بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الأنعام
من آية 65 إلى آية 73
(الرقم 94)
للشيخ زيد البحري – حفظه الله –
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم، وأصلي وأسلم على إمام المرسلين محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد،
فكنا قد توقفنا عند قوله عز وجل: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)}.
هذه الآية ذكرها الله ﷻ بعد الآيات التي تُبيِّن أن الكفار إذا نزل بهم ضر دعوا الله وتضرعوا إليه، {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}، وهنا لو قيل: أنه عز وجل أثبت أن هؤلاء يتضرعون حال البأس، بينما فيما مضى في قوله عز وجل: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا}: نفى عنهم ذلك، فما الجمع بين الآيتين؟ الجمع بين الآيتين أنه عز وجل في الآية الأولى نفى عنهم التضرع النافع باعتبار المراد من هذا التضرع أن يتضرعوا إلى الله عز وجل في السراء وفي الضراء، لكن أثبت هنا التضرع لهم، وهذا تضرع لا يفيدهم عند الله عز وجل شيئا، أثبت التضرع الذي يكون منهم عند الكرب ولذا قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}.
{قُلْ}: قل يا محمد، {هُوَ القَادِرُ}: أي الله القادر، {عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ}: وذلك كصواعق أو ما شابه ذلك مما نزل بالأمم السابقة، {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}: أي: الخسف وما شابه ذلك كما خسف عز وجل بقارون. {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا}: أي أنه يخلطكم شيعًا، بمعنى أنكم تكونون أحزابا متفرقين. {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}: أي أنه بمجرد حصول التفرق في الدين فإن بعضكم يطغى على بعض، ويذيق بعضكم بأسه للبعض الآخر، فدلّ هذا على خطورة التفرق في دين الله عز وجل، ولذا قال عز وجل في آخر هذه السورة: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}، وقال تعالى في آياتٍ أُخَر: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}. ولذا لو قال قائل: لماذا ذكر الفوقية وذكر التحتية هنا؟ لأن العذاب إذا أتى من أيّ ناحية فإنه يُحتمل أن يُدفَع، بمعنى أن الإنسان يكون متهيئًا لدفعه، لكن إذا أتى من الفوق أو من التحت فإنه لا طاقة للناس بدفعه، وأيضًا فإنه يأتيهم على حين غِرّة، مع أن الله عز وجل إذا شاء أن يُنزل عذابه على من شاء من أي جهة كانت فإن عذاب الله -إذا أراده- يكون واقعا لا محالة، ولا طاقة للعباد بدفعه، ومن ثَم فإن هذه الآية لما نزلت قال النبي ﷺ لما قال تعالى:{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ}، قال: “أعوذ بوجهك”، {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}: قال: “أعوذ بوجهك”، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}، قال: “هذا أهون وأيسر”. كما ثبت عنه ﷺ. وقال: “أعوذ بوجهك” وهذا يدل على أن الإستعاذة بصفة من صفات الله عز وجل فإنه جائز، فالصفات المعنوية الذاتية: كالقدرة والعزة ثبت ذلك كما جاء في قوله ﷺ: “أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر”، أما الإستعاذة بالصفات الخبرية: كالوجه واليد والعين وما شابه ذلك فإنه حسب علمي لم يرد نصٌّ إلا في الوجه كما ثبت هنا قال: “أعوذ بوجهك”، فإن ورد نص في صفة أخرى فإن المعوّل عليه هو ما جاء به النص، والله أعلم وأحكم.
لماذا قال ﷺ عند قوله: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}: هذا أهون وأيسر؟ وذلك لأن ما ينزله الله عز وجل فإنه يكون عذابا مستأصلا، فكانت الإستعاذة بوجه الله الكريم -كما قال هنا- لكن لما أتى ما يتعلق بعذاب المخلوقين بعضهم لبعض قال: “هذا أهون وأيسر”، مع أنه شديد لكنه أهون وأيسر، ولما يترتب عليه -كما قال ابن عبد البر وغيره- من ابتلاء المؤمنين وامتحانهم. ومن ثم فإنه لو قيل: لماذا لم يقل ﷺ شيئًا غير قوله: “هو أهون وأيسر”، لماذا لم يستعذ بأيّ استعاذة؟ فالجواب والله أعلم أنه جاء في صحيح مسلم قوله ﷺ: “سألت ربي ثلاثًا فأعطاني اثنتين ومنعني الثالثة، سألته ألا يأخذ أمتي بالسَّنَة –أي: بالقحط- وبالغرق، فأعطانيهما، أما الثالثة فسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها”. فلعله ﷺ قال: “هذا أهون وأيسر” باعتبار أن هذا الأمر مُنع منه النبي ﷺ فلم يُستجب له فيما يتعلق بأمته، ولذا متى ما حلّ الشحناء والتفرق في الأمة فإن الأعداء الكفار يتسلطون عليها. ولذا كما ثبت عنه قوله ﷺ لما سأل ربه قال: “يا محمد، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يُردّ، وإني أعطيتك لأمتك ألا أسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم حتى يكون بعضهم يقتل بعضا ويسبي بعضا”، وفي رواية: “يهلك بعضا”، فدلّ هذا أنه متى ما حصل التفرق سلطّ أعداء الدين على هذه الأمة.
{وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}: أي عذاب بعض. {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ}: انظر يا محمد نظر تعجب وتأمل في حال هؤلاء. {نُصَرِّفُ الْآيَاتِ}: مما يدل على الترغيب والترهيب وذكر ما نزل بالأمم السابقة، ومع ذلك من أجل أن يفقهوا لكنهم لم يفقهوا، لذا قال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)}.
{قُلْ}: يا محمد، {لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)}: أي: لست بوكيل أتولّى أموركم وأحفظ أعمالكم حتى أحاسبكم على ذلك، إنما أنا رسول عليّ البلاغ والله عز وجل هو الوكيل.
{حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}: ومن ثَم مر معنا في سورة النساء قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ}: ما الذي نزّل في الكتاب؟ هذه الآية التي في سورة الأنعام، فهي مكية، وسورة النساء مدنية. {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}. فبيّنت سورة النساء الخوض وهو: الاستهزاء والكفر بآيات الله.
{وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ}: أي: لو حصل منك نسيان في مثل هذا الأمر فجلست، مع العلم أن كل شيء بأمر الله وقدره لكن نسبه إلى الشيطان باعتبار أنه هو السبب، كما قال تعالى في سورة الكهف: {وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ}، فقال هنا: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ}، وتأمل هنا لما أتى ذكر النسيان أتى بكلمة (إنْ) التي تدل على عدم الثبوت والاستقرار، وإنما فيها شيء من القِلّة، ولكن بالنسبة إلى ما حصل منهم من خوف أتى بكلمة (إذا) التي تدل على أن الخوض صفة لهم، لكن النسيان هنا أتى بكلمة (إِنْ) مما يدل على قلته أو ربما عدم حصوله.
{فَلَا تَقْعُدْ}: أي مع هؤلاء. {بَعْدَ الذِّكْرَى}: فلا تقعد بعد الذكرى {مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)}، وهؤلاء ظالمون، ولذا قال عز وجل: {فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)}.
{وَلَكِنْ ذِكْرَى}: أي: ذكرى منكم لهؤلاء وأيضًا هي تذكرة لكم حتى لا تكونوا كأمثال هؤلاء. {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)}: أي: ذكّروا هؤلاء واؤمروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر لعلهم يتقون الله عز وجل، حتى تبرأ ذمتكم، أما ما يفعلونه فلا تتحملونه. وأيضًا يَصْدُقُ عليه كما قال بعض العلماء: ولكن ذكرى لعلهم يتقون: أي ذكرى يتذكر بها المتقون فإنهم إذا وعظوا غيرهم فإنهم يحصلون بسبب هذا الوعظ والأمر يحصلون على الأجر الذي يزيد من تقواهم.
واللعب كما مر معنا يتعلق بالأبدان وبالجوارح، وأما اللهو فيتعلق بالقلوب. {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا}: والترك هنا ليس معناه ترك وعظهم وأمرهم بالمعروف، لأنه قال بعدها: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ}.
{وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}: سبحان الله، قال هنا: {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}: وهذا يقرر ما ذكرته من أنهم جعلوا الدنيا في قلوبهم كما قال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ}: فاتخذوها لعبا ولهوا ومن ثم اتخذوا هذا الدين لعبا ولهوا. {وَذَكِّرْ بِه}: أي بهذا القرآن وبهذا الدين. {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ}: أي: أن تُعاقب وأن تُهلك. {بِمَا كَسَبَتْ}: أي: بما عملت، فلم يظلمها الله عز وجل. {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ}: ومر معنا ما ذكره عز وجل عن حال أهل الإيمان: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَىٰ رَبِّهِمْ ۙ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}: فإذا كان هذا حال أهل الإيمان فما ظنك بهؤلاء؛ لأن الشفاعة لا تكون مقبولة عند الله إلا بشرطين: إذن الله للشافع أن يشفع ورضاه عن المشفوع له، وقد قررنا ذلك في قوله تعالى في آية الكرسي في سورة البقرة.
قال هنا: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ}: ولو عَظُمَ هذا الشفيع وهذا الوليّ فإنه لا شفاعة إلا بشرطيّ الشفاعة.
{وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا}: وإن تقدّم أيّ فداء لا يقبل منها. ونفى هنا الفداء ونفى الولي ونفى الشفيع، وهذا يذكرنا بما مر معنا في سورة البقرة: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ}.
كما قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَىٰ بِهِ}، وقال هنا: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا}.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا}: أي حبسوا وعوقبوا وأُهلكوا. {بِمَا كَسَبُوا}: أي: بسبب أعمالهم وما اكتسبوه. {لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)}: فهذا الشراب الحميم الذي بلغ نهايته في الحرارة وأيضا لما ذكر الشراب عمّم فبيّن أن لهم عذابا أليما بسبب كفرهم.
{وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا}: أيضًا هذه الكلمة داخلة في سياقِ الإنكار على هؤلاء، فدل هذا على أن من ارتد عن الدين فإنه يرتد على عقبيه، ومن رجع إلى الخلف فهو حريّ به أن يسقط، فما ظنك إذا مشى من الخلف على عقبيه! {بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ}: فدل هذا على أن هداية الله نعمة منه عز وجل فكيف يفرط فيها الإنسان! ولذا قال عز وجل عن أولئك الذين آمنوا من النصارى كما مر معنا في سورة المائدة: {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ}.
{كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ}: أي استَغْوَتهُ وزيّنت له الشياطين وحيّرته وأوقعته في الغواية، {فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ}: أي متحيّرا. {لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى}: يدعونه إلى طريق الهدى. حاله كحال جماعة ذهبوا مع طريقٍ وإذا بهؤلاء يسيرون في هذا الطريق -وهذا الطريق هو الطريق المستقيم- وإذا به يتخلّف عنهم لكنه هو حيران، يتَتبّع الشياطين الذين يأمرونه بالعدول عن هذا الطريق. هو حيران، مع أن الطريق أمامه واضح فالطريق هداه الله عز وجل إليه وبيّنه له. {لَهُ أَصْحَابٌ}: حتى إن أصحابه ليقولون له يا فلان! هلمّ فهذا الطريق هنا.
{يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا}: يأمرونه بأن يأتي إليهم. فهذا هو حال المشرك، فحال المشرك في حيرة وهو إذا دعا غير الله عز وجل فإنه في حيرة من أمره لأنه لا يمكن أن يدفع عنه الضر ولا يمكن أن يجلب له النفع إلا الله عز وجل.
{قُلْ}: يا محمد. {إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى}: هذا هو الهدى أما غيره فإنه طريق الضلال وطريق الحَيرة، ولذا فمن كان مشركا فإنه يكون في حيرة من أمره ويكون في ضيقٍ من أمره، ولذا كما سيأتي معنا في قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}.
{وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)}: أي: أُمِرنا بأن نسلم وبأن نخلص العبادة لله عز وجل الذي هو رب العالمين، والعالَم مرّ معنا في سورة الفاتحة تفصيل ذلك عند قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فكل ما سوى الله فهو عالَم. إذًا فهو ربّ العالمين، وهو ربكم، فهو كما هو ربنا وهو ربكم الواجب عليكم أن تسلموا لله عز وجل، ولذا النبي ﷺ كما في آخر السورة ماذا قال: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}.
{وَاتَّقُوهُ}: بعد أن أمرهم بذلك أمرهم بتقوى الله عز وجل في جميع الأحوال وذلك بفعل أوامره وباجتناب نواهيه. {وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)}: إذًا هو إليه –عز وجل- تحشرون وتجمعون وهذا فيه إنكار على أولئك الذين ينكرون البعث والجزاء، وفيه دلائل على أن التوحيد وعلى أن إقامة الصلاة وتقوى الله عز وجل هي سبيل النجاة يوم الحشر، ولذا قال عز وجل لأولئك اليهود كما مر معنا في سورة البقرة: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} ذكر بعدها ما يتعلق بيوم القيامة: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}.
{وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ}: دلّ هذا على أن خلق السماوات والأرض كما قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ}، يعني خلقهما عز وجل وخلق هذه السماوات والأرض العظيمة إذًا خلق البشر يسير على الله عز وجل، وكله يسير على الله عز وجل لا يُعجزه شيء، ولذا لما قال هنا: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ}. ولذا ذكر يوم القيامة مما يدل على أن هذه السماوات والأرض تزول يوم القيامة. فقال هنا: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ}: أي: متى ما قال عز وجل لهذا اليوم -–هو يوم القيامة-: كن، فإنه سيكون. {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}. وقال عز وجل: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا}: ليس فيما يتعلق بيوم القيامة بل كل شيء، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
{قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ}: ولذا كما سيأتي معنا في هذه السورة: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ}.
{وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ}: يوم يَنفخ اسرافيل في الصُّور، كما جاءت بذلك الأحاديث الثابتة عنه ﷺ وبيّن كما عند الترمذي من أن الصُّور: قرنٌ يُنفخ فيه –وهذا هو الأظهر-؛ لأن بعض العلماء قال: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ}: أي: يوم ينفخ في صُوَرِ الموتى فيبعثون يوم القيامة. لكن الظاهر يدل على أنه الصُّور الذي ينفخ فيه اسرافيل. ومر معنا تفصيل ذلك مع أن الملك كله لله في الدنيا وفي الآخرة؛ لأن الأملاك كلها تزول في الآخرة، ومر معنا ذلك مفصلا في قوله تعالى: {مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ}.