التفسير المختصر الشامل الدرس (14) تفسير سورة البقرة من الآية (159 ) إلى الآية (171)

التفسير المختصر الشامل الدرس (14) تفسير سورة البقرة من الآية (159 ) إلى الآية (171)

مشاهدات: 766

التفسير المختصر الشامل ( 14 )

تفسير سورة البقرة :

من الآية ( 159) إلى الآية (  171)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فضيلة الشيخ :  زيد بن مسفر البحري

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بِسْم اللهِ الرَّحمٰنِ الرَّحيم  الحمدُ للهِ ربِّ العالمين ، وأُصلِّي وأُسلِّم على خاتم الأنبياء وإمام المُرسلين نبيّنا مُحَمَّدٍ وعلى آلهِ وأصحابهِ وَسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدِّين

أمّا بعد :

فَكُنّا قد توقّفنا عند قول الله عزّ وجلّ :

{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى } :

{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ } :

هذه الآية في سِياق أهل الْكِتَاب ويَدخُل فيها علماء هذه الأُمّة إذا كَتَموا دِين الله عزّ وجلّ { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ } أتى بِصيغة الفعل المضارِع الذي يدلّ على الاستِمرار . استِمرار كِتمانهم للعِلم الشرعيّ

 

{ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا } :

وهذا فيه تَعدِّي على شرع الله عزّ وجلّ ، إذ أن الله عزّ وجلّ أنزل هذا الكتاب { يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى }

 { مِنَ الْبَيِّنَاتِ } :

أي الدلائل الواضحات والبراهين الساطِعة { وَالْهُدَى } الْهُدَى في شرع الله عزّ وجلّ .

 

فَتَضمّن الدِّين أنّه دلائل وبراهين ، وهو هُدًى لِمَن وفّقه الله عزّ وجلّ ، ولذا قال عزّ وجلّ عن القرآن :

{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ }

 

{ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ } :

أي وضّحناه { لِلنَّاسِ } اللام : تعليليّة ، أي لأجل الناس . فَاللهُ عزّ وجلّ أنزل الكُتب مِن أجل أن يَهتَدِيَ الناس . فَفِي كِتمان هؤلاء لِهَذَا الْعِلْمِ كما أنّ فيه تعدِّيًا على حقّ الله أيضًا فيه كذلك تعدِّي على حقّ الناس

 

 { مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ } :

 { فِي الْكِتَابِ } جِنس يَشْمل التوراة والإنجيل والقرآن

 

 { مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ }

يَلعنهم الله عزّ وجلّ ويلعنهم اللاعِنون . واللَّعْن : هُوَ الطَّرد والإبعاد عن رحمة الله عزّ وجلّ . فَــمَـــنْ لَعَنَه الله فقد طردَه مِن رَحمتِه

{ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } :

يعني أنّ اللاعنين يسألون الله عزّ وجلّ أن يَطردَ هؤلاء مِن رحمته

وهذه الآية في سِياق مَن كتمَ الْعِلْمِ الشرعيّ وَلَمْ يأخذْ عَلَيْهِ عِوَضًا . فكيف إذا أخذَ عليه عِوَضًا وثَمَنًا مِن هذه الدُّنيا

 { أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } :

في مُقَابِل هذا مَن نَشرَ الْعِلْمِ وبيّنه للناس فإنّه كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم كما ثبت عنه :

(( معلِّمُ الناس الخير يستغفرُ له كلّ شيء حَتَّى الحِيتان في البحر والنمل في جحورها ))

والجزاء مِن جِنس العمل .

 

{ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا } :

فهؤلاء مع أنّهم أقْدَموا على أمرٍ عظيم ، وهو كتمان الدِّين إلّا أنّ الله عزّ وجلّ فُتِحَ عليهم باب التوبة ، لكنّ هذه التوبة مُقيّدة بِشروط ليست كَتَوبةِ أيّ شخص قال : { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا } أي أصلحوا فيما يتعلّق بأنفسهم وفيما يتعلّق بِشَرع الله عزّ وجلّ { وَبَيَّنُوا } أي وضّحوا ما كَتَموه .

 

 ولذلك :

هذه الآية في حقّ كلّ مَن دعا إلى كُفر أو دعا إلى بِدعة . فَلَو أنّ إنسانًا دعا إلى أمرٍ كُفرِيّ أو إلى أمرٍ بِدعة ، ثُمَّ قال تُبتُ وَلَمْ يُبيِّن فإنّ تَوبتَه لا تُقبَل ، بل لابدّ كما أنّه دعا فيما مَضى إلى هذا الكُفر أو إلى هذه البِدعة لابدّ أن يصدع وأن يُصرِّحَ بأنّه تَبَرَّأ مِمَّا كان عليه مِن المذهب الكُفريّ أو المذهب البِدعيّ

 

 { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ } :

كرّر كلمة ( التوبة ) مِن باب أن يفتحَ لهؤلاء أبواب رحمته إن هُـمْ أقدموا عليه

 

{ فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } :

وهذان الاسمان يجتمعان كثيرًا ( التوّاب والرحيم ) وسبقَ الحديث عنهما . وهذا يدلّ على ماذا ؟

 

يدلّ على أنّ مِن رحمة الله عزّ وجلّ بالخَلْق أن شرع لهم التوبة ، يدلّ على أنّ التوبة مِن رحمته عزّ وجلّ .

 

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ } :

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } :

وقيّد { وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ } لأنّ مَن كفر بالله عزّ وجلّ ثُمَّ دَخَـلَ في الدِّين وتابَ قَبْلَ أن يموت فإنّه لا يدخلُ في هذه الآية

 

قال هُنا :

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ } :

 { أُولَئِكَ } :

أُشير إليهم بالبُعد ؛ لأنّهم بَعُدوا عن الخير وبَعُدوا عن الرحمة والهُدى

 

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } :

فالكلّ يلعنهم ، فالله عزّ وجلّ يلعنهم ويلعنهم الملائكة ويلعنهم الناس .

 

وَلَوْ قِيل مَن هُمْ على طريقتهم هُمْ مِن الناس ومع ذلك لا يلعنونهم . فالجواب عن هذا : أنّ هؤلاء يلعنون الكفّار ، ويلعنون – وهذا أيضًا قاعدة – يلعنون الظالم ، وَهُمْ مِن بينِ هؤلاء الكفّار . وإذا كانوا كذلك فيدخلون .

 

هذا في الدنيا . أيضًا يلعن الإنسانُ نفسَه في الآخرة باعتبار ما ذكره عزّ وجلّ :

{ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ }

 

{ خَالِدِينَ فِيهَا } :

{ خَالِدِينَ فِيهَا } : أي في النار أو في اللعنة لا تَعارُض بينهما

 

{ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ } :

لا مِن حيث الزّمن ولا مِن حيث نوع العذاب ولا مِن كَمِيَّة العذاب

 

{ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ } :

أي لا يُمهلون ، لا لِتَوبة ولا لاعتذار .

ولذلك :

قال عزّ وجلّ : { وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ }

 

{ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } :

جاءت هذه الآية لكي يبيّن أنّ مِن أعظم ما يجب أن يُصدع به وأن يُبيّنَه هؤلاء هو التوحيد . وأنّ على الداعية أن يبدأ أوّل ما يبدأ بنشر التوحيد وإلّا فَدَعْوَتُه لا خيرَ فيها .

 

{ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } :

أكّد على أنّه إلهٌ واحد ، وأكّد ذلك بقوله { لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } أي لا معبود بحقّ إلّا هُوَ .

 

ثُمَّ ختمَ الآية بقوله { الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } اسمان . مرّ معنا أنّه إذا اجتمع هذان الاسمان فالرحمن يتضمّن صفة الرحمة الواسعة ، والرحيم يتضمّن صفة الرحمة الواصلة .

 

وهذه الآية قال عنها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كما ثبت عنه : اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين :

 

{ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } :

وفي قوله تعالى  :

{ الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) }

 

وقد اختلف العلماء في هذا الاسم الأعظم . اسم الله الأعظم ما هو ؟

 

قال بعض العلماء كابن مَندهْ هو ( الله ) فالله هو اسم الله الأعظم . وذكر أدلّةً في بيان فضل هذا الاسم

 

وقال غيره كابن القيّم رحمه الله اسم الله الأعظم هو ( الحيّ الْقَيُّوم ) لأنّ  ( الحيّ ) يدلّ على صفات الله عزّ وجلّ الذاتيّة ، و( القيّوم ) يدلّ على صفات الله عزّ وجلّ الفعليّة .

وقال غيره ما جاء في الأحاديث الصحيحة كدَعوَة يونس عليه السلام :

(( لا إله إلّا أنتَ سبحانك إنّي كنتُ مِن الظالمين ، ما دعا بها مسلم إلّا استجاب الله دعاءه ))

وكذلك ما ورد مِن أحاديث .

 

  والذي يظهر لي :

أنّ الاسم الأعظم لله عزّ وجلّ هو كلّ اسم تضمّن الصفات الذاتيّة والفعليّة لله عزّ وجلّ ، أو كان اسمَيْن كالحيّ الْقَيُّوم تضمّن الصفات الذاتيّة والفعليّة لله عزّ وجلّ أو أي دعاء فيه أسماء لله عزّ وجلّ تضمّن هذا الدعاء أسماء ، تلك الأسماء بِمَجموعها تدلّ على صفات الله عزّ وجلّ الذاتيّة والفعليّة .

 

وبهذا تجتمع الأدلّة . واسم الله الأعظم يدلّ على ماذا ؟

يدلّ على أنّ أسماء الله تَتَفاضَل ، كما بيّن ذلك شيخ الإسلام رحمه الله ، وكذلك صفات الله عزّ وجلّ تَتَفاضَل .

 

ولذلك :

في حديث النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كما ثبت عنه :

( اللَّهُمَّ إنّي أعوذ برضاك مِن سَخَطِك وبِمعافاتك مِن عقوبتك وبِكَ مِنْكَ . لا أُحصي ثناءً عليكَ ..)

وقد بيّنتُ ذلك في شرحي على هذا الحديث بَيانًا واضِحًا مُفصّلًا .

 

{ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } :

هذه الآية . كُفَّار قريش لمّا قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنْسُب لنا ربَّك فذكر صلّى الله عليه وآله وسلّم هذه الآية وقرأ عليهم سورة الإخلاص { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }

 

{ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } قال

{ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } تعدّدت هذه الأسماء .

 

والقاعدة في أسماء الله عزّ وجلّ وفي صفاته أنّها إذا أتَتْ في سِياق الإثبات أنّها تُفصَّل كما في أواخِر سورة الحَشر :

{ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ }

أمّا إذا نُفِيَ عن الله عزّ وجلّ أسماء أو صِفات فإنّه يُجْمِل :

{ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }

 { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ }

 

{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } :

لمّا ذَكَرَ أنّ الله عزّ وجلّ هو الإلٰه الواحد وأنّه لا إله إلّا هو ، ذَكَرَ الدّلائل والبراهين التي تدلّ على أنّه يَجِبُ أن يُوَحَّد الله عزّ وجلّ وحدَه وألّا يُشرَك معه أحد

 

فالدلائل والبراهين على عَظَمَتِه عزّ وجلّ :

{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } :

في خَلْق السماوات ، في ارتفاعِها ، ما زيّنهُ الله عزّ وجلّ بها وفيها من النجوم ، والأرض وما أوْدَع الله عزّ وجلّ فيها مِن الْجِبَال والأنهار والمخلوقات .

 

{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ }

هذا يأتي بعد هذا ، هذا يقصرُ أحيانًا وذاك يطول ، أحيانًا يستويان

 

 { وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ } :

{ وَالْفُلْكِ } أي السُّفن { وَالْفُلْكِ } يأتي جَمْعًا ويأتي مُفرَدًا . إذا أُنِّثَ ، يَعني أتى بِأسلوب التأنيث فالمُراد الجَمع كما هُنا

{ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ }

 

أمّا إذا ذُكِّرَ فالمقصود المُفرد :

{ وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ }

 

 { وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي } :

علامات ودلائل { تَجْرِي فِي الْبَحْرِ } وهذه السُّفن تجري في البحر بأمر الله عزّ وجلّ :

{ وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ }

فدلّ هذا على أنّ هذه السُّفن تجري بأمر الله عزّ وجلّ ، ولو شاء الله عزّ وجلّ لأهلكها

 

 

{ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ } :

وسَخَّر الله عزّ وجلّ هذا البحر لِكَي تجريَ هذه الفُلك في هذا البحر

{ اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }

 

{ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ } :

وهذه تدلّ على العُموم ، ولذلك بعض مَن طَعَن في القرآن قال : إنّ كتابكم فِيهِ مِن أنّه فِيهِ كلّ شيء ، فأينَ التّوابل ؟ فذكر له بعضُ العلماء هذه الآية

{ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ }

 

{ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ } :

آية وعلامة ودلائل على قدرته عزّ وجلّ إذ أنزل هذا المطر مِن السماء

 

{ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } :

{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ }

 

{ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا } :

أي فرّق في هذه الأرض مِن كلّ دَابَّة . لو نظرتَ إلى هذه الأرض وما أوْدَعَهُ الله عزّ وجلّ فيها مِن دَوَابّ مُتنوِّعة مِن حيث الصِّغر من حيث الكِبَر مِن حيث المَشي مِن حيث السكون مِن حيث الذهاب والإياب . تَجِد أنّ هذا يدلّ على وجود الله وعلى عظمة الله عزّ وجلّ

 

{ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ } :

إذ صرّفَ الرِّياح عزّ وجلّ مَرّةً حارّة ومرّةً بارِدة ومرّةً تأتي بالعذاب ومرّةً تأتي بالرَّحمة ومرّةً جَنوبًا ومرّةً شمالًا ومرّةً شرقًا ومرّةً غربًا .

 

 { وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ } :

أي المُذلّل { بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } وهذا يدلّ على أنّ المطر ينزلُ مِن السَّحاب ، فإذا قال الله عزّ وجلّ عن هذا المطر مِن أنّه أنزله مِن السماء فالمقصود هو العلوّ ، لأنّ المطر ينزل مِن السَّحاب

 

ولذلك قال عزّ وجلّ :

{ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ } أي السَّحاب { أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ (69) }

{ وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا } أي مِن السُّحب .

 

{ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } :

تِلْك الآيات التي مرّت دلائل { لَآيَاتٍ } وعلامات { لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }

{ يَعْقِلُونَ } فيحضرون عقولهم مِن أنّ مَن دبّر هذه الأشياء وخَلَقها وأجراها إنّما هو الإلٰه الْوَاحِد الذي يستحقّ العُبوديّة وَحْدَهُ عزّ وجلّ

 

{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } :

أتَت هذه الآية لِيُبيّن أنّه بعدَ تِلْك الدّلائل والبراهين الواضِحة الساطِعة إذا بِقَوْمٍ مِن الناس ينصرفون عن تِلك الدّلائل ويعبدون غير الله عزّ وجلّ ويشركون معه هذه الأنْداد

{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا } :

أي نُظراء وشُبَهاء مِن الأصنام وما سِوى ذلك { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } أي يُحِبُّون هذه الأنداد وهذه الأصنام كَحُبِّهم لله { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ }

لِمَ ؟

 

لأنّ حُـــبَّ أهـلِ الإيمان لله عزّ وجلّ يُحِبُّونه في السَّرَّاء وفي الضَّرَّاء ، أمّا هؤلاء فإنّهم يحبّون الله عزّ وجلّ في الضرّاء فقط لِكَي يُنجِّيهم

{ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ }

 

{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } :

بعض المفسِّرين يقول : يُحِبّونهم كَحُبّ المؤمنين لله . لكنّ الأوّل هو الأظهر لأنّه قال بعدها { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ }

 

{ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } :

هؤلاء ظلموا ، وأعظم الظُّلم أن يُشرك مع الله عزّ وجلّ { وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ } أي لأنّ

{ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ }

معنى هذه الآية :

أنّ هؤلاء الذين صنعوا ما صنعوا لَوْ عَلِموا ما سيرونه مِن العذاب يوم القيامة وسيرون أنّ القوّة كلّها لله عزّ وجلّ يوم القيامة وأنّه شديد العذاب ما اتَّخَذُوا مِن دون الله أندادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ

 

{ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } :

فدلّ هذا على أنّهم يَرَوْن العذاب يومَ القيامة ويَرَوْن النار

{ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا }

 

{ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ } :

إذ تزول كلّ قوّة ، فالقوّة كلّها لله عزّ وجلّ في الدُّنيا وفي الآخرة

 

{ إِذْ تَبَرَّأَ } هذا بَيان لِحالِهم { إِذْ تَبَرَّأَ }

{ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا } : يعني الرؤساء مِنْهُم والأشراف { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا } وَهُمْ السَّفَلة مَن يَتْبع هؤلاء الرؤساء . تَبَرَّأ الرؤساء ممّن يتّبِعونهم

 

{ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ } :

رأى الجميع عذاب الله عزّ وجلّ { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ }

{ الْأَسْبَابُ } يدخلُ فيها كلّ سبب يوصِل إنسان إلى النجاة . انقطعت بِهم الأسباب ، لا شفاعة ، لا صداقة ، ولا مال ، ولا أيّ شيء

 

{ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ } :

بعض المفسِّرين يقول عن { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ } يعني ( عَـنْ ) والذي يظهر { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ } أنّ حالهم كَحال مَن أمْسَكَ بِحَبْلٍ لِكَي يَتَمَسَّكَ به ، فإذا سقطَ الحبلُ – وهذا السبب -سقطَ معه . فدلّ على أنّ هلاكَهم هلاكٌ مُحَقَّق .

 

{ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً } أي رَجْعة ، يتمنَّون { لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ } فعل مضارع منصوب بعد الفاء ؛ لأنّه أتى بعد التّمني

{ فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا } أي نتبرّأ مِن هؤلاء الرؤساء كما تبرّؤوا منّا

 

{ كَذَلِكَ } :

كما أراهم العذاب { يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ } تِلْك الأعمال الخبيثة الفاسدة تكون حَسَرات عليهم بَلْ يَدْخُل في ذلك أنّهم إذا رأوْا – كما جاءت بذلك الأحاديث – إذا رأوْا أنّ أهل الجنّة يأخذون مقاعدَهم في الجنّة حَصَلَت لَهُمْ الحَسَرات

 

{ كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ } :

لأنّ أهل الجنّة يَرِثون مَقاعِد هؤلاء في الجنّة لَوْ أنّ هؤلاء آمنوا وأسلَموا لَوَرِثوا تِلك المَقاعِد ، لَكِنْ لمّا لَمْ يُسلِموا فإنّ أَهْلَ الجنّة يرثونها .

قال عزّ وجلّ :

{ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) }

وأتَت الأحاديث الصحيحة الصريحة بِـذلـك

 

{ فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } :

يعني أنّ ذلكم العذاب ليس مؤقّتًا بل إنّهم خالدون في نار جهنّم ، كما قال عزّ وجلّ في آيات مُبيّنًا أنّ هذه النار تبقى أبد الآباد ويبقى فيها أهل الكفر

{ إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } :

العِصيان هُنا عِصيان كُفر يُخرج مِن المِلّة

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا } :

أتَت هذه الآية يُنادي فيها كلّ الناس ، وذلك لأنّ مِن بين الناس الكفّار ، فالكفّار هؤلاء حرّموا طَيِّبَات ما أحلّ الله عزّ وجلّ لهم .

ولذلك ماذا قال عزّ وجلّ :

{ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ }

 

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا } :

أمر للإباحة ، وقد يكون للوُجُوب  إذا كان الإنسان مضطرًّا للأكل ، وقد يكون على سبيل الوُجوب إذا كان الإنسان ممتنعًا عن المُباح تعبّدًا لله

{ كُلُوا } :

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ } أي ليس مِن البعض وإنّما مِن كلّ نوع أباحه الله عزّ وجلّ لكم

 

{ حَلَالًا طَيِّبًا } :

ذكر هُنا الحلال وَالطَّيِّب ، وذلك لأنّ الخِطاب موجَّه لِمَن ؟ موجَّه لعموم الناس ، المؤمن والكافر . ولذلك إذا نادى الله عزّ وجلّ كما في الآيات الآتية نادى المؤمنين

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }

ولم يذكر الحلال .

 

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا } :

وَالطَّيِّب : الذي طيّب في ذاته ، طيّب إذ حكم الشرع عليه بالطِّيب ، وتستطيبه النفوس . والطَّيِّب يَستَلزِم أنّه مُباح ، لأنّه إذا كان طيّبًا دلّ على أنّه مباح .

 

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ }

 

{ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ } :

أي طُرُق ووسائل { الشَّيْطَانِ } كما غرّ كُفَّار قُرَيش إذ حرَّموا أشياء أباحها الله عزّ وجلّ ، وأباحوا أشياء حرّمها الله عزّ وجلّ .

 

ولذلك في سورة الأَنْعَام ماذا قال عزّ وجلّ :

{ وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }

 

قال هُنا :

{ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }

هو عدوّ .

ولذلك قال عزّ وجلّ  :

{ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ }

 

قال هُنا { مُّبِينٌ } مِن ( بان ) يعني وَضُحَ ، فَعَداوَتُه واضِحة وظاهرة وجَلِيّة ، ويدخل فيها – خِلافًا لِمَن ردّ ذلك – يدخل فيها أنّ كلمة { مُّبِينٌ } مِن ( أبان ) يعني أنّه أظهر عداوتَه . نعم ، أظهر عداوته لمّا عَادَ آدم عليه السلام

 

{ إِنَّمَا يَأْمُرُكُم } : مَن ؟ الشيطان

 

{ يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ } :

وهو كلّ أمر حرَّمه الله عزّ وجلّ ، وهو الذَّنبُ الصغير { وَالْفَحْشَاءِ } أتى بكلمة ( الفحشاء ) وهو ما عِظُمَ فُحشُه ، يعني مِن الكبائر .

 

ثمّ قال : { وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } يأمركم بأن تقولوا على الله مالا تعلمون ، ومِن ذلك الشرك بالله عزّ وجلّ ، ومِن ذلك تحريم ما أحلّه الله عزّ وجلّ ، ومِن ذلك ما يفعله بعض الناس مَن الفُتيا في شرع الله عزّ وجلّ بدون عِلم .

ولذا أتَت مُرتّبة { إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ } ثُمَّ الأعظم { وَالْفَحْشَاءِ } ثُمَّ الأعظم { وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }

 

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ } :

ما أنزله عزّ وجلّ على نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم مِن الأحكام الحَسَنَةَ

{ قَالُوا } مُتَذَرّعين بِبَقائهم على ما هُمْ عليه { بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا } أي ما وَجَدنا { عَلَيْهِ آبَاءَنَا }

 

فدلّ هذا على أنّهم أتّبعوا فيما يفعلونه أتّبعوا آباءهم . فردّ الله عزّ وجلّ

{ أَوَلَوْ كَانَ } همزة الاستفهام أتَت بعد الواو ، وقُلنا إذا أتَت الهمزة بعد الواو فَهُناك جُملة .

 

كما مرّ معنا :

{ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } يعني أكفرتم وكلّما عاهدوا

 

كذلك هُنا { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ } يعني أيتّبعون آباءهم ولو كانوا { لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ }

{ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا } عندهم عَقل – وهو عقل إدراك – لَكِنْ العقل الذي يدعو الإنسان إلى الخَيْر والنَّفع هذا مُنْتِفٍ عن آبائهم

 

{ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ } أي أيتّبعون آباءهم ولو كانوا { لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ } فَنَفى عنهم الهِداية ، وذلك لأنّ آباءهم لَمْ يأتِهم نذير

 

كما قال عزّ وجلّ { لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } ولذلك حُجَجُهم :

{ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ } يعني على عقيدة { وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ }

{ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ }

 

{ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا } هذه صِفة هؤلاء الكفّار

{ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ } كَصِفة { الَّذِي يَنْعِقُ } { يَنْعِقُ } النَّعق هو عِبارة عن زَجر الغَنَم

 

{ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً }:

يعني حال هؤلاء لمّا يُدعَون إلى دِين الله عزّ وجلّ كَحال الرّاعي الذي يَرفعُ صَوتَه لِغَنَمِه ، وتِلْك الغَنَم وَتِلْك البَهائم لا تَسمع { إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً } الدّعاء : هو الصوت القريب ، والنِّداء : هو الصوت البعيد .

 

هذا إن دلّ يدلّ على أنّ هؤلاء لا يفقَهون ولا يفهَمون ، ولذلك قال عزّ وجلّ { كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً } مُجرّد السَّماع . فإذا تُلِيَت عليهم الآيات لَمْ يَنْتِفعوا بها ولذلك ماذا قال ؟

 

{ صُمٌّ } أي لا يسمعون الحقّ { بُكْمٌ } أي لا يتكلّمون بِالْحَقِّ { عُمْيٌ } فَلا يُبصرون الحقّ { فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } فَلَهُم حواسّ ظاهرة لكنّهم غير مُنْتَفِعين بها ، كما قال تعالى :

{ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }

 

وأيضًا يتضمّن القول الآخر ، وهو أنّ هؤلاء في شأن دُعائهم لأصنامهم أنّهم يدعون أصنامًا ، تِلْك الأصنام حالُها إذ أنّها لا تستجيبُ لهم ، حالُها كَحال مَن يُنادي غَنَمه ، فَهِيَ لا تستجيبُ لهم . قال عزّ وجلّ { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ }

 

{ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } :

 { صُمٌّ } عن سماع الحقّ { بُكْمٌ } عن النطق به { عُمْيٌ } فلا يُبصِرون الحقّ

 

{ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } قال هُنا { فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } هؤلاء مَن ؟  الكفّار . حال أهل النِّفاق في أوّل السورة { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } وذلك لأنّ أهل النِّفاق دخلوا في الدِّين ظَاهِرًا ، فإنّهم لا يرجعون إلى هذا الدِّين ، أمّا هؤلاء كُفَّار لَمْ يدخلوا في هذا الدِّين وَلَوْ نِفاقًا فقال عزّ وجلّ  { فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ }