تفسير قوله تعالى ( أينما تكونوا يدركم الموت …. ) سورة النساء آية ( 78 )

تفسير قوله تعالى ( أينما تكونوا يدركم الموت …. ) سورة النساء آية ( 78 )

مشاهدات: 623

تفسير قوله تعالى

{ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ….}

الآية

النساء78

فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

أما بعد :

فقد قرأنا في هذه الليلة قوله سبحانه :

{أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } النساء78

الموت له معانٍ في كتاب الله سبحانه وتعالى :

المعنى الأول : بمعنى الجماد ، كما قال تعالى { أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } النحل21 { أَمْواتٌ } أي الأصنام وهي جمادات .

المعنى الثاني : القحط والجدب ، كما قال تعالى في نزول المطر { فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ } فاطر9 ، يعني إلى بلد جدباء .

المعنى الثالث : الضلال  ، كما قال تعالى {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا } في الضلال { فَأَحْيَيْنَاهُ } بالطاعة { وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ } الأنعام122

المعنى الرابع : الكافر ، قال تعالى { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ } الأنعام95 ، فـ { الْمَيِّتِ } على أحد القولين في التفسير أنه الكافر .

المعنى الخامس : وهو المراد في هذه الآية { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ } النساء78 ، فهو كما فسَّره ابن الجوزي ” هو حادث تزول معه الحياة ” ولذلك هو من أعظم المصائب كما ذكر عز وجل .

وهذا الموت خلقه الله عز وجل ابتلاءً واختبارا للعباد أيحسنوا العمل أو لا يحسنوه { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ } هكذا من غير فائدة ؟ كلا { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } الملك2.

وهذا الموت لن ينجو منه أحد حتى الأنبياء ، ولذلك قال سبحانه وتعالى عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ } الزمر30 ،

{ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} الأنبياء34 .

هذا الموت – أيها الأحبة – من فرِّ منه وهرب منه ، لأن بعضا من الناس يهرب من الموت ، كيف يهرب من الموت ؟ يريد ألا يذكره وألا يستشعر قربه ويريد أن يتناساه حتى يعيش في هذه الدنيا كما يظن في سعادة ، ولكن هذا الموت مهما طال عُمُر ابن آدم فإنه إلى فناء ، وهذا الموت لابد أن يلاقيه في يوم من الأيام { قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ } الجمعة8

هذا الموت مهما كان للإنسان من قوة فإنه لابد أن يأتيه ، قال تعالى {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ } آل عمران185.

إذاً نحن في هذه الحياة لسنا في دارٍ هي دار قرار ودوام – كلا – نحن مخلوقون في هذه الدنيا على هذه الأرض ونحن عرضة للبلاء وللسراء ، فمن ابتلي فصبر كان خيرا له ومن ابتلي بالسراء فشكر كان خيرا له ، ولذا قال سبحانه وتعالى لما ذكر أن النفوس يأتيها الموت قال { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } الأنبياء35.

هذا الموت – أيها الأحبة – يتمناه الكفار إذا أدخلوا النار

{ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ } تأتيه أسباب الموت { وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } إبراهيم17.

هذا الموت – أيها الأحبة في الله – ما ذكره أحد إلا كان من أعقل البشر ، في سنن ابن ماجة ( سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكيس الناس ) يعني عن أعقل الناس ( فقال : أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم لما بعده استعدادا أولئك الأكياس )

 

ومن أكثر من ذكر الموت فإن فيه الحياء من الله عز وجل ، عند الترمذي قال صلى الله عليه وسلم ( استحيوا من الله حق الحياء ، قالوا يا رسول الله كلنا نستحي من الله ، فقال صلى الله عليه وسلم أن تحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى وأن تذكر الموت والبِلى وأن تترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حق الحياء ) فمن أكثر من ذكر الموت فإنه يخشى من الله سبحانه وتعالى ويستحي منه .

 

وهذا الموت – أيها الأحبة – ما ذكره أحدٌ وكان في ضيق إلا وسعه الله عز وجل عليه

قال النبي صلى الله عليه وسلم كما عند البزار ( استكثروا من ذكر الموت فإنه ما من أحد ذكره في ضيق إلا وسعه الله عز وجل عليه )

هذا الموت من أكثر ذكره نال بذكره الدرجات العلى ، لما اثني على رجل عند الرسول صلى الله عليه وسلم بالعبادة ، فقال صلى الله عليه وسلم ( أويذكر الموت كثيرا ؟ قالوا لا يا رسول الله ، قال ما بلغ صاحبكم مما تذهبون إليه شيئا ) حتى لو أحسن العبادة لكن بقلة ذكره للموت لم يبلغ تلك الدرجة التي ترون أنها عالية .

 

وذكر الموت – أيها الأحبة في الله – يستشعر به العبد عظمة الله عز وجل لأنه سبحانه وتعالى جعل ملائكة لهذا الأمر الجلل

{ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً } هناك ملائكة تحفظنا ، لكن إذا جاء قدر الله وأمر بالموت انتهى كل شيء

{ حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } الأنعام61 ، هؤلاء الملائكة ليسوا ملائكة لا رئيس لهم – كلا – بل هناك رئيس لهم كما قال تعالى { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } السجدة11 ، وكل ما يجري للعباد من هذا الأمر الجلل فإنما هو بأمر الله عز وجل

 { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } الزمر42 ، فهو الذي أمر الملائكة بذلك ، إذاً هو الذي يحيي ويميت

هذا الموت – أيها الأحبة في الله – لا يعلم أحد متى يفجأه ، ولذا قال سبحانه وتعالى { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } لقمان34، بل من عجائب الله سبحانه وتعالى قد يقدَّر أن يكون موته في مكان كذا فيرتحل إلى ذلك المكان ، ولذا صح عنه عليه الصلاة والسلام ( إذا أراد الله قبض عبد في بلد جعل له فيها حاجة ) يعني يذهب إلى تلك الحاجة في ذلك البلد لكي يوافي قدر الله عز وجل ، وهذا الموت مهما تحصن الإنسان منه فإنه آتيه لا محالة ، ولذا قال سبحانه وتعالى في الآية التي معنا { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } النساء78 ، وقال تعالى { قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ } آل عمران154

{أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } في أي مكان ، في بحر ، في جو ، في أرض ، في جبل ، في غار .

{ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ }

يعني في حصون مرتفعة ، فإذا جاء أمر الله فلا راد لأمره ، وكما أسلفنا مهما طال عمر ابن آدم فإنه إلى زوال ، ولذلك في الصحيحين لما أراد الله سبحانه وتعالى أن يقبض روح موسى عليه السلام أرسل إليه ملك الموت ،فإن الأنبياء إذا أراد الله عز وجل قبض أرواحهم يُخبرون أيريدون البقاء أكثر فلهم ذلك ، وهذا من خصائص الرسل عليهم السلام ، فلما أتاه في صورة رجل كما في رواية الإمام أحمد فصكه موسى عليه السلام ففقأ عينه لأنه أتاه في صورة رجل ، فلما رجع إلى الله سبحانه وتعالى ، والله تعالى أعلم بما دار بينهما ، قال ملك الموت أرسلتني إلى رجل لا يريد الموت ، فقال سبحانه وتعالى اذهب إليه وقل له يضع يده على متن ثور ، يعني على ظهر ثور ، فله بكل ما غطت يده بكل شعرة سنة ، فأتاه فأخبره ، فقال موسى عليه السلام ثم ماذا ؟ يعني بعد ما تنتهي هذه السنوات التي قدِّرت لي إن بقيت إلى تلك المدة ، قال ثم ماذا ؟ قال الموت ، فقال موسى الآن ، بما أن المرد إلى الله سبحانه وتعالى ولو طال الزمن فالآن )

 

فإذاً مثل هذه الآية ومما يشابهها مما يذكر الموت ، فعلى العبد أن يستشعر هذا الأمر الجلل وأنه عظيم وأنه سيأتيه ، وأن مثل هذا الموت يدعوه أن يكون تقيا لله سبحانه وتعالى ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما عند الترمذي ( أكثروا من ذِكر هادم اللذات ) فهو يدعو العبد إلى أن يكون تقيا يستشعر عظمة الله سبحانه وتعالى وعقابه ، ولا يكون خوفه من الموت من أجل أنه يفارق هذه الدنيا ، لأنني أسئل كثيرا من بعض الناس يقول أنا أخاف من الموت ، ولما تتحدث معه ترى أنه يخاف الموت من أجل أنه سيفقد هذه الدنيا أو سيفقد أولاده أو أنه يخشى على أولاده من بعده أن يضيعوا ، وليس في تذكر الموت لمثل هذا الأمر خير ، لأن تذكر الموت الذي لا يدعوك إلى العمل الصالح وإنما هو رهبة وخوف فإنه لا خير فيه ، إنما الذي فيه خير أن تحرص على أن يكون خوفك من الموت خوفا من الله عز وجل ، ولذلك يقول الحسن البصري رحمه الله ( ليلتان ويومان لم يمر على الخلائق مثلهما ، الليلة الأولى إذا بات أول ليلة وهو من أهل القبور ، والليلة الثانية هي الليلة التي صبيحتها يوم القيامة ، وأما اليومان فيوم تعطى فيه كتابك إما بشمالك وإما بيمينك ، واليوم الثاني الذي تدخل فيه إما إلى الجنة وإما إلى النار )

نسأل الله عز وجل أن يخشَّع قلوبنا وأن يهدينا سبل السلام ، والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد .