قطعي من قبل الشرع، لأنه بالبيع والشراء يحصل الغنى والاستعفاف، فلو استأثر كل إنسان بما لديه لهلك الناس، والنصوص تدل على ذلك.
لو قال قائل: قال أبو داود الطيالسي: «لَوْلَا هَذِهِ الْعِصَابَةُ لَانْدَرَسَ الْإِسْلَامُ»
يريد بذلك من يكتب الأحاديث والآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم.
هنا سبب حقيقي قطعي لقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]
وأيضا لا يستدل بكلام أبي داود الطيالسي أو غيره من أهل العلم، كما قال بعض السلف: «لولا البخاري لما جاء مسلم ولا راح» فهو ليس بسبب حقيقي شرعي قطعي.
وكذلك كلام ابن القيم رحمه الله، لكن تنزلا لأنه ممن يحرص على الدليل، قوله في مدح للصحابة رضي الله عنهم :
أولئكُ أتباعً النبي و حزبُه |
ولولاهُـــمُ ما كــان فــي الأرض مسلـم
|
ولولاهُمُ كادت تميد بأهلها |
ولكنْ رواسيها وأودتادُها همُ |
ولولاهُمُ كانت ظلاماً بأهلها |
ولكـنْ همُ فيها بدورٌ وأنجمُ |
فكلامه هذا صحيح، لأنهم سبب حقيقي قطعي من قبل الشرع؛ لأن الله عز وجل أثنى على هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم
والنصوص كثيرة في هذا.
وربما يستدل بقوله عز وجل : ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 17] أضيف العمل لكونه سببا في دخول الجنة.
والجواب: أن العمل سبب شرعي حقيقي في دخول الجنة، وأيضا هذا العمل لا يستقل بنفسه، ولذلك في الصحيحين: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ» أي من باب المقابلة.
ولم أعثر على أحد قال بهذا القول، لكن هذا بعد التأمل، نقول ما ورد من نصوص وآثار هي أسباب حقيقية قطعية، لأن الشرع دل عليها.
وأما قوله تعالى: ﴿ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾ [يونس: 22] فالذي وصفها هو الله عز وجل ، فيكون الوصف هنا وصف حقيقي قطعي.
ولذلك قول ابن عباس رضي الله عنهما في تعريف الشرك: «لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص ولولا البط في الدار لأتى اللصوص» كما سيأتي في الباب القادم
2 ـ أن شكر النعمة لابد له من ثلاثة أركان :
أولاً : أن يشكر الله عز وجل بقلبه فيعتقد بأن هذه النعمة من عند الله عز وجل لا من حوله ولا من قوته ولا من ذكائه ، لا كما قال قارون فكانت العاقبة ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ عز وجل وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ﴾ [القصص81]
ثانيا : أن يشكر بلسانه ، وذلك أن يتحدث بهذه النعمة شكرا لله عز وجل لا تكبرا ولا افتخارا ولذا قال عز وجل : ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾ [الضحى11].
ثالثا : أن يشكر الله عز وجل بجوارحه ، وذلك أن يستعين بهذه النعم على طاعة الله عز وجل ، فهذه اليد نعمة من الله عز وجل ، تصوَّر لو أنك خلقت من غير يد كيف يكون حالك ؟ فهذه نعمة يجب أن تسخرها في طاعة الله عز وجل فإن سخرتها في معصية الله عز وجل فقد كفرت بنعمة اليد، وقس على هذا جميع الجوارح .
3 ـ أن الشكر قد يكون بالفعل ، وذلك بأن يظهر النعمة على نفسه ، قال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللَّهَ عز وجل يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ» لأن من أظهرها قد تحدث بها بلسان الحال شكرا لله عز وجل .
4 ـ قد يقول قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه :
«قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ قَالَ هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ»
وهذا فيه إشكال: فكيف يضيف النبي صلى الله عليه وسلم الأمر إليه؟ لم يقل لولا الله ثم أنا، فما هو الجواب؟
الجواب عن ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أضاف الشيء إلى سببه الثابت بطريق الشرع، ولم ينس صلى الله عليه وسلم المُسَبِّب وهو الله عز وجل ، وإن كان الأولى مع هذا الاعتقاد، الأولى بالمسلم ألا يتلفظ بهذا اللفظ بل يقول لولا الله ثم فلان، لم؟ سدا لباب الشرك ولا نقاس نحن بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو من أبعد الناس عن الشرك؛ ولذا مر معنا أنه قال:«إنه لا يستغاث بي» مع أنهم استغاثوا به في أمر يقدر عليه صلى الله عليه وسلم ، وهو معصوم عن الشرك، وقد يجوز له ما لا يجوز لنا لأنه أكمل الناس توحيداً و لو قال إن هذا السبب ثابت عن طريق الشرع فلماذا لا أقول مثل ما قال صلى الله عليه وسلم ؟
فنقول: قد يجرك هذا الأمر إلى أن تتعلق بالسبب وتنسى الله.
قال مجاهد رحمه الله ـ ما معناه ـ: ” هو قول الرجل هذا مالي ورثته عن آبائي ”
وقال عون بن عبد الله: يقولون: لولا فلان لم يكن كذا.
وقال ابن قتيبة رحمه الله: يقولون: هذا بشفاعة آلهتنا
قلت: هذه أقوال للمفسرين حول هذه الآية يؤكدون على عدم نسيان المسبب الذي هو الله عز وجل .
وقال أبو العباس رحمه الله بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه: «إن الله تعالى قال: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ…» الحديث وقد تقدم، وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به، وقال بعض السلف: هو كقولهم كانت الريح طيبة، والملاح حاذقاً [ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ