التفسير المختصر الشامل الدرس (10) تفسير سورة البقرة من الآية (111) إلى (123)

التفسير المختصر الشامل الدرس (10) تفسير سورة البقرة من الآية (111) إلى (123)

مشاهدات: 551

التفسير المختصر الشامل ( 10 )

تفسير سورة البقرة :

من الآية ( 111) إلى الآية (  123)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فضيلة الشيخ :  زيد بن مسفر البحري

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بِسْم اللهِ الرَّحمٰنِ الرَّحيم  الحمدُ للهِ ربِّ العالمين ، وأُصلِّي وأُسلِّم على خاتم الأنبياء وإمام المُرسلين نبيّنا مُحَمَّدٍ وعلى آلهِ وأصحابهِ وَسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدِّين

أمّا بعد :

فَكُنّا قد توقّفنا عند تفسير قَول الله عزّ وجلّ عن اليهود والنصارى :

{ وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى }

 

{ وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا } :

( هُنا ) في قَولهم  { لَن يَدْخُلَ } نَفْي { لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى }

{ أَوْ } : للتَقسيم ، بِمَعْنَىٰ أنّ اليهود قالوا : لن يدخل الجنّة إلّا مَن كان يهوديًّا ، والنّصارى قالت : لن يدخل الجنّة إلّا مَن كان نصرانيًّا

 

{ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } :

أي هذه أماني تَمَنَّوها ، وهي باطلة ، وذلك كما قال عزّ وجلّ على أَحَد وُجوه التفسير كما مرّ معنا :

{ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } مُجرّد أمانيّ .

 

{ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ } :

هَاتُوا البُرهان والدّليل والحُجّة على ما ذكرتم { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } فيما زعمتم .

 

ومِن ثَمَّ فإنّه كما يَلزَم مَن أثبَتَ حُكْمًا أن يَـــأْتِـــيَ بالدّليل ، كذلك مَن نَفَى حُكمًا فإنّه يُـلْــزَم بالدّليل لهذه الآية . ولِذا لَوْ قال شخـصٌ عن شخص إنّه ليس مِن أهل السنّة ، أو هذا الشخص ليس بِسَلَفيّ ، فَيُقال : أنتَ نَفيْتَ فَأْتِ بِالبُرهان ، ثُمَّ إذا أَتَيْتَ بهذا البرهان ، هل هُوَ بُرهانٌ قوِيّ أم أنّه غيرُ قويّ ؟

 

{ بَلَى } :

أي ليس الْأَمْـرُ كما زَعَمَتْهُ اليهود ، ولا كما زَعَمَتْهُ النصارى { مَنْ أَسْلَمَ } وَصْفٌ عامّ { مَنْ أَسْلَمَ } أي أخْلصَ { وَجْهَهُ لِلَّهِ } وذَكَرَ الْــوَجْــه هُنا ؛ لأنّه أشرف أعضاء الإنسان

 

{ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } :

{ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } :

هذه تدلّ على وجوب الإخلاص لله عزّ وجلّ { وَهُوَ مُحْسِنٌ } تدلّ على وجوب اتّباع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم .

 

وَهُــنــا فيه الــتَّــحْــذِيــــر مِن الْــبِـــــدَعِ . وأنّ مَن عَمِل عَمَلًا يرجو به ثواب الله لكنّه ليس بِمُحسِن ، ليس على طريقة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فإنّ عبادته وفِعلَه مَردود ، ولذلك قال صلّى الله عليه وآله وسلّم كما في الصّحيحيْن :

( مَن أحدثَ في أُمرنا هذا ما ليسَ مِنهُ فَهُوَ ردّ )

 

{ فَلَهُ أَجْرُهُ } :

أي مَن أخلصَ لله واتَّبَع في هذا العمل طريقة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم { فَلَهُ أَجْرُهُ } أي ثوابُه { عِندَ رَبِّهِ } وما كان مِن عند الله عزّ وجلّ فَهُوَ ثواب عظيم ، وقال { فَلَهُ أَجْرُهُ } بِصيغة الإفراد ، باعتِبار لفظة

{ مَن }

 

ثُمَّ قال بعد ذلك { وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } وَلَمْ يَقُل ( ولا خوفٌ عليه ) باعتبار معنَى { مَنْ } لأنّ ( مَن ) مِن صِيَغ العُموم ، فقوله { فَلَهُ أَجْرُهُ } رَدٌّ على لفظة { مَنْ } ، ( فلا خَوْفٌ عليهم ) باعتبار مَعْنى ( مَنْ )

 

{ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } :

وفي هذا نَفْيٌ لِلخَوف عنهم في جميع الأزمان { وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } أي على ما مَضى مِنْهُم ، لأنّ ( الخَوف ) نَفيٌ لما يَخشاهُ الإنسان ممّا يُستقبَل ، و( الحُزن ) شَيْءٌ مرّ بالإنسان فيَتذكّرُه .

 

{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ } :

اليهود حَكَمَتْ على النصارى بأنّها ليست على طريقةٍ حَسَنَة ، ومِن ثَمَّ فإنّهم لمّا قالوا ( ليسوا على شيء ) فَفِي هذا تكفيرٌ لَهُم ، فدلّ هذا على أنّ التَّكْفير مَوجود حَتَّىٰ في الأُمَم السَّابِقة

{ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ } :

وهذا على وَجْه العُموم ، ويَدخُل فيه ما قيل مِن أنّ نصارى نَجران لمّا أَتَوا إلى المدينة والتَقَوا بِيَهود المدينة ، قالت اليهودُ هذا القَول ، وقالت النصارى هذا القَول .

 

قال الله عزّ وجلّ :{ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ } يَعْني أنّ هذا الحُكْم حَكَموا به مِن تِلقاء أنفسهم ، وإلّا فَفِي كُتُبِهم ليسَ هذا الحُكْم ، وإنّما الحُكْمُ عِنْدَ الله عزّ وجلّ كما مرّ في الآية السَّابِقة :

{ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }

 

{ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ } :

أي مِثْل هذا القَول : { قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ } أي كُفَّار قُرَيْش ، ويَدخُل في ذلك أيضًا قَوْل مَن يقول بأنّ ( مَن لا يَعْلَم ) هُــمُ الأُمَم السابقة

 

{ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } :

ثُمَّ قال { مِثْلَ قَوْلِهِمْ } : مِن باب التأكيد ، لأنّه لو اقتَصَر فقال :

{ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } لَكَانَ الوصفُ صادِقًا عليهم في المِثْليّة ، فَلَمَّا قال { مِثْلَ قَوْلِهِمْ } دلّ على التأكيد

 

 { فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } :

هؤلاء النَّصَارَى قالت : { لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ } واليهود قالت كذلك لِلنصارى ، فَاللهُ عزّ وجلّ يَحْكُمُ بَيْنَهم يوم القيامة حُكْمًا مِن عندِه عزّ وجلّ ، وهوَ حُكمُه الجَزائيّ جلّ وعلا في يوم القيامة

 

{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ } :

{ وَمَنْ أَظْلَمُ } : استِفهام بِمَعنى النّفْي ، أي لا أحد أظلم { مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } فدلّ هذا على أنّ المساجِد إنّما بُنِيَت لِما بُنِيَت لهُ مِن ذِكْر الله عزّ وجلّ ، ولِذا قال عزّ وجلّ في سورة النور { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ }

 

وقولُه هُنا مَسَاجِد { مَسَاجِدَ اللَّهِ }   :

 وهذه الآيةُ اخْتلَف المفسِّرون :

  • فقال بَعْضُهُمْ المَقصود مِن ذلك المسجد الذي هو ( بيت المَقدِس ) وذلك مِن أنّ بُخْتُنَصَّر البابِليّ المَجوسيّ أتى إلى بيت المَقدِس وعاوَنَه النصارى على ذلك لِبُغضهم لِليهود آنَذاك ، وخَرَّبوا المسجد الأقصى [ كما سيأتي معَنا إشارةً في قوله عزّ وجلّ في أوّل سورة الإسراء ]

{ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا (5) }

 

  • وقيلَ إنّ هذا التّخريب ،ليس هو الذي حصَل مِن بُخْتُنَصَّر وإنّما هو المَنْع والتخريب الذي حصَل مِن كُفَّار قريش للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه رضي الله عنهم في صُلْح الحُديْبية

ولذلك قال عزّ وجلّ :

{ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }

 

  • والذي يَظهَر مِن ذلك أنّ هذا شامِل لِأُولئك ولِكفّار قريش، ويَدخُل في ذلك كلّ المساجِد .

ولذلك قال هُنا :

{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ } بِصيغة الجمع

 

{ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } :

يعني مَنَع أن يُذكَرَ اسمُ الله عزّ وجلّ في ذلك ، أي في هذه المساجد

{ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } لأنّ المساجد إنّما أُريدَ منها أن تُعْمَر ، تُعْمَر حِسِّيًّا ، وتُعْمَر مَعْنَوِيًّا بِالطاعة :

{  إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ  فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ }

 

{ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } :

إمّا بِهَدمِها ، وإمَّا بِمَنعِ المسلمين مِن إقامة شعائر الله عزّ وجلّ فيها  :

{ أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ }

 

ثُمَّ لِيُعلَم أنّه لَوْ أُغْلِقت المساجِدُ مِن باب المُحافظة عليها بعد الفراغ مِن الصلوات ، وذلك حَسَب اختِلاف الأزمان فإنّه لا يَدْخُل ضِمن هذه الآية ؛ لأنّ  المَقْصودَ مِن إغلاقِها إنّما المقصود لِمَصلحتها ، وهذا يَختَلِف باختلاف الأحوال وباختِلاف الأماكن وباختِلاف الأزمان .

 

{ أُولَئِكَ } :

أي الذين مَنَعوا مساجد الله وسَعَوا في الخراب :

{ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ } :

أي قَدَرًا لَوْلا ظُلْم الظَّلَمة الذين لَمْ يُمَكُّنوا أَهْلَ الْخَيْر مِنْهَا ، ولذلك النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في السنة التاسعة مِن الهجرة بَعَثَ ألّا يَحُجّ بعد هذا العام مُشْرِك وألّا يطوف بِالبيت عُرْيان ، ويَدخلُ أيضًا :{ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ } يَعْنِي خَوِّفوا مَن أرادَ أن يدخلَ فِيها .

 

{ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ } :

عِقابهم في الدنيا الخِزي ، فَوَقَعَ ما وقعَ للنّصارى ، كما قال العُلماء : مِن أنّهم بعد معاونتهم لِبُختنصَّر البابِليّ مِن أنّهم لا يدخلون بيت المقدِس إلّا والخوفُ قَدْ ملَأ قلوبَهم ، وَأَمَّا بالنِّسبة إلى كُفَّار قريش فَهُوَ ما وقعَ لِكفّار قريش مِن الْخِزْي في فتح مكّة ، فإنّهم بَعد ما فتحَ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مكّة أصبَحوا بِمثابة .. بل إنّهم خائفون مِن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم حَتَّىٰ مَنَّ عليهم

 

{ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } :

وَصَفَ العذابَ هُنا بأنّه عظيم ، وذلك لِعِظَم ما فَعَلُوه ، لِأَنَّ مِن أعظم الذُّنوب أن يُمنَعَ الناس مِن مساجد الله عزّ وجلّ أن يذكرَ فيها اسمه ، وأن تُخرَّب بيوتُ الله عزّ وجلّ .

 

{ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } :

لهُ مُلْك المَشْرِق والمَغْرب ، ويدلّ هذا على أنّه مالِكٌ جلّ وعلا لِجميع الْجِهَات

 

 { فَأَيْنَمَا } : وأوّل الآية يدلّ على العُموم

 { فَأَيْنَمَا } :

 أينَ : اسم شرط يدلّ على العُموم : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } وفي هذا إثبات صفة الوَجْه لله عزّ وجلّ بِمَا يليق بِجَلاله وبِعظمته ، ودلّ على ذلك أَكْثَر مِن خمسةٍ وعشرين دليلًا لإثبات أنّ الوَجه صِفةٌ مِن صفاته عزّ وجلّ ، لَكِنَّ أهل السنّة اختلفوا في هذه الآية .

 

بعضُ أهل السنّة كَمُجاهِد والشافعيّ قال :{ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } أي القِبْلَة ، مع أنّ مُجاهِد والشافعيّ يُثبِتون أنّ للهِ عزّ وجلّ وجهًا يليق بِجلاله وبِعَظَمته ، ومع ذلك فالآية لا تدلّ على ما ذهبوا إِلَيْهِ ؛ لأنّه ليس هُنا ذِكرٌ لِما يتعلّق بالقِبلة ، وإنّما الآية في أسلوبها تدلّ على العُموم :{ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } وأتى باسم الشَّرْق الذي يدلّ على العُموم : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ }

 

 وفي خِتام الآية :

{ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } :

يدلّ على السَّعَة ، فَهُوَ جلّ وعلا { وَاسِعٌ عَلِيمٌ } فعِلْمه وَسِع كُلّ شيء ، فَـمَنْ توجَّه إلى الله عزّ وجلّ في أيّ مكان وفي أيّ زمان فإنّ الله عزّ وجلّ عالِمٌ بِحاله ويَسمعُ قَولَه ، ولذلك كما قال عزّ وجلّ { إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا }

وإذا عَلِمَ العَبْدُ أنّ الله سميعٌ عليمٌ اطمأنّت نفسُه وتفاءل وحَسُنَ ظنُّه بالله عزّ وجلّ

 

{ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } :

حَتَّى لَوْ قيل على القول الآخر { فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } مِن أنّه القِبلة ، فلا شكّ أنّ مَن صلّى وتوجَّه إلى القِبلة ، فإنّه يتوجَّه إلى الله ، ولذا في الحديث في الصحيح ، مِن أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال  ( إذا صلّى أحدُكم فلا يَبْصُق تِلقاء وجْهِه ؛ فإنّ الله قِبَل وجْهه ) لَكِنَّ الآيةَ تدلّ على إثبات صِـفَـة الوجه لله عزّ وجلّ

 

{ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا } مَن ؟

  • النصارى ، الذين قالوا : إنّ المسيح ابْنُ الله .
  • وكذلك اليهود الذين قالوا : إنّ عُزَيْرًا ابْنُ الله :

{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ }

  • وأيضًا كذلك كُفَّار قريش الذين جعلوا الملائكة بنات لله عزّ وجلّ

 

{ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ } :

تنزيه لله عزّ وجلّ عمّا لا يليق به ، وَمِمَّا لا يليق به أن يُنسَب إليه الولد

{ سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } :

وهو مالِكٌ لما في السموات والأرض .

 

والأُبُوّة تَتَنافى مع المِلكيّة ، ولذلك حَتَّىٰ أهل الْعِلْمِ استدلّ بعضُهم بهذه الآية مِن أنّ الأب لَو مَلَك ابنَه الرَّقيق فإنّه يعتُقُ عليه ، ولله المثل الأعلى ، وذلك لأنّ الأُبُوَّة لا تتوافق مع الملكيّة .

وقد دلّت الأحاديث الصحيحة على هذا الحُكْم الشرعيّ .

 

ولذلك إذا نفَى اللهُ عزّ وجلّ عن نفسه الولد وردّ على هؤلاء ، تَجِد أنّه يَذْكرُ عزّ وجلّ أنّ له مُلْك السموات والأرض . ولذلك قال بعدها : { كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } كُلّ الخَلْق { قَانِتُونَ } خاضِعون مُتَذلِّلون ( فالقُنوت ) هُنا هُو بمعنى التذلّل والخضوع .

وَأَمَّا ما جاء في مُسند الإمام أحمد مِن أنّ كُلّ حَرْفٍ  في كتاب الله وهو القنوت يدلّ على الطاعة فإنّه حديثٌ لا يصحّ عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم .

 

فالقُنوت له معانٍ متعدّدة في القرآن . ( هُنا ) القنوت العام . كُلّ الخَلْق المؤمن والكافر كُلٌّ له قانِتون ذليلون خاضِعون ، كما قال عزّ وجلّ :

{ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ }

 

{ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } :

أي مُنشِئُهُما على غَيرِ مِثال سابق ، وذلك لأنّ البديع في اللغة العربيّة هو المُنشئ لِشَيء على غَير مِثالٍ سابق

 

ولذلك :

( البِدعة ) بِمَا أنّ مَن أتى بِها لَمْ يأتِ بها على أصلٍ ، وإنّما أَحدثَها في دِين الله عزّ وجلّ سُمِّي بأنّه مُبْتَدِع

 

ولذلك النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال كما في الصحيحين ( مَن أحدثَ في أُمرنا هذا ما ليس منه فَهُوَ ردّ ) وَلـَمَّا قد يُتَوَهَّم مِنْ أنّ مَن عَمِل بِها لا يَدخلُ في الذَّم أتَتْ رِواية مسلم ( مَن عَمِل عَمَلًا ليسَ عليه أمرُنا فَهُوَ ردّ )

 

{ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } :

أي مُنشئ السموات والأرض على غَير مِثالٍ سابق ، كيف يكون له ولد .

ولذلك في سورة الأَنْعَام :

{ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ } أي زوجة  : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

 

{ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } فَهُوَ جلّ وعلا إذا أراد شيئًا قال له ( كُن ) فيكون ذلك الشيء .

ومِن ثَمَّ فإنّ في هذا رَدًّا على النصارى الذين قالوا – ورَدًّا على غيرهم – الذين قالوا مِن أنّ عيسى ابنُ الله

ولذلك قال عزّ وجلّ في سورة آل عِمْران :

{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } النِّهاية ، نِهاية الآية { ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } فيتَوافق ما في سورة آل عمران مع هُنا .

 

{ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } :

ومِن ثَمَّ فِإنّ بعضًا مِن الناس يقول ( يا مَن أَمرُه بين الكاف والنون ) وهذا خطأ ، وإنّما الصواب إذا أراد أن يقول هذا القَول ، إنّما يقول ( يا مَن أمره بعد الكاف والنون ) وليس بَين الكاف والنون ، لقوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }

ثُمَّ إنّ قولَه ( بينَ الكاف والنون ) كنْ : الكاف حرفٌ ليسَ فِعلًا ، النُّون : حرف ليسَ فِعلًا . فكيف يكون هذا الشيء بَين الكاف وبَين النُّون ؟

 

{ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } :

وَهُم كُفَّار قريش ، كما هو ظَاهِر السِّياق ، ويَدخلُ فيه ضِمنًا الأُمم السابقة ؛ لأنّهم لا يعلمون { وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ } هَلّا { يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ }

 

يعني يقولون : يا محمّد : هلّا يُكلّمُنا الله أو تأتينا بآية كما أتى بها الأنبياء السابقون ، كناقة صالح وما شابه ذلك ، حَتَّىٰ نؤمنَ بِـكَ ، وهذا مِن التعنّت . ولذلك :

قال عزّ وجلّ عن هؤلاء :

{ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا }

 

{ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ  كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ }:

فالقَوْل حَصَلَ مِن هؤلاء ومِن هؤلاء .

 

ما العِلّة ؟ مع أنّهم لَمْ يجتمِعوا معهم في زمان !

 

{ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } :

تشابهت قلوبُهم على الكُفر وعلى الطُّغيان ، ولذلك قال عزّ وجلّ :

{ كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ  } ما أوصى بعضُهم بعضًا به {  بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) } فالطُّغيان في قلوبهم

 

 { تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } :

فالآيات واضحة ، القرآن واضِح لِــمَـنْ في قلبه يقين ، لأنّ اليقين هو العِلْم التامّ الذي يَستَلزِم العمل ، ولذلك ماذا قال عزّ وجلّ :

{ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ  } كِفاية ، يكفي : أنّ هذا آية { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }

 

لكنّ هؤلاء اقترحوا الآيات لا مِن أجل أن يؤمِنوا وَلَكِنْ هُـمْ مُتَعَنِّتون

{ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } :

وهذا يَدُلّ على ماذا ؟ يدلّ على أنّ مَن تَمعَّنَ وتَدبّرَ في آيات الله عزّ وجلّ أَوْصَلَته بإذن الله عزّ وجلّ إلى اليقين وهو العِلم التامّ .

 

{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } :

تَسْلِيةً منه جلّ وعلا لِلنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا اقترحوا هذه المُقترحات

{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ } : ما أتيتَ به هو الحقّ وليس هو الباطل ، فأنتَ على حقّ { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ }

 

قال تعالى :

{ وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } .

وهُنا { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ } ما واجبك ؟ { بَشِيرًا } لِمَنْ أقبَلَ على الله { وَنَذِيرًا } لِمَن أعرَضَ عن الله عزّ وجلّ :

{ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ }

 

{ وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } :

لا تُسأل عمّا فَعَلَه هؤلاء الذين أرادوا بهذه المُقترَحات والتّعنُّتات أرادوا أن يكونوا مِن أهل النار ، فهُم أصحاب الجحيم .

 

وَأَمَّا ما وَرَد على قراءة { وَلَا تَسْأَلْ } لأنّ قولَه { وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } نافية ، { وَلَا تَسْأَلْ } نَهْي . وذلك قيل : إنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال : يا لَيتَ شِعري ، ما حالَ أَبَوَيّ ؟ ما حالُهما ؟ فَأنزلَ الله عزّ وجلّ هذه الآية { وَلَا تَسْأَلْ عَـنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } على تِلْك القراءة ، لكنّ الحديث ضعيف . ثُمَّ أيضًا مِن حيث الْمَعْنَىٰ ، لا يتوافق باعتبار ماذا ؟ هذه الآية أتَتْ تَسليةً للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم .

 

{ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } :

رِضا اليهود والنّصارى لَن يَتِمّ ، لن يتمّ منهم لكَ إلّا بأمرٍ واحد ، وهوَ أن تَتَّبِعَ مِلّتَهم ، لَوْ تنازلتَ وتنازلْتَ وتنازلَ المسلمون ، وتنازلوا لهـؤلاء الكفّار فإنّهم لن يَرضَوا عنهم .

قال عزّ وجلّ :

{ هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }

 

{ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } : واتّباع مِلّتِهم ، الضلال .

وقوله هُنا { حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } : وَحَّدَها ، وَحَّدَ المِلّة ، مع أنّ الضمير عائدٌ على اليهود والنصارى . ولذلك قال مَن قال مِن العُلماء : بِمَا أنّهم مِلّةٌ واحدة ، فإنّ المسلم لا يَرِث مِن الكافِر ، ولا يَرِث الكافِر مِن المُسلم ، كما ثبتَ بذلك الحديث عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم .

 

وقال بعض العلماء : بِمَا أنّهم مِلَّة واحدة ، فإنّهم يتوارثون فيما بينهم : اليهوديّ يَرِث مِن النصرانيّ ، والنصرانيّ مِن اليهوديّ ، واليهوديّ مِن المَجوسيّ ، وهكذا .

لكنّ الصواب لا يَتوارثون . لا يَتَوارث – كما ثبتَ بذلك الحديث – ( لا يَتَوارَث أَهْلُ مِلَّتَيْن شتّى ) لكنّ اليهوديّ يَرِث مِن اليهوديّ ، نَعَمْ ، النصرانيّ يَرِث من النصرانيّ ، نَعَمْ .

 

 { وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ  قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى } :

هذا هو الهُدى . هُدى مَن ؟ هُدَى الله ، وأضافَهُ إلى نفسه ، فما سِواه ضلال ، وما أنتم عليه ضلال . فكيف أتّبِعُكُم ؟!

 

ثُمَّ أيضًا { قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى } : فَالهِدايةُ لَيْسَتْ بِيَدي حَتَّىٰ أهْدِيَكم

{ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم } :

فَما هُم عليه مِن هذه المِلّة ليست مِلَّةً صحيحة ، وإنّما هي مُجرّد أهواء

{ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } دلّ على أنّ ما أنتَ عليه هو العِلْم ، وأنّ ما سِواه هَوى

قال تعالى :

{ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ  وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى }

فَالهُدى هُوَ خِلاف ما هُوَ عليه هؤلاء مِن الضلال

 

{ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم } :

الخِطاب مُوَجَّه للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وحاشاه أن يَتَّبع هؤلاء ، لكنّه خِطابٌ لِغَيره ، فإذا كان هذا الخِطاب مُوَجَّهًا لِلنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ولن يَفْعَل حاشاه عليه الصلاة والسلام ، فما ظَنُّك بِمَن هُوَ دونَه مِن الأُمّة

 

{ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم } :

دَلّ على أنّ دِينَهُم هَوى { بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ } صرّح باسم المَوْصول ، وَلَمْ يَقُل ( بعدَ ما ) المَوصُوليّة ، أتى بِـ ( الّــذي ) الدّالة على التصريح

 

{ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ } :

يحفظُك ، ويأتي إليك بِالخير { وَلَا نَصِيرٍ } أي ينصرك ويدفع عنك الضُّرّ والشَّرّ

 

 { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ } :

لمّا ذَكَرَ حالَ هؤلاء وما زعموه أنّهم على هُدى بَيَّنَ عزّ وجلّ أنّ الذي على الهُدى هو الذي يتلو الكِتاب ، سواءٌ كان مِن الأُمم السابقة مِن اليهود والنّصارى أو مِن المسلمين

 

  { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } :

{ الْكِتَابَ } : شامل لِلتوراة والإنجيل والقرآن

{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ } :

{ يَتْلُونَهُ } : يتلونَه : يعني يتّبعونه حقّ تِلاوتِه ، فالتِّلاوة هُنا : الاتِّباع . كما قال عزّ وجلّ { وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا } يعني إذا تَبِعَ الشمس

 

{ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ } :

ويَتضمّن ذلك ما ذَكَرَه بعض المفسِّرين مِن أنّهم إذا مَرّوا بِآية سؤال سألوا ، وإذا مَرّوا باستِعاذة بآية استعادة استعاذوا

 

{ أُولَئِكَ } مَن يتلوهُ حقّ تِلاوتِه { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ، ما سِوى هؤلاء فلَيْسوا بِمؤمنين ، ولذلك خَتَمَ الآية بِقَوله

{ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } والخُسران مصيره إلى النار .

ولذلك قال عزّ وجلّ في سورة هود :

{ أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ }

 

{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا } :

رَجَعَ السِّياق إلى اليهود ، يُذَكّرُهم مِن أنّهم مِن صُلب إسرائيل ( الذي هو يعقوب ) الذي أطاع الله

 

 { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } :

مرّ معنا تفسيرها ، لكنّها كُرِّرَت مِن باب تذكير هؤلاء بِماذا ؟ بِعِظَم نِعَم الله عزّ وجلّ عليهم .

 { وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } :

والعالمون : مرّ علينا مَن هُـم العالَمون بالنِّسبة إلى ما ذُكِر في هذه الآية .

 

{ وَاتَّقُوا يَوْمًا } :

ذَكَّرَهم بأنّ هُناك يومًا سيُحاسِبُهم الله عزّ وجلّ { وَاتَّقُوا يَوْمًا } ومَرَّت هذه الآية

 

{ لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ } :

مَرَّت هذه الآية ، لَكِنْ هذه الآية اختلفت عن الآية السابقة :

 

  • الآية السابقة { وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ } قدّم الشّفاعة .
  • و هُنا قدّم :

{ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ }

  • قَدَّمَ هنا وَقَدَّمَ هُنا باعتِبار ماذا ؟

باعتِبار أنّ الناس يتَفاوَتون مِن حيث مايَنتَفِعون بهِ في هذه الدُّنيا مِن هذه الأمور الثلاثة : الشّفاعة ( يعني الوساطة ) ، والفِداء ( المال ) ، والنُّصرة

فَبعضُ الناس ربّما يُقدّم -باختِلاف حالِه ، يُـقَـدِّم مِن أجْلِ أن يَدفعَ عنه الضُّرّ أو يَحصُل له الخير- يُـقـدِّم الشفاعة  ، وبعضهم قد يُـقـدِّم المال .

وبِذا أتى الاختلاف في سياق هذه الآية عن الآية السابقة .

ممّا يدلّ على أنّه في يوم القيامة ، ما تَنتَصِرون به في هذه الدنيا مِن الشفاعة وما تنتفعون به في هذه الدنيا مِن الشفاعة ومن المال وهو الفِداء ومِن الانتِصار لن يكونَ لكُم يوم القيامة

قال تعالى :

{ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) }