شرح منهج السالكين الدرس الثاني من كتاب الحج

شرح منهج السالكين الدرس الثاني من كتاب الحج

مشاهدات: 497

شرح كتاب الحج من منهج السالكين ـ الدرس الثاني

فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

كتاب الحج

بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .

أما بعد :

( وقدم عليٌ من اليمن ببدن النبي صلى الله عليه وسلم فوجد فاطمة ممن حل، ولبست ثيابا صبيغاً واكتحلت فأنكر ذلك عليها فقالت: إن  أبي أمرني بهذا، قال : فكان على يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله محرِّشاً على فاطمة للذي صنعته، مستفتياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكرت عليها، فقال صدقت صدقت، ماذا قلت حين فرضت الحج؟ قال: قلت : اللهم إني أهل بما أهل به رسولُك، قال فإن  معي الهدى فلا تحل )

يستفاد من هذا : أن المتمتع إذا فرغ من العمرة له أن يستبيح ما شاء مما كان محرما عليه أثناء الإحرام من العطر ، من الجماع ، وما شابه ذلك .

ومن الفوائد :  أن عليا رضي الله عنه ساق الهدي وكان قد نوى أن يُحرم بما أحرم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يبقى على إحرامه ، فأفاد هذا أن الإنسان لو جاء عند المقيات وقال ” أحرم بما أحرم به فلان ” ” اللهم إني أُهِل بما أَهَلَّ به فلان ” أبي أو مثلا الشيخ الفلاني أو ما شابه ذلك ، فهنا يصح مثل ما فعل عليٌ رضي الله عنه .

ومن الفوائد : أن القارن متى ما ساق الهدي ،فالصواب وهو رأي الجمهور : لا يجوز له أن يحلَّ من إحرامه .

( قال : فكان جماعة الهدي الذي قدم به عليٌ من اليمن، والذي أتى به النبيُ صلى الله عليه وسلم مائة )

يستفاد من هذا :  كرم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد كان يكفيه سبع بدنة  ، ومع ذلك أهدى مائة من الإبل ، فدل على أن الواجب سبع البدنة أو سبع البقرة أو الشاة ، لكن كلما زاد كلما كان خيرا وأفضل .

( قال : فحلَّ الناس كلهم، وقصَّروا، إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدى )

يستفاد من هذا : أن الأفضل في حق المتمتع إذا فرغ من العمرة أن يقصِّر ولا يحلق حتى يبقى شيء من شعره ليحلقه يوم النحر .

( فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج )

يوم التروية هو اليوم الثامن ، سمي بذلك لأن الناس يتروون فيه بالماء ، لأن الماء كان شحيحا في منى ، فكانوا يذهبون بالماء إلى هناك .

ومن الفوائد : أن المتمتع إذا أراد أن يحرم بالحج ليحرم من مكانه ولا يتكلَّف الذهاب إلى البيت أو عند الميزاب كما يتوهمه البعض ، بل من مكانه ، والسنة للمتمتع عند إحرامه بالحج أن يفعل ما يستحب له فعله عند الإحرام بالعمرة ، من الاغتسال والتطيب في البدن قبل أن يحرم .

( وركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر،  ثمّ مكث قليلاً حتى طلعت الشمس )

السنة أن يذهب الناس إلى منى قبل الظهر ، والسنة للمتمتعين أن يحرموا قبل الزوال يعني قبل الظهر ، فالسنة أن يذهبوا ، ولو تركوا الذهاب لأجزأ ، لكن الكلام على السنية ، فيصلون جميع الصلوات الخمس في منى في اليوم الثامن ، كل صلاة في وقتها ، لكن الرباعية تقصر ، الظهر والعصر والعشاء ركعتين ، لكن كل صلاة في وقتها ، والسنة أن يذهب الحاج من منى إلى عرفة بعد أن تطلع الشمس .

( وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة )

القبة : هي عبارة عن خيمة ضربت له بنمرة ، يعني قبل عرفة ، ليستريح النبي صلى الله عليه وسلم فيها قبل الزوال ، وهذا يدل على أن الإنسان عليه أن يأخذ بأسهل الأسباب وأيسر الأمور حينما يؤدي العبادة ، فلا يكلِّف نفسه مالا تطيق أو يجهدها وعنده سعة من أمره ، فإذا كان للعبادة طريقان أحدهما أيسر من الآخر اسلك الأيسر ، لكن إذا لم يوجد للعبادة إلا طريق صعب عسر هنا تسلكه ويكون لك أجر الحديث الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها ( أجركِ على قدر نصبك ) أما إذا تيسرت الأمور فقد كان عليه الصلاة والسلام ( ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما  ) .

( فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عن المشعر الحرام، كما كانت قريش تصنع فى الجاهلية )

هم يظنون أن النبي صلى الله عليه وسلم سيقف في مزدلفة عند المشعر الحرام كما كانوا يفعلون في الجاهلية ، فخالفهم عليه الصلاة والسلام ، لأنهم يقولون مزدلفة من الحرم وعرفة من الحل ، ونحن أهل الحرم ولا نخرج من الحرم ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم خالف المشركين ، ومن ثم كما قال ابن القيم رحمه الله : ” من نظر إلى المناسك وجد أن فيها مخالفة كبيرة واضحة للمشركين ” .

( فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها ،  حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له ، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس، وقال :” إن دمائكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا كل شئ من أمور الجاهلية تحت قدميَّ موضوع ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا، دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضَعا في بنى سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله فى النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن  لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تسألون عني يوم القيامة، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت، فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء  وينكبها إلى الناس، اللهم اشهد ، اللهم اشهد  ، اللهم اشهد – ثلاث مرات – ) .

يستفاد من هذا : أن السنة لمن تيسر له بعد طلوع الشمس أن ينزل في نمرة – فله ذلك – هذا هو السنة ، وإن لم يتيسر له فلا شيء عليه .

ومن الفوائد : أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بطن الوادي حينما زالت الشمس ، يعني حينما دخل وقت صلاة الظهر ، فخطب عليه الصلاة والسلام هذه الخطبة من بينها هذه الجملة : ( إن دمائكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ) وهذه الجملة كررها النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن من حجته عليه الصلاة والسلام ليقرر حرمة دماء المسلمين .

ومن الفوائد : أن قوله عليه الصلاة والسلام (ألا كل شئ من أمور الجاهلية تحت قدميَّ موضوع ) لكي يقضي على مشاعر المشركين .

ومن الفوائد : أن النبي صلى الله عليه وسلم فصَّل ، فالدماء محرمة ، لكن ما سبق من دماء في الجاهلية فإنها موضوعة ولا أحد يطالب بدم صاحبه .

ومن الفوائد : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أبطل ما كانت عليه قريش أول ما بدأ بدأ بما يتعلق بحق أقربائه .

ومن الفوائد : أن النبي أول ما بدأ بإبطال الربا السابق بدأ بربا عمه العباس بن عبد المطلب .

ومن الفوائد : أن ما كان مقبوضا من الربا فتاب صاحبه فإن التوبة تجب ما قبلها ولا يُلزم بإعادة ما مضى ، لكن الربا الذي يؤتى به أو فيما يُستقبل أو سيقبض فهذا لا يجوز للإنسان أن يأخذه ، فلا يأخذ إلا رأس ماله ، أما ما قبضه وانتهى ثم تاب فما قبضه فهو حلال له .

ومن الفوائد : أن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن في هذه الجمل من خطبته الحقوق – حق المرأة وحق الرجل – فلا يجوز للرجل أن يمتهن المرأة ، بل هي أمانة عنده يجب أن يحافظ عليها ، ويجب أن يعطيها حقها ، وفي المقابل لا يجوز لها أن تتعدى على حقه وأن تأذن لمن يكره من الناس أن يدخل بيته حتى ولو كان قريبا لها ، لا يجوز لها أن تأذن له ، إلا بإذن زوجها ، وأوجب عليه لها النفقة والكسوة بما تعارف عليه الناس .

ومن الفوائد :  أن قوله عليه الصلاة والسلام  ( وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله ) فيه تعظيم لكلام الله سبحانه وتعالى ، وجاء في رواية في الموطأ ( وسنتي ) فلن تصلح أحوال الأمة إلا بهذين الأصلين ” الكتاب والسنة ” .

ومن الفوائد : أن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة أراد أن يبين حقه ، هل قام بما يجب عليه تجاههم أم لا ؟ فشهدوا بذلك ، فأشهد الله عز وجل على ذلك فقال ( اللهم اشهد ) وأشار بأصبعه إلى السماء مما يدل على أن الله سبحانه وتعالى في العلو ، وهذا من أدلة علو الله سبحانه وتعالى ، ويجوز للإنسان أن يشير إلى العلو ، كما يقال للصبي أين الله ؟ فتجد أن بعض الصبية الصغار يشير إشارة بأصبعه ، فهذا جاءت به السنة ، فيجوز أن يشار إلى العلو إشارة حسية بالأصبع .

( ثمّ أذَّن بلال ثمّ أقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر )

يستفاد من هذا : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل الجمعة ، مع أن حجته عليه الصلاة والسلام في يوم عرفة وافقت الجمعة ، ومع ذلك ما صلى الجمعة ، لم ؟ لأن الأذان أتى بعد الخطبة ، ولأنه عليه الصلاة والسلام جمع بين الظهر والعصر ، ولأنه أسرَّ بالقراءة في صلاتي الظهر والعصر .

( ولم يصل بينهما شيئاً  )

يستفاد من هذا : أن المسافر تسقط عنه النوافل الراتبة ، كما أن الجمعة تسقط عنه ، والمقصود من سقوط الجمعة عن المسافر أنه لا يقيمها بنفسه ، لكن لو كان هناك شخص مسافر في بلدة وأُذِّن لصلاة الجمعة فهذا يجب عليه أن يحضر من باب اللزوم لأنها تلزمه بغيره ، لقوله تعالى معمِّما { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا }الجمعة9 .

( ثمّ ركب حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص ، وأردف أسامة بن زيد خلفه  )

ثم ركب عليه الصلاة والسلام إلى الموقف الذي وقف فيه ، وبين أن عرفة كلها موقف ، وقال ( وارفعوا عن بطن عُرَنة ) بطن عرنة ليس موقفا ، هو من عرفة من حيث التاريخ ، لكن من حيث الحكم الشرعي لا يجوز الوقوف به ولا يتم حج إنسان وقف ببطن عرنة .

ومن الفوائد : أن الواقف بعرفة عليه أن يكثر من الدعاء وأن يستقبل القبلة ، وألا يفرِّط في هذا الزمن الفاضل .

ومن الفوائد : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عنده جَلَد ، فإنه عليه الصلاة والسلام ظل من بعد صلاته للظهرين ظل مستقبل القبلة وهو قاعد على ناقته عليه الصلاة والسلام ، ولذلك يقول العلماء : هل الأفضل الركوب أو الجلوس على الأرض ؟

الصواب / أن الأفضل ما تحققت فيه المصلحة للإنسان وللأمة ، النبي صلى الله عليه وسلم وقف على ناقته من أجل أن يُرى ، ففيه مصلحة للأمة ، أنت حينما ترى من نفسك أنك تخشع وأنك مقبل على الدعاء إذا ركبت سيارتك أو إذا قمت قائما على قدميك ، أو كنت جالساً على الأرض أو مضطجعاً  ، فافعل ما هو أنفع وأخشع وأصلح لقلبك .

ومن الفوائد : أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أفاض من عرفة إلا بعدما غربت الشمس وذهب القرص كله ، خلافا لهدي المشركين الذين كانوا يفيضون قبل غروب الشمس ، ومن ثم فإنه لا يجوز لأحد أن يفيض من عرفة قبل غروب الشمس ، فلو أفاض من عرفة قبل غروب الشمس فقد ترك واجبا من واجبات الحج ، وقد أثِّم وعليه الدم ، وقد وافق المشركين ، وقد خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم في هديه .

ومن الفوائد : أن هذا الإرداف لإسامة من بين القوم ليؤكد ويقرر عليه الصلاة والسلام أن دينه دين المواساة والعدل ، كان مولى ومع ذلك تُرك الأحرار ، ترك الأخيار ، تُرك الأكابر ، ومع ذلك أردفه من أجل أن يبين ما قاله في خطبته عليه الصلاة والسلام في عرفة في بعض الروايات ( لا فضل لعربي على أعجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى ) ولذلك الصحابة رضي الله عنهم استشعروا هذا الأمر قالوا               ( سيخبرنا صاحبنا بما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ) قالوا                ( صاحبنا ) نفوسهم طيبة نقية ، ما هناك فوارق ولا حواجز ولا عصبيات ولا نعرات .

( ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شنق للقصواء الزمام حتى أن رأسها ليصيب مَوْرِك رحله ، ويقول بيده اليمنى أيها الناس السكينةَ السكينةَ ، كلما أتي جبلا من الجبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد )

النبي عليه الصلاة والسلام كان هادئا لما أفاض ، ولذلك كان يسحب الزمام إلى درجة أن عنق الراحلة يكاد أن يصل إلى المورك ، من أجل أن يفيض وهو غير مُسْرع .

ومن الفوائد : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر الصحابة رضي الله عنهم أن يترفقوا ، خلافا لما يُفعل الآن من المسارعة بالسيارات حتى يكاد أن يقتل الناس بعضهم بعضا ، ثم هو عليه الصلاة والسلام يعطي الدابة حقها من الراحة ، فإنه إذا قرب من الجبل يرخي لها الزمام شيئا فشيئا حتى تستريح أثناء صعودها .