هذه الآية لو تأملنا فيها بعض التأمل ، لوجدنا أن الذكر قُدِّم على الأنثى في هذه الآية ، فكما أن الرجل قد يسرق ، فكذلك الأنثى قد تسرق ، فلماذا قدَّم الذكر على الأنثى في السرقة ، بينما في آية الزنا ، قدَّم الأنثى على الرجل { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ }النور2
فلماذا قدم الأنثى في الزنا على الرجل ، وقدم الذكر على الأنثى في السرقة هنا ؟
الجواب :
أن مقام السرقة يكون الأكثر فيه الرجل ، فلديه من القوة والشجاعة والإقدام ما ليس عند المرأة ، ومن ثم قدمه في الذكر ، بينما في موضع الزنا ، قدم الأنثى لأن المرأة عندها من التفنن في الافتتان ما ليس عند الرجل ، ولذا قد يخرج الرجل يريد الزنا ولا يجد شيئا ، بينما المرأة لو خرجت تريد الزنا وجدته ، فلذلك قدمها على الرجل ، فقوله جل وعلا { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } المقصود من اليدين هنا الكف ، من أطراف الأصابع إلى الكوع ، والمقصود من ذلك اليمنى ، فإذا سرق الإنسان نصابا من المال ، فإن كفه اليمنى تقطع ، فإن كرر السرقة ، ماذا نقطع ؟ تقطع رجله اليسرى ، فإن كرر السرقة مرة ثالثة تقطع يده اليسرى ، فإذا كرر السرقة مرة أخرى تقطع رجله اليمنى ، ويكون القطع من مفصل القدم وندع له كعبه وعقبه حتى يمشي عليه ، فإذا كرر السرقة في المرة الخامسة ماذا يصنع به ؟ قال بعض العلماء يعزر بالسجن ، لأن شره استطار ، وقال بعض العلماء يقتل ، لأن هذا استمر شره ولا يندفع إلا بالقتل فيقتل ، ومرد هذا إلى القاضي إذا رأى هذا أو إذا رأى هذا .
{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا } إذاً القطع في مقابلة ماذا ؟ في مقابلة السرقة
إذاً من ظاهر هذه الآية لو سرق إنسان فقطعت يده هل يلزمه أن يتوب أم أن القطع كافٍ له في التوبة ؟ الذي يظهر من هذه الآية أن الواجب عليه أن يتوب ، فإن القطع لا يكون مكفرا لذنبه ، لأن الله سبحانه وتعالى ماذا قال ؟
{ جَزَاءً بِمَا كَسَبَا }
ثم قال جل وعلا { نَكَالًا مِّنَ اللّهِ } أي عقوبة من الله ، لينكل به وبغيره ، ومن ثم فإن هذه الآية ترد على من قال إن في قطع اليد في السرقة إن فيه وحشية ، وليس فيه رأفة ولا رحمة ، لأن هذه دعوى مقامة من قِبل الأعداء وروجت حتى سار خلفها بعض المسلمين أو المنتسبين للإسلام وللأسف ، فأصبحوا يقولون إن قطع اليد في السرقة وحشية أو أنه لا يتواكب ولا يتوافق مع هذا العصر ، وجهلوا أن الله سبحانه وتعالى قال { نَكَالًا مِّنَ اللّهِ } ليس من الخلق ، إذاً هذا فرض من الله سبحانه وتعالى على خلقه فيجب عليه أن يمتثلوا به ، لأنه أعلم بحالهم وبما يُصلح شأنهم ودنياهم ، لأنهم قد يقولون كيف تقطع اليد الذي لو اعتدى إنسان على إنسان فقطع يده فإن عليه نصف الدية ، فيقولون كيف تقطع إذا سرق ربع دينار فصاعدا
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين ( تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا ) ربع الدينار كم يساوي ؟ واحد جرام من الذهب ويزيد شيئا يسيرا ، فكيف تقطع يده ؟ نقول تقطع يده ، لم ؟
لأن السرقة والخيانة أرخصتها ، ولأجل أن تسلم أموال وأنفس وممتلكات الآخرين ، نقطع يدا حتى تسلم الأيادي كلها ، نقطع يدا حتى تسلم الأموال كلها ، فإذا علم السارق أن يده ستقطع في مثل هذه النصاب والمقدار ، كف عن السرقة ، فسلم من ذلك الناس ، لأن السارق في الغالب إذا وجد صاحب المال سيدافع عن نفسه ، ما الذي يترتب على ذلك ؟ يترتب على ذلك القتل ، فإذا قطعت يده سلم المجتمع من شره ، ولذا قال عز وجل { نَكَالًا مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ{38} } لم يقل ( غفور رحيم ) وإنما قال { وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
{ عَزِيزٌ } يعني قوي وغالب وممتنع لا ينال بسوء { حَكِيمٌ } يضع الأمور في مواضعها المناسبة لها ، فمن المناسب للبشر أن الإنسان إذا سرق نصابا من المناسب أن تقطع يده ، ولذلك قرأ إنسان فأخطأ في يوم من الأيام في هذه الآية ، فكان عنده أعرابي لكنَّ عنده تذوقا وتبحرا في لغة العرب ، قرأ إنسان وعنده أعرابي قُح ، يعني يفهم المقامات والسياقات وماذا يراد منها ، قرأ { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } قال هذا ليس بكلام الله ، قال كيف ؟ قال أعدها ، فلما أعادها { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ{38} } قال نعم هذا كلام الله ، عزَّ فحكم فقطع ، ولو رحم وغفر ما قطع .
{ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ } إذاً ما المناسب من الأسماء هنا { إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{39} وهنا ملحوظة وهي أن الله سبحانه وتعالى قال بعد التوبة { وَأَصْلَحَ } فدل على أن التائب ينبغي له إذا تاب من الذنب ألا يعود إليه فحسب – لا – فماذا يصنع ؟ يصلح حاله ، يزيد من الطاعات ، ولذا قال تعالى { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ } مفهوم ذلك أن الإنسان إذا وفقه الله سبحانه وتعالى للتوبة ألا يقتصر على التوبة وألا يقتصر على عدم ممارسة الذنب مرة أخرى ، بل يرتقي إلى درجة أعلى وهي الإصلاح .
ثم قال تعالى :
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{40} } كأن فيه إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى ما شرع هذه الحدود ليعذب الناس ، وإنما ليصلحهم ، فكون البشر يسقطون مثل هذه الأحكام ومثل هذه الحدود ، تعدٍ وظلم ، ولذلك قال سبحانه وتعالى في قضية الزنا { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} النور2، من أجل ماذا ؟ من أجل أن يرتدع الناس ، ولذلك كأنه سبحانه وتعالى يذكرنا بأن مثل هذه الحدود هي رأفة ورحمة من الله ، ثم ليتنبه الإنسان حينما يقيم الحد ، فإن هذا عذاب في الدنيا ، لكن العذاب الأشد هو ما أعده الله سبحانه وتعالى للمجرمين ، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يطهر مجتمعاتنا من رذائل الأخلاق والأعمال