بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة
(ست عبر ومواعظ من فصل الشتاء)
[ 19/6/1446 هـ]
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71]
أما بعد:
فيا عباد الله نحن في فصل الشتاء، وفي الشتاء عبر وفوائد ومواعظ، فالشتاء كغيره من سائر الفصول، يأتي الشتاء ويذهب، ويأتي غيره من الفصول كفصل الصيف، وهذا يجعل المسلم يقظًا حي القلب من أن هذه الدنيا لا دوام فيها، ولا بقاء لشيء فيها، لا لفصل دون فصل، وهذا يدل على قدرة الله عز وجل
{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [الحديد:6]،
{يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [النور:44]،
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء:33] كم مر علي ومر عليك من فصل فلا دوام فيها،
ولا استمرار لا لهموم ولا لأحزان، وكذلك لا دوام لنعم، ولا لصحة.
إذًا على المسلم أن يستعد لما أمامه، فالدنيا قصيرة، والموفق هو الذي جعل نصب عينيه ما يكون في اليوم الآخر حتى يستعد لذلك اليوم، فلا يكون كحال من يقول يوم القيامة {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24] تلك الحياة الأبدية التي بها النعيم المقيم العظيم.
فصل الشتاء وصفه النبي ﷺ كما جاء في المسند بإسناد حسنه الهيثمي رحمه الله فقال عليه الصلاة والسلام: “الشتاءُ ربيعُ المؤمنِ“ كلمة ربيع تُسعد النفوس وتتلذذ بها العيون، فالربيع يسعد به الناس.
فليعلم من أن الشتاء يسعد به من؟
المؤمن، فكما أن الناس يسعدون بالربيع، فالمؤمن حقيقة هو الذي يسعد بقدوم الشتاء، ولذلك حتى البهائم في الربيع ترتع من الأشجار والنباتات لم؟
ليصح جسمها ويسمن بدنها.
إذًا الشتاء بالنسبة للمؤمن ربيع باعتبار أنه صحة وغذاء لقلبه، ولذا قال النبي ﷺ كما في المسند: “الصومُ في الشتاءِ الغَنيمةُ الباردةُ” غنيمة تُغتنم من غير تعب التي بها مشقة وحرٌّ وجَلَد لا، غنيمة باردة سبحان الله تتناسب مع أجواء الشتاء، فهي سهلة وميسرة.
التوضيح ما جاء عند البيهقي ليبين كيف يكون الشتاء غنيمة باردة، قال عليه الصلاة والسلام: ” قَصُرَ نَهَارُهُ فَصَامَ وَطَالَ لَيْلُهُ فَقَامَ “ هذه هي الغنيمة، الجو بارد والنهار قصير؛ هي غنيمة التوفيق من الله عز وجل، ولا يخالف هذا ما جاء عن عمر رضي الله عنه من أنه قال: ( الشتاء عدو ) هذا لا يصح، ولو ثبت تنزلا فإنما يكون عدوا إذا كان الشتاء شديدًا بحيث لا يقاوم.
ولذا من نعم الله عز وجل علينا حتى يتبين لنا من أن هذه الدنيا لا دوام لأحوالها، ولا لتفاصيلها، ولا لأجزائها قال: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} [النحل:5]،
{وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل:80]
حتى الثياب التي نلبسها لا دوام لها، أتُلبس هذه الملابس في فصل الصيف هذه الملابس الشتوية والبيجامات الداخلية الشتوية؟ لا.
أتُلبس الثياب الرقيقة في شدة فصل الشتاء؟ لا.
لا دوام ولذلك سبحان الله نعم الله علينا عظيمة، لا من حيث التذكير بما يتعلق بالآخرة، ولا بما أسبغ علينا من نعم لنحمي أنفسنا من ضرر البرد،
أو من أذى الحر.
الشتاء تسميه العرب بالفاضح كما قال الأصمعي لماذا هو الفاضح؟
سبحان الله سُبل فعل الخيرات والعبادات في الشتاء متيسرة ومتنوعة، لا من حيث العبادات التي يعود نفعها على الإنسان، ولا من حيث العبادات التي يتعدى نفعها إلى غيره لماذا تسميه بالفاضح؟
لأنه يفضح حالة الفقراء.
إذًا من هذا الباب تأتي عبادة الصدقة، يُقصد هؤلاء الذين لم يجدوا ما يلبسونه من ثياب تقيهم من شدة البرد، أو من لُحُف وبطانيات وأيضًا سبحان الله حتى فيما يتعلق بالغذاء، الناس يأكلون في الشتاء أكثر من الصيف
لأن الليل طويل فهي فرصة.
ولذلك مسعر بن كدام كما ذكر أبو نعيم في حلية الأولياء، مسعر بن كدام من أئمة الحديث شيخ بغداد من الحفاظ، من العباد حتى قال سفيان الثوري عنه مع أن سفيان الثوري جبل في الحفظ، وفي الإمامة في الحديث يقول: كنا إذا اختلفنا في شيء أتينا إليه فوجدنا عنده علمًا، وكان لا يبرح المسجد الذي في حيه ما يخرج حتى ما سافر لطلب العلم، لكن مع ذلك آية؛ يلقب بالمصحف لقوة حفظه وعظم صدقه، مر ذات يوم على إنسان وهو يقول:
جاء الشتاء وليس عندي درهم
ولقد يخص بمثل ذاك المسلم
قد قطع الناس الجباب وغيرها
وكأنني بفناء مكة محرم
فأخذ الجبة التي كانت عليه وأعطاه إياها،انظروا إلى حال هؤلاء.
أيضًا من أن الإنسان يعتبر
يعتبر بماذا؟
توقد النيران في البيوت أو الدفايات من وسائل التدفئة سبحان الله، والله إننا لفي خطر إلا إذا أنقذنا الله عز وجل إذا نظرنا إلى أعمالنا وسوء تقصيرنا، من يستطيع أن يقترب من النار ولا يضع يديه، من يستطيع أن يقترب عدة ثواني.
الإبريق أو القدر الذي تطبخ عليه في فصل الشتاء، ما تستطيع وهي ثواني واحد على سبعين من نار الآخرة ثواني، فكيف بمن يكون فيها أيامًا وشهورًا نسأل السلامة والعافية ونعوذ بالله منها، كيف بمن يخلد فيها.
فالإنسان يعتبر هذه الحياة قصيرة، { أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} [الواقعة:71] أي توقدون {أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا} [الواقعة:72-73] قبل أن تكون استمتاعا يُتلذذ بها لتدفئة أو طبخ {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} [الواقعة:73] تذكر بنا للآخرة {وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:73] يعني للمسافرين وهي متاع للجميع، لكن المسافر يحتاج إليها، ولا سيما في ذلك الزمن أكثر.
في الصحيحين نتأمل قال عليه الصلاة والسلام: “اشْتَكَتِ النَّارُ إلى رَبِّهَا” قال بعضهم شكوى لكثرة أجرامها حصل منها هذه الشكوى، والصحيح أنها اشتكت بلسان المقال وليس بلسان الحال هي نطقت أنطقها الله، اشتكت النار إلى ربها سبحان الله نعوذ بالله منها، إذا كانت النار تشتكي من نفسها “اشْتَكَتِ النَّارُ إلى رَبِّهَا فَقالَتْ: رَبِّ أكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فأذِنَ لَهَا بنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ في الشِّتَاءِ ونَفَسٍ في الصَّيْفِ، فأشَدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ” من سمومها “وأَشَدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ” نفس واحد أكل بعضي بعضا فنفسني يعني شدة البرد التي عندنا لا تقارن بما يكون من زمهرير إذا كان هذا نفسًا.
ومع شدة زمهريرها نتانة هذا البرد، ولذلك توعد الله عز وجل أهل النار بغساق {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} [النبأ:24-25] الغساق أتدرون ما هو؟
من مجموع ما قاله المفسرون وقال ابن حجر تجتمع أقوالهم الغساق شدة البرد، شراب به شدة برد مع نتانة وقذارة، فالشتاء عبر والموفق من وفقه الله عز وجل. ومن عبر الشتاء التي يُنتفع منها لتكفير الذنوب، ورفعة الدرجات من أن الإنسان إذا توضأ في شدة البرد يتألم، يكره ذلك، لكن قاوِم، اجتهِد، اصبِر.
قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم: “ أَلا أدُلُّكُمْ علَى ما يَمْحُو اللَّهُ به الخَطايا، ويَرْفَعُ به الدَّرَجاتِ؟ قالُوا بَلَى يا رَسولَ اللهِ، قالَ: إسْباغُ الوُضُوءِ علَى المَكارِهِ” والبرد هو المكاره “وكَثْرَةُ الخُطا إلى المَساجِدِ، وانْتِظارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّباطُ” سبحان الله مسكين من ضيع وفرط في الوضوء، وفرط في الإتيان إلى المساجد، وفرط في انتظار الصلاة، ولو كان خارج المسجد لكنه ينتظرها بقلبه يصدق عليه، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط رفعة درجات، ومحو خطايا ورباط يعني من أسهل الرباط ليس به تعب، ومما يدخل فيما عدا الرباط هذه العبادات تربط الإنسان بإذن الله من أن يقع في الزلل، والذنب نعم إذا استشعر محافظته على الوضوء والذهاب إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة يقول كيف أفرط في حسناتي وأفعل الذنوب فذلكم الرباط.
فالشتاء عبر، ومن عبر الشتاء أن أوراق الشجر تتساقط فيه، ولذلك يتذكر الإنسان تساقط الذنوب حال مصافحته لأخيه المسلم حال السلام.
في الحديث الحسن قال عليه الصلاة والسلام:
“إذا لقي المسلم أخاه المسلم، فأخذ بيده فصافحه، تناثرت خطاياهما من بين أصابعهما كما يتناثر ورق الشجر” موضع الشاهد “بالشتاء.”
أسأل الله عز وجل أن يجعلني وإياكم من الموفقين المباركين الذين يستمعون القول ويتبعون أحسنه، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين يا قوي يا عزيز، أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين أما بعد:
فيا عباد الله اعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، هذا وصلوا رحمكم الله على أعظم نبي وأشرف هاد كما أمركم الله بذلك إذ يقول: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين وانصر عبادك الموحدين، اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم اجعل هذا البلد أمنًا مطمئنًا رخاء سخاء وسائر بلاد المسلمين، اللهم أمنا في أوطاننا ووفق ولاة أمرنا، اللهم وفقهم بتوفيقك وأيدهم بتأييدك، اللهم من أراد بهذه البلاد شرًا وفتنة وزعزعة، فأشغله في نفسه ورد كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميرًا عليه يا قوي يا عزيز.
اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم صلٍ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.