خطبة لو سمعتها لقلت إنها جميلة
( أنت سعيد ولكنك لا تشعر أو تريد ألا تشعر)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
“أنت سعيد، ولكنك لا تشعر، أو أنك لا تريد ألا تشعر”
يقول ابن تيمية، وأصيغ بكلامه بأسلوبي مع بعض الإضافات والزيادات، يقول شيخ الإسلام رحمه الله كما في جامع الرسائل: “التنعم بالأمور الدنيوية من الأكل والشرب واللباس والزواج والمناصب والجاه يتفاوت في ذلك بنو آدم تفاوتا عظيما، فليسوا في درجة واحدة، بل هناك تفاوت عظيم في التلذذ وفي التنعم لهذه الأمور”
إذاً: أنت عبد الله قد تتنعم وتتلذذ بنوع من الأكل والشراب يتأذى به غيرك إما لكون ذلك المطعم والمشرب لا يناسب صحته، أو لا يوافق مزاجه، أو لم يكن معتادا عند أهل بلده، وكذلك كما قال رحمه الله الشأن في الملبس فيتنعم قوم، ويتلذذون بنوع من اللباس ما لا يتلذذ به غيرهم، بل يتأذى به غيرهم، حتى قال رحمه الله حتى في النكاح يعني في الزواج والقول قوله يتحدث وهو من أهل الشام، يقول فأهل الأرض والمساكن الجنوبية يتلذذون بنكاح السمر، بينما من يسكن في الجهات الشمالية يتلذذ بنكاح البيض، لم كل هذا؟ ما الفارق بينك وبين غيرك في التلذذ حتى لا تقول إني لست بسعيد لا يوجد عندي مأكل، ولا مشرب، ولا مطعم، ولا ملبس، ولا جاه، ولا منصب كالآخرين. لا
أنت سعيد، ضابط ذلك كما قال الحاجة، كلما عظمت وقويت حاجتك إلى الشيء كان تلذذك به أعظم من غيرك، ولو كنت فقيرا، وتأمل في فصل الصيف حينما يشتد الحر الحاجة داعية إلى ماذا؟ إلى البرد، فإذا أتى برد، فإن الإنسان يتلذذ به.
قلت: بل ربما يسافر إلى أماكن باردة من أجل أن يتلذذ بهذا البرد، لم؟ لأن الحاجة إلى البرد في الصيف كانت قوية لدى بني آدم، وكذلك في الشتاء لما يشتد البرد تكون الحاجة قوية إلى الحر، فإذا أتى يوم به حر تلذذ الإنسان به.
إذًا: السعادة في ما يتعلق بأمور الدنيا من مأكل ومشرب وملبس ومسكن قال: حتى في المساكن بعض الناس لو سافر إلى بعض الأماكن لتأذى بها، بينما لو ذهبت أنت إليها ما أصابك ضرر، بل استمتعت بوجودك فيها، فهذا هو محل التفاوت.
ولذلك قال رحمه الله: وإن الإنسان إذا أسرف في هذه الأمور الدنيوية المذكورة من مأكول ومشروب وملبوس وما شابه ذلك إذا أسرف فيها، فإنه لا يجد لذتها كما يجدها من يقتصد في ذلك، يعني من يقتصد في المأكول، وفي المشروب، وفي متع الدنيا، أو أنها لم تتوفر لديه، فإنه إن تحصل عليها هنا يتلذذ بها أكثر ممن توفرت لديه، بل قال رحمه الله إن هؤلاء الذين يسرفون حينما تتوفر عنده نعم الدنيا يسرفون فيها لا يجدون لذتها، قال: وهم لا يصبرون عنها، فإذا لم يصبروا عنها مع عدم وجود اللذة سببت لهم أمراضا كثيرة.
قلت: والواقع يشهد بهذا.
ولذلك ماذا قال رحمه الله؟
قال: هناك صنف من الفجار الظلمة يقول: يروحون عن أنفسهم بمسموع يعني بما يسمع من غناء ونحوه، أو من منظور من مشاهدة ما حرم الله من نساء وغير ذلك، أو من مشموم كطيب، أو من مأكول، أو من مشروب، أو منكوح، قال: فإن حياتهم لا تطيب بتلك اللذة، أما خوفهم، قال: فإنهم من أعظم الناس خوفا من أعدائهم، إذن إذا كانوا من أعظم الناس خوفا قال: ولا عيشة للخائف، من يعش وهو خائف، فإنه لا يتلذذ ولو كانت عنده متع الدنيا.
سبحان الله!
ندخل بعد ذلك إلى كلام تلميذه ابن القيم في شفاء العليل، سبحان الله! يقول ابن القيم، حتى تعرف أن اللذة والسعادة بقدر الحاجة، ولذلك في مثل هذا الزمن لما توسع الناس، وكثرت النعم نحن نقول وأنتم تقولون ممن أدرك الماضي يقولون سبحان الله! الأكل والشرب ليس له طعم كالسابق، يقولون تغير، ما تغير، الطعام هو الطعام، الشراب هو الشراب هو هو، لكن لما أسرف الناس في هذه المأكولات وأكلوها من غير حاجة هنا ما الذي وقع؟ إذا بهم يأكلون هكذا، يشعرون بقليل من اللذة، وبعضهم قد لا يشعر بها، ويقول تغير المأكل والمشرب والمطعم، لا، هو هو، لكن لما كنت محتاجا فيما مضى، وكان الشيء قليلا لديك هنا صارت اللذة في مثل ذلك الزمن أعظم.
إذًا يقول ابن القيم كما في شفاء العليل يقول: كم في طلوع الشمس من ألم لمسافر ومقيم، وكم في نزول الغيث والثلوج من أذى كما قال تعالى {إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ} قال: وأعظم لذات الدنيا ما هي؟ الأكل والشرب واللباس والنكاح والمنصب والجاه، قال: ومعظم آلام أهل الدنيا، بل كل آلام الدنيا ناشئة من هذه اللذات.
قلت: كما سلف إذا لم يكن الإنسان غير مقتصد فيها، من أسرف فيها فإنه يتألم.
إذًا أنت سعيد، لكنك لا تشعر، أو أنك تريد ألا تشعر بهذه السعادة
ولذا يقول ابن القيم رحمه الله كما في روضة المحبين يقول: اللذات ثلاث لذة جسمية، لذة وهمية خيالية، لذة عقلية روحانية.
يقول أما اللذة الجسمانية ما هي؟ قال: هي لذة الأكل والشرب واللباس والجماع، فيقول: فلذة الأكل والشرب هذه لا يرتفع بها الإنسان قدرا، لم؟
لأن أقل الحيوانات تشاركهم فيها، ولو كانت كذلك لكان من يأكل كثيرا، ويشرب كثيرا، ويلبس كثيرا لكان من أشرف الناس، يقول: لو كان لها فضيلة في ذاتها لكان رسل الله من أكمل الناس فيها، لكن يقول: ليست لذة ومحمودة بذاتها إلا إن أعانت على اللذة الثانية، يعني إن أعانت على لذة طاعة الله وعبودية الإنسان لربه عز وجل.
اللذة الثانية لذة وهمية خيالية مثل ماذا؟
قال مثل بل قال هذي لذة المناصب والجاه، يقول: فإن الآلام والمتاعب والمشاق والمضار والمفاسد في لذة الرياسة والجاه والمناصب، تلك الآلام تفوق اللذة، لم؟ سبحان الله! لم؟ لماذا هذه المضار والمفاسد والمتاعب والمشاق في لذة الجاه والمنصب؟ قال: لأنه يحرص من ينصب، أو يتنصب يحرص على ألا يشاركه غيره فيها، وألا يعلو غيره عليه فيها، قال: وإن قام بها ولم يخف فإن لها حقوقا وواجبات يتعين عليه أن يقوم بها فإذا قام بتلك الواجبات وبتلك الحقوق لهذا المنصب ولهذا الجاه هنا لابد أن يتحمل مشاقا ومصاعب تلك الآلام والمشاق والمصاعب التي يتحملها من أجل القيام بهذه الرئاسة، أو هذا المنصب، يفوت عليه لذات من لذائذ الدنيا، فإن النفس وإن فرحت بها يعني بالرئاسة وبالمنصب والجاه فإنها لذة وهمية خيالية، من أجل، يقول: من أجل أن يرفع قدره بين الناس حتى لا يسبق بين الناس، وحتى تكن له مكانة عالية هنا يحرص على المنصب والجاه.
قلت: ولو أخذ الإنسان هذا المنصب وهذا الجاه، وقام بها من أجل أن ينفع نفسه؛ ليحصل على الثواب لنفع إخوانه المسلمين، فإنه لا يتعذب، بل يتلذذ بذلك؛ لأنه يعرف أن هناك أجورا وثوابا عند الله، وهو يعلم بل هو موقن بأنه لو زالت منه، فإنه لا يضره ذلك؛ لأنه إنما قام بها من أجل أن ينفع نفسه بالثواب, وأن ينفع إخوانه المسلمين، فإذا أخذها من أجل أن يستعين بها على طاعة الله، وعلى نفع إخوانه المسلمين، فلا شك أنه في لذة، وتلك الآلام والمشاق التي يتحملها تنقلب لذات.
اللذة الثالثة: اللذة العقلية الروحية
قال: وهي لذة العلم والمعرفة ولذة الاتصاف بالصفات الكريمة من الشجاعة والكرم والمروءة والحلم والصبر وغير ذلك، يقول: هذه لذة، يقول: فإن أضيف إلى تلك الأشياء لذة معرفة الله وعبودية الله عز وجل والاستغناء بالله، يقول: فإن القلب يسعد بها، فيقول وإن مثقال ذرة من هذه اللذة وإن مثقال ذرة منها يفوق جبالا من لذات الدنيا.
سبحان الله! انظر إلى الفضل.
قال ذلك بأن من في قلبه مثقال ذرة من إيمان لا يخلد في نار جهنم، قال فما ظنكم بمن أتى بالإيمان الذي يمنعه من دخول النار، وذكر كلاما لبعض العلماء يقول: “من لم تقر عينه بالله فإنه يتألم ويتجرع غصص الدنيا بما يفوت عليه.”
يقول: يكفي في قضية هذه اللذة لذة العبادة، ولذة المعرفة والعلم، يقول: يكفي أنه لو فاته شيء من الدنيا تلك اللذة تخرج من قلبه ألم الحسرة، وألم ما فاته من هذه الدنيا.
ثم ذكر رحمه الله كلاما لبعض العلماء يقول: مساكين أهل الغفلة خرجوا من الدنيا، وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: ذكر الله وعبادته والأنس به، ومعرفته جل وعلا بأسمائه وصفاته.
ثم ذكر كلاما لبعض السلف ولعله يعيد بنا إلى أنك سعيد لكنك لا تشعر، قال بعض السلف: “ما من عبد إلا جعل الله له عينين في وجهه يبصر بهما أمر الدنيا، وجعل في قلبه عينين يبصر بهما أمر الآخرة، قال: فإن أراد الله به خيرا فتح عينيه اللتين في قلبه، فأبصر بهما أمور الآخرة.
نعم، لا تبصر بعيينك اللتين في وجهك في أمور الدنيا، وما عند فلان وفلان حتى لا تتعذب، ولكن أغلق هاتين اللتين في وجهك، وافتح العينين اللتين في قلبك؛ لتبصر أمور الآخرة، فيقول: يجد من اللذة ما يجد، قال وإن لم يرد به خيرا تركه ثم قرأ {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}
هذا كلام، فيه كلام علماء السلف موجود ولله الحمد، إذاً عند علماء السلف ومن سار على طريقتهم عندهم العلم المتين في العقيدة، في التفسير، في الحديث، في الفقه، في التربويات، حتى ذكروا ما يتعلق بقصص القرآن، أو بالقصص الصحيحة في الأحاديث النبوية أتوا بفوائد متينة ومفيدة، لكن تلك الدرر التي سمعناها الآن صرف الناس عنها فيما مضى من سنين بقصص حياتية، أو بوعظ مبني على أحاديث مكذوبة مختلقة موضوعة على النبي عليه الصلاة والسلام.
تلك زبد ولا تبقى.
إذًا من أراد العلم المتين في العقيدة في التفسير في الحديث في الفقه في التربويات قل ما تشاء من علوم فهي عند السلف.
هذا كلام ابن تيمية وكلام ابن القيم وسبقه قبله آخرون في مواضيع شتى.
إذًا خلاصة القول:
“أنت عبد الله سعيد، لكنك لا تشعر، أو تريد ألا تشعر “
أسأل الله أن يجعلني وإياكم من السعداء في الدنيا وفي الآخرة.