أما بعد :
فقد قرأنا في هذه الليلة قوله سبحانه وتعالى :
قوله تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ {20} يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ {21} قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ {22} قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {23} قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ {24} قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ {25} قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ {26} }
ذكر سبحانه وتعالى قصة موسى مع قومه لما أمرهم أن يدخلوا الأرض المقدسة ، فقال سبحانه وتعالى {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ }
موسى عليه السلام أرسل إلى بني إسرائيل ، وموسى عليه السلام من بني إسرائيل
ولذلك عيسى عليه السلام لما أرسل إلى بني إسرائيل ولما لم يكن منهم لم يقل { يا قوم } كما في سورة الصف { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي } بينما عيسى عليه السلام { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } ولم يقل { يا قوم } فدل هذا على أن موسى قد أوحي إلى بني إسرائيل وأنه منهم بخلاف عيسى لما أرسل إلى بني إسرائيل لم يكن منهم
فتلطف موسى عليه السلام معهم مُبينا أنه منهم وأنه من عشيرتهم { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ } من باب التلطف حتى يقبلوا كلامه وأوامره .
{ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ }
ونعم الله سبحانه وتعالى على بني إسرائيل كثيرة ، فالله سبحانه وتعالى أنعم على بني إسرائيل بنعم عظيمة منها إنزال المن والسلوى وتفجير الأرض من تحتهم ينابيع على عدد أسباطهم – قبائلهم – إلى غير ذلك مما قصه الله سبحانه وتعالى مما أنعم به على بني إسرائيل ، ومما أنعم الله سبحانه وتعالى على بني إسرائيل ما ذكره عز وجل هنا { إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ }
وهذه ميزة أن يكون في العشيرة من هو نبي ، ميزة لمن آمن به .
{ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا }
وجعلكم ملوكا للأرض بعدما كنتم مستضعفين مستخدمين عند فرعون وقومه ، قال تعالى { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } البقرة49 ، فأصبحتم بعد تلك الخدمة ملوكا ، وهذا وعد من الله عز وجل لبني إسرائيل فحققه ، قال عز وجل في سورة القصص { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ {5} وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ {6} }
وكما قال سبحانه وتعالى في سورة الأعراف { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } الأعراف137
يعني من كان مستضعفا من بني إسرائيل أورثهم الله عز وجل مشارق الأرض ومغاربها ، أورثهم الله عز وجل الشام ومصر وهي أراضي مباركة .
{ وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ }
مثل إنزال المن والسلوى والغمام وما شابه ذلك مما ذكره سبحانه ، والمقصود عالموا زمانهم لأن { الْعَالَمِينَ } في كلام الله عز وجل تأتي على معاني ، فالأصل في العالمين جمع عالم وهو كل ما سوى الله سبحانه وتعالى ، كقوله تعالى {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } الفاتحة2 فالمراد كل الخلائق .
ثانيا : يطلق الله عز وجل العالمين على الإنس والجن
كما قال عز وجل { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } الفرقان1 ، وهو نذير للإنس والجن .
ثالثا : تطلق على الإنس فقط ، قال تعالى { أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ } الشعراء165 ، وهم كانوا يأتون ذكران الإنس .
رابعا : تأتي بمعنى قوم في زمن معين كما في هذه الآية .
فالله عز وجل أعطى بني إسرائيل من العطايا في زمنهم ما لم يعطِ أمة من الأمم ، بينما أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعطيت أفضل من بني إسرائيل ، لكن يقصد بالآية ما كان في زمن بني إسرائيل .
{ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ }
يعني في سابق علمه مما كتب في اللوح المحفوظ أنكم أنتم يا بني إسرائيل مأمورون بدخول الأرض المقدسة وهي بيت المقدس
{ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ }
وهذا يدل على أن من خارت قواه وخاف من الأعداء فإنه يصاب بالذل والخسران ، ولذلك قال عز وجل { وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ }
وما كان للمسلم أن يولي ظهره إذا رأى الحق أمامه ، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن أن هذه الأمة إذا خارت قواها تسلط عليها الأعداء ، ومتى تخور القوى ؟ إذا أحب العبد الدنيا وكره الموت
ولذلك في سنن أبي داود قال صلى الله عليه وسلم ( يوشك أن تداعى الأمم عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ) أناس يأكلون وأمامهم قصعة كلٌ يقول هلم يا فلان كُلْ من هذه القصعة ـ الآن حال الدول الكافرة كل منها يدعو الأخرى وتقول هلم ، هذه هي الغنيمة الباردة ، لأن المسلمين خذلوا أنفسهم بتركهم لدينهم ( قيل ومن قلة نحن يا رسول الله ؟ قال لا ، أنتم كثير ) نصل الآن إلى مليار ونصف مليار مسلم ( أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله من صدور أعدائكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن ، قيل ما الوهن يا رسول الله ؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت )
فماذا قالت بنو إسرائيل ؟
{ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ }
في اللغة العربية يقال ” نخلة جبارة ” يعني طويلة شديدة لا تصل إليها الأيدي ” فدل هذا على أنهم كانوا أقوياء ، وكانوا ذا طول .
{ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ{22} }
هذا من السفاهة ، كيف يخرج هؤلاء القوم من هذه الأرض بهذه البساطة حتى تدخلوا فيها ، وهذا من الخوف والهلع الذي وقع في قلوبهم ، فما الذي جرى ؟ لا يترك الله عز وجل نبينا من أنبيائه أو وليا من أوليائه إلا ويُنصره ، فهيأ الله عز وجل لموسى عليه السلام رجلين فصدعا بالحق .
{ قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ } من الله عز جل .
{ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا } دل هذا على أن من أعظم النعم التي ينعم الله عز وجل على عبده أن يوفق للخير كما وفق هذان ، وقد قال كثير من المفسرين إن هذين الرجلين كانا من بين اثني عشر نقيبا – رئيسا – أرسلهم موسى عليه السلام لكي ينظروا إلى هذه الأرض وينظروا من فيها ، فلما ذهبوا وجدوا أن فيها قوما جبارين ، فأخذ موسى العهد على هؤلاء ألا يخبروا أحدا لا قريب ولا بعيد ، فأخبر كلٌ منهم قريبه وابن عمه إلا هذين الرجلين .
{ قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ }
يعني ما هي إلا خطوات يخطوها الإنسان ويكون على إقدام ومن ثمَّ فإن الله سبحانه وتعالى ينصره ، النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر ما خرج لكي يقاتل ولا استعد للقتال ولا حمل معه أسلحة ، ولا عتادا ،وترك كثيرا من الصحابة خلفه ، لو كان هناك قتال يُستعد له لاستعد له عليه الصلاة والسلام ، ومع ذلك لما خرج من أجل أن يأخذ العير وقع ما وقع ، فنصر الله عز وجل هذه الأمة ، وكان أبو بكر يشفق عليه صلى الله عليه وسلم ، كان يقول صلى الله عليه وسلم ( اللهم إن تُهلك هذه العصابة لا تُعبد في الأرض ) حتى سقط رداؤه عليه الصلاة والسلام ورفعه أبو بكر وقال كفاك مناشدة لربك إن الله ناصره ومنجز وعده ، وهم قلة ، قال تعالى : { وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } الأنفال26
{ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } البقرة249، والأمة الإسلامية تعاني الآن مما تعانيه من الفُرقة ومن الشتات ومن تسلط الأعداء في سائر أقطار الأرض إنما هو بسبب تركنا لدين الله سبحانه وتعالى ، ولذلك كان الصحابة أبو بكر ، عمر ، خالد بن الوليد ، عمرو بن العاص رضي الله عنهم ، هؤلاء من أي قبيلة ؟ من قريش ، قبل أن يأتي الإسلام كانت الفرس والروم تضرب عليهم الجزية ، ليسوا بشيء ، لكن ما الذي غيرهم ؟ كيف ارتفع هؤلاء على أولئك العظماء في القوة ؟ لما دخل هذا الدين في قلوبهم ، كان من بين الأمثلة والنماذج وهي من أروع النماذج ” أن خالد بن الوليد رضي الله عنه وقف على حدود كسرى وأرسل له رسالة ، وقال ” أسلم تسلم وإلا فقد أتيتك برجال يحرصون على الموت كما تحرصون أنتم على الحياة ” و هذا خلاف ما نحن فيه ، فنحن نحب الحياة ونكره الموت ” فلما وقعت الرسالة في يدي كسرى ارتعد وخاف واستنجد بإمبراطور الصين آنذاك ” فقال يا كسرى لا طاقة لي بهؤلاء الرجال الذين لو أرادوا خلع الجبال لخلعوها “
ثياب مرقعة ، أسلحة بدائية ، لكن الله عز وجل ينصر من ينصره ، ولذلك لما اجتمع الجيشان في هذه المعركة ، رأى خالد بن الوليد رضي الله عنه أعدادا هائلة من الفرس فلا طاقة للمسلمين بقتالهم ، فأرسل خالد بن الوليد إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما يطلب منه المدد ، وما هي إلا برهة من الزمن حتى أتاه المدد
أتاه القعقاع بن عمرو ومعه رسالة ، لم يرسل إليه إلا شخصا واحدا فلما قرأ خالد بن الوليد الرسالة ” من عبد الله أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سيف الله خالد بن الوليد ، لقد أرسلت إلي تطلب المدد وأنا أرسلت إليك المدد ، أرسلت إليك القعقاع بن عمرو ، ولعلك تقول ما يصنع القعقاع بن عمرو ! وأقول إن جيشا فيه القعقاع بن عمرو لن يهزم أبدا “
فكان من طرق الحروب آنذاك أن القائدين يتبارزان ، فاتفق قائد الفرس مع جنوده على أنه متى ما أشغل خالدا أتياه فطعناه من الخلف ، فبدأت المبارزة وطبق الخطة ، فلما أتى هذان الرجلان لكي يقتلا خالدا من خلفه ، إذا بالقعقاع أمامه فيرديهما قتلى ، فصدقت مقولة أبي بكر رضي الله عنه ” إن جيشا فيه القعقاع بن عمرو لن يهزم أبدا ” فلو قتل خالد في تلك المعركة لانهارت قوى الجيش .
الشاهد من هذا :
أنه متى ما تقدم المسلمون خطوة إلى الله سبحانه وتعالى وأروا الله عز وجل من أنفسهم خيرا أراهم الله خيرا عظيما .
والقصص كثيرة جدا في وقائع الصحابة رضي الله عنهم ، ولولا الإطالة لذكرت أمثلة أخرى .
{ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ }
بمجرد ما تدخلون فإنكم غالبون لأنكم ما سرتم ولا دخلتم إلا متوكلين على الله ، ولذلك قال { وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين }
ومن يتوكل على الله سبحانه وتعالى لا يهاب من قوة ولا من جيش ولا من عدد ولا من طائرات ولا من أسلحة ، لكن متى ؟ إذا وقع هذا التوكل في القلب وصدق العبد في توكله على الله سبحانه وتعالى ، ومع هذا الوعظ الذي جرى من هذين الرجلين لبني إسرائيل قالوا لكي يفصلوا في هذه المسألة :
{ قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا }
فأنت أثقلت علينا { فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}
انظروا إلى القسوة وسوء اللفظ والغلظة ، يعني كأن الله عز وجل ليس بربهم ، والقعود ليس من سمات العظماء ، ولذلك في تحليل طبي قرأته يقولون ” من أكثر من القعود فإنه وشيك أن يكون عمره قصيرا ” سواء صدق هذا أو لم يصدق ، فالقعود ليس فيه خير ، ولذلك قال سبحانه وتعالى { وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } الأعراف176
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ } التوبة38
{ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالًا } التوبة47 ، فالقعود ليس من سِما العظماء .
موسى عليه السلام لا يملك شيئا { قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي } فنفسي تطاوعني وكذلك أخي يطاوعني ، وهو هارون عليه السلام .
{ فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ }
يعني افصل بيننا وبين القوم الفاسقين .
{ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ }
يعني هؤلاء الذين عصوا أمرك بالدخول إلى بيت المقدس ، لكنها مباحة لأحفادهم ، ولذلك يتيهون في الأرض ، هم يسيرون وإذا بهم في أمكنتهم ، لا يعرفون ولا يدلون الطريق .
ولو قال قائل :
كيف يكون هذا التيه حاصلا لهم وفيهم موسى وهارون وفيهم من هو صالح كهذين الرجلين ؟
الجواب : إن هذا التيه خير وبركة على عباد الله الصالحين ، بينما هو شر وسوء على هؤلاء .
فلما أباد الله سبحانه وتعالى هؤلاء وأهلكهم كان هناك فتى يقال له يوشع وهو فتى موسى ، فلما انقرض ذلك الجيل من بني إسرائيل الذين حرَّم الله عز وجل عليهم دخول الأرض المقدسة بسبب عصيانهم
وهذا من الحرمان أن يحرم العبد الدخول إلى أرض مطهرة ، فدل هذا على أن من عصى الله عز وجل فإنه يُحرم من البركة ومن الخير
ولذلك موسى عليه السلام كما في الصحيحين لما أتته المنية وهو معهم في التيه ( سأل الله عز وجل أن يدنيه إلى الأرض المقدسة رمية بحجر ) ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام يقول ( لو شئت أريتكم قبره عند الكثيب الأحمر ) موسى عليه السلام سأل الله عز وجل أن تكون وفاته عند الأرض المقدسة ، فهذا الرجل وهو يوشع – وهذا ثابت في الصحيح – لما أراد أن يدخل على هؤلاء الجبارين وكان ذلك يوم الجمعة أوشكت الشمس على أن تغرب ، وإذا غربت الشمس دخل اليوم الثاني الذي هو يوم السبت ، وكان القتال محرما عليهم ، فقال إنك مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها ، فحبسها الله عز وجل فلم تغرب حتى أنجز ما وعد الله عز وجل به من النصر “
{ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ {26 } }
ثم في هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ، يعني أن من عصاك من قومك فإن لك أسوة في موسى عليه السلام لم ينصع له قومه ، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح ( لما قسم قسما قال رجل إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ، فقال صلى الله عليه وسلم رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر )
ثم فيه أيضا تسلية للدعاة إلى الله عز وجل أنهم متى ما دعوا إلى الله عز وجل فقد برئت ذمتهم ، أما الثمرة وهداية الناس إلى الخير والتمسك به هذه ليست بأيدي الدعاة ، ولذلك لو أن أحدا دعا إلى الله عز وجل ومسَّه سوء من قول أو من فعل فلا يحزن لأن من قبله من الأنبياء وقع لهم أكثر مما وقع له .
أسأل الله عز وجل لي ولكم الخير والسداد والهدى والتقى ، والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد .