تفسير قوله تعالى ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه … ) سورة البقرة (258 )

تفسير قوله تعالى ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه … ) سورة البقرة (258 )

مشاهدات: 575

تفسير قوله تعالى

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ }

الآية 258

فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

أما بعد :

فقد قرأنا في هذه الليلة قوله تعالى :

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }البقرة258

إبراهيم عليه السلام استحق أن يكون إمام الأنبياء والمرسلين ، لأنه عليه السلام عانى من ملوك الأرض الذين أدركهم حيث أوقدوا له النار وألقوه فيها ، عانى من قومه ، عانى من أبيه ، ابتلي بذبح ابنه إسماعيل عليه السلام ، ومع هذا كله كان صابرا ، ولذا إذا ذكر الله عز وجل لنا نبياً من الأنبياء علينا أن نتأسى بهم فيما جرى لهم ، وعلينا أن نحبهم لأنهم قاموا بمحبوب الله عز وجل وهو الدعوة إلى التوحيد والصبر عليه ، فمن المعاناة التي لاقاها إبراهيم عليه السلام ، ما لاقاها من ذلك الملك ، الذي سمَّاه بعض المؤرخين ، ولا يهمنا الأسماء ، لأن الاسم لو كان فيه فائدة تعود على الناس لذكره الله عز وجل ، لكن مما نُقل أن هذا الملك اسمه ” النمرود بن كنعان ” آتاه الله عز وجل الملك واستمر على هذا الملك وطال زمن ملكه ، وبعض الناس غير موفق تأتيه النعمة بين يديه من رب العالمين عز وجل ولا تكون خيرا له ، وهذا يعود بنا إلى ما أسلفنا من أن الإنسان قد يُبتلى بالنعمة فلا يصبر ، بل يكون الابتلاء بالنعمة أشد ، ولذلك يقول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ( ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر )

فهذا الرجل حاجَّ وجادل إبراهيم في الله عز وجل الذي أعطاه هذا الملك ، فقال عز وجل :

{ أَلَمْ تَرَ } هذا الأسلوب يحمل التعجب ، يعني هذا عجب أن ترى مثل هذا البشر الذي ملكه الله عز وجل ما ملكه ، حتى قال بعض العلماء إن هذا الرجل من ضمن أربعة ملوك ملكوا الأرض كلها ، وإن كان في هذا نظر ، لكن ملكه اتسع ، يقولون ” إن الأرض كلها ملكها أربعة اثنان صالحان واثنان فاسدان ، قالوا إن الصالحين هما ذو القرنين وسليمان عليه السلام ، وأما الفاسدان فالنمرود بن كنعان وبختنصر ) كما قيل في ذلك ، ولكن الذي يظهر أنه ليس هناك دليل على أن هؤلاء وبالأخص هذا الرجل أنه ملك الأرض كلها ، الشاهد من هذا أن في قصته عجبا ، كيف يحاج الله عز وجل ، ولذا كان قدوة لمن جاء بعده وهو فرعون،قال { مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي }القصص38 .

فهذا لما بلغ ملكه ما بلغ زعم أنه مشارك لله عز وجل فيما هو من خصائص الله عز وجل .

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ }

إبراهيم عليه السلام حاجَّه وناظره ، وهذا يدل على أن تعلم المناظرة مما يحتاج إليه المسلم ولاسيما طالب العلم أن يتعلم أسلوبها ، ومن أراد أن يتعلم أسلوبها دون أن يكون متعلما لها دراسة وفنا وتخصصا عليه أن يقرأ كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، فمن أكثر من قراءة كتب شيخ الإسلام استفاد طرق المناظرة ولو لم يتعلم المناظرة من أصولها ، فالمناظرة وتعلمها من الضرورة بمكان ، لأن هناك من أعداء الله عز وجل من يلقي الشبه .

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ } لم { أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ }

يعني لكون الله عز وجل أعطاه الملك ، يفترض أن يكون هذا الملك مُعينا له على طاعة الله عز وجل ، ناشرا لدعوة الله عز وجل ، ولكن بعض الناس إذا أعطي نعمة كفر بها ، بعض الناس كما قال عز وجل { كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى{6} أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى{7} ، وكما قال عز وجل { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ }الشورى27 ، ولذلك على المسلم أن يسير حيث سار قدر الله عز وجل ، لا يحزن إذا فاته شيء ولا يفرح إن أصابه شيء { لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ }الحديد23 ، والخيرة فيما اختارها الله عز وجل .

وكلمة { الْمُلْكَ } بـ ( أل ) تدل على أن ملكه عظيم ، وتدل على أن الكافر إذا ملك مكانا أو تسلَّط على مكان يصح أن نصفه بأنه ملك ، لأن الله عز وجل وصفه بأنه ملك ، لكونه آتاه الملك .

{ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ }

كأن هناك أمرا دعا إبراهيم إلى أن يقول هذا الكلام ، كأن هناك سؤالا طرحه عليه هذا الملك فأجاب إبراهيم عليه السلام ، فقول إبراهيم ناتج عن شيء سابق .

{ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ }

هذا الأسلوب إذا مر بك فإنه يدل على الاختصاص ، كما لو قلت ” فلان هو الذي صنع هذا الجهاز ” كأنه هو المختص بصناعته ولا يشاركه غيره ، ولذلك قال إبراهيم رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ }

فماذا قال هذا الملك الفاجر الكفار ؟ { قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ } لم يقل ( أنا الذي أحيي ) لم ؟ لأنه الحس يكذبه ، ليس عنده أي تردد أن يقول هذه الكلمة ، لكن الحس يخالفه ، لم ؟ لأنه قبل أن يوجد هناك من مات ومن هو حيي ، فلو قال أنا مختص بذلك لكذبه الحس ولكذبه الناس ، ولكن قال ردا  على إبراهيم { أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ } أي أنا أشارك الله ولم يقل إنه مختص به .

{ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ } كيف ؟ هذه معاندة ومكابرة ، كيف ذلك ؟ دلَّس فأتى برجلين قد حكم عليهما بالقتل فقتل أحدهما وأبقى الآخر ، وهذا يدل على أن العبد كلما عاند وخاصم فيما يتعلق بشرع الله دل على سفه في عقله ، لأن مثل هذا الكلام ما ينبغي أن يقوله عاقل، وإبراهيم عليه السلام أراد أن يتدرج معه لأنه رأى منه المكابرة والمعاندة ، كان بإمكان إبراهيم عليه السلام أن يقول ” أنت الآن قتلت هذا فأحيه ” ولو قال لعجز ، لكن أراد أن يتنقل معه في الدليل والحجة .

ثم قال عز وجل :

{ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ }

هي في كل يوم تطلع من المشرق فأتِ  بها من المغرب ، لم ؟ لأن

من حرَّك الروح في البدن ومن يمت الروح في البدن قادر على أن يأتي بالشمس من المشرق إلى المغرب .

{ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ } انقطع جوابه ، لم يستطع أن يجري جوابا ، وهذا يدل على عجزه ، ولذلك في المناظرة إذا سئل شخص فيما يُناظر فيه فوقف عن الجواب فهذا يدل على عجزه في المناظرة .

{ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ } يعني تحير ، ولم يقل عز وجل { فَبُهِتَ } وانتهى الكلام – لا – قال { فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ } لما قال { فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ } هذا يسميه علماء اللغة ” الإظهار في مكان الإضمار ” كان بإمكانه أن يُضمر  { فَبُهِتَ } وينتهي الأمر ، لكن لما أظهر { فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ } دل على أن هذا الذي ناظر وحاجَّ إبراهيم كافر ، وأن من عاند وخاصم في شرع الله عز وجل فيما سيأتي إلى آخر الساعة أنه في حكم هذا الرجل فيكون حكمه الكفر ، فليس هذا الحكم خاصا به ، فكل من شابهه وعاند شرع الله فإنه يأخذ هذا الحكم .

{ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } ما مناسبة ختام هذه الجملة بهذه الآية ؟

ولتعلموا أن آخر الآية لها متعلق بما قبلها علمها من علمها وجهلها من جهلها .

{ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } يدل هذا على أن الكفر يسمى ظلما ، ولذلك عز وجل قبلها { وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ }البقرة254 ،وكيف يكون الكفر ظلما ؟ لأنه ظلم حق الله عز وجل ، كما قال تعالى عن لقمان { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }لقمان13 ، ويدل هذا على أن من كان ظالما فإنه بعيد عن الهداية ، وكلما كان أظلم كلما كانت الهداية عنه أبعد  ، وأعظم الظلم الكفر بالله عز وجل .

وهذه المناظرة ضرب الله عز وجل فيها مثلين أحدهما لولي من أولياء الله والآخر لولي من أولياء الطاغوت ، ولذا ما الذي قبلها ؟

{ اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ } هذا ما يتعلق بإبراهيم كنموذج { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ } هذا نموذج لأولياء الطاغوت

{ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {257} أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ }

الشاهد من هذا أن مثل هذه القصص إذا مرَّت بنا لإبراهيم عليه السلام أو غيره من الأنبياء علينا أن نمعن النظر فيها وأن نتأملها وأن نستفيد ما جاء فيها من العِبر إضافة إلى ما ذكرنا من أن أمثال هؤلاء يحبون في الله عز وجل ، وليس التأسي بهم فقط بل نحبهم .

والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد .