بسم الله الرحمن الرحيم
التفسير الشامل ـ تفسير سورة الزخرف من الآية (1) إلى (39)
الدرس (229)
لفضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿حمٓ (1) وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلۡنَٰهُ قُرۡءَٰنًا عَرَبِيّٗا لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ (3) وَإِنَّهُۥ فِيٓ أُمِّ ٱلۡكِتَٰبِ لَدَيۡنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضۡرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكۡرَ صَفۡحًا أَن كُنتُمۡ قَوۡمٗا مُّسۡرِفِينَ (5) وَكَمۡ أَرۡسَلۡنَا مِن نَّبِيّٖ فِي ٱلۡأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأۡتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ (7) فَأَهۡلَكۡنَآ أَشَدَّ مِنۡهُم بَطۡشٗا وَمَضَىٰ مَثَلُ ٱلۡأَوَّلِينَ (8)﴾
سورة الزخرف من السور المكية.
﴿حم﴾ وهذه من الحروف المقطعة ومر بيانها في أول سورة البقرة.
﴿وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُبِينِ﴾ فهذا القرآن كتابٌ أبان الحق، وهو أيضًا من تأمل فيه فإنه مشتمل على الحق، ومر معنا تفسير لهذا أكثر في أول سورة يوسف.
﴿وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ أقسم بالكتاب وهو القرآن ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ﴾ هذا هو جواب القسم
﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ وبينا ذلك في سورة يوسف في أولها.
{جَعَلْنَاهُ﴾ هنا بمعنى: أنزل، كما في أول سورة يوسف ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف:2]، ولو قيل: كيف يكون الجعل هنا بمعنى الإنزال؟
فنقول: القرآن يفسر بعضه بعضاً ثم إنه لو قيل إن معناه على هذا الأمر، فنقول: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ} يعني إننا صيّرناه {قُرْآنًا عَرَبِيًّا}، ولم نصيره قرآنا أعجميًا، وليس في هذا دليلٌ على من قال بأن القرآن مخلوق! ليس لهم دليل في ذلك، بل القرآن كلام الله منزل غير مخلوق.
ولذلك كلمة {جعل} هنا نصبت مفعولين، و{جعل} إذا نصبت مفعولين لا تكونُ بمعنى الخلق، إنما تكون بمعنى الخلق إذا نصبت مفعولًا واحدًا، كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ [الأنعام: 1] يعني خلق الظلمات والنور،
وقد وضحنا ذلك في آياتٍ كثيرة في أول سورة يوسف، وأيضًا في سورة الأعراف، وفي سورٍ أخرى أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، ولا دلالة لهؤلاء في مثل هذه الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ يعني: أن هذا القرآن من أخذ به، فإنه يوصله إلى التعقل الذي به بإذن الله عز وجل يكونُ من المهتدين، ومر توضيح أكثر لذلك في أول سورة يوسف:
﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف:2].
﴿وَإِنَّهُ﴾ القرآن ﴿فِي أُمِّ الْكِتَابِ﴾ في اللوح المحفوظ، ولذلك قال تعالى:
﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ [البروج:21-22] فالقرآنُ في اللوحِ المحفوظ.
﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ فهذا القرآن عليٌّ وحكيم، ولذلك قال تعالى ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ﴾ [فصلت: 41-42]
وأيضًا حكيم كما قال عز وجل ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾[هود:1].
﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ وأيضًا من علوه أنه لا يأتي بالباطل ولا بالسفاسف، ولذلك قال تعالى ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ﴾ [الطارق:13-14]، وكما قال عز وجل: ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾[المزمل:2-5].
﴿أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا﴾ أي أننا لا نُنزل عليكم هذا القرآن {صَفْحًا﴾ يعني إعراضًا لأنكم أعرضتم ﴿أَفَنَضْرِبُ﴾ والاستفهامُ هنا للإنكار، ﴿أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ﴾ أمن أجل قومكم قوماً مسرفين تجاوزتم الحد، أفنعرِضُ عنكم ولا ننزلُ عليكم هذا القرآن؟!
﴿وَكَمْ أَرْسَلْنَا﴾ هنا كم للخبرية وهي للتكثير ﴿وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ﴾ فتسلّ يا محمد بالأنبياء السابقين، فإن أقوامهم كذبوهم كما كذبك قومك.
﴿وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون﴾ يعني يسخرون منه.
﴿فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا﴾ فأهلكنا أعظم بطشًا وقوة من كفار قريش، فليعتبروا بالأمم السابقة
﴿وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ﴾ وهي العقوبات التي نزلت بالسابقين، ولذلك قال عز وجل:
﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ﴾ [الرعد:6]
وكما قال تعالى ﴿وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ﴾ [إبراهيم: 45].
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡعَلِيمُ (9) ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ مَهۡدٗا وَجَعَلَ لَكُمۡ فِيهَا سُبُلٗا لَّعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ (10) وَٱلَّذِي نَزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءَۢ بِقَدَرٖ فَأَنشَرۡنَا بِهِۦ بَلۡدَةٗ مَّيۡتٗاۚ كَذَٰلِكَ تُخۡرَجُونَ (11) وَٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡأَزۡوَٰجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلۡفُلۡكِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ مَا تَرۡكَبُونَ (12) لِتَسۡتَوُۥاْ عَلَىٰ ظُهُورِهِۦ ثُمَّ تَذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ رَبِّكُمۡ إِذَا ٱسۡتَوَيۡتُمۡ عَلَيۡهِ وَتَقُولُواْ سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُۥ مُقۡرِنِينَ (13) وَإِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ (14)﴾
﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ﴾ مع ذلكم الإنكار لعبودية الله عز وجل من هؤلاء ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ﴾ هذا يدل على أنهم أثبتوا توحيدَ الربوبية، فيلزمهم أن يوحدوا الله توحيد الألوهية.
﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ جوابهم ﴿لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ﴾
ولذلك بعضُ المفسرين قال إن كلمة {الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ﴾ ليست من كلامهم، لأنهم ما كانوا يؤمنون بأسماء الله وبصفاته، وهذا بيّن وواضح في صلح الحديبية لما قالوا ما نعرف الرحمن.
﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ﴾ فإذا كان هو العزيز والعليم، العزيز: القوي الذي لا يُغلب، والعليم: الذي أحاط بكل شيء علمًا، فواجبٌ عليكم أن تؤمنوا بهذا الذي له العزةُ والقوة والغلبة والعلمُ، الذي أحاط بكل شيء علمًا.
﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا﴾ الذي جعل لكم الأرض مهدًا، وهذا يدل على أن ما قاله بعضُ المفسرين حول هذه الآية السابقة من أن قوله {الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ﴾ ليس من قولهم، كأن ما بعد هذه الآية يدل على ما ذكروه.
فقال الله عز وجل مبينًا عظمته ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا﴾ بمثابة المهد الذي يُسارُ عليه، وبمثابة المهد الذي هو ممهد كما يمهد للطفل حتى ينام على مهده، فهي مذللة ومسهلة.
﴿وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا﴾ يعني: طرقًا تسيرون فيها ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ تهتدون إلى ما تريدونه من الأماكن، فتسلكون هذه الطرق.
﴿وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ هذه دلائل على عظمة الله، أفلا توحدون الله عز وجل!؟
﴿مَاءً بِقَدَرٍ﴾ قال: بقدر كما قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ﴾ [المؤمنون:18] بقدر بحيث لا يزيد عن حاجة الناس، ولا ينقص عن حاجتهم.
﴿وَالَّذِي نَزَّلَ} وقال هنا ﴿وَالَّذِي} صرَّحَ بالاسم الموصول الذي قال بعده {نَزَّلَ} بتعظيم الله عز وجل
﴿فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا﴾ أحيينا به بلدة ميتاً، بمعنى أنها جدباء ﴿كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ أي مثل ما أحيينا تلك الأرض القاحلة تخرجون من قبوركم، فلا تستبعدون هذا.
﴿وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا﴾ كما قال عز وجل: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ﴾ [يس:36] قال هنا ﴿وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا﴾ الأصناف والأنواع ومن ذلك الذكور والإناث.
{وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلۡفُلۡكِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ مَا تَرۡكَبُونَ}
﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ﴾ أي السفن ﴿وَالأَنْعَامِ﴾ من الإبل {مَا تَرۡكَبُونَ}
﴿لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ﴾ أي لتعلو على ظهور هذه المركوبات ﴿ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ﴾ إذ سخرها الله عز وجل لكم ﴿وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا﴾ يعني أنه ذلل هذه الأشياء ﴿وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ أي لسنا مطيقين ولسنا بقادرين على أن نسيره وأن نسخره، لكن الله عز وجل ذلـلّه، ولذلك النبيُّ ﷺ كما ثبت عنه إذا ركب راحلته يقول إذا أراد سفَرا:
” سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا، وَما كُنَّا له مُقْرِنِينَ، وإنَّا إلى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ “
فقال الله عز وجل عن هؤلاء ﴿وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا﴾ أي تنزهون الله عز وجل عما لا يليق به.
﴿وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ﴾ يعني في جميع الأحوال، فالمرد والمرجعُ إلى الله عز وجل في يوم القيامة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿وَجَعَلُواْ لَهُۥ مِنۡ عِبَادِهِۦ جُزۡءًاۚ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَكَفُورٞ مُّبِينٌ (15) أَمِ ٱتَّخَذَ مِمَّا يَخۡلُقُ بَنَاتٖ وَأَصۡفَىٰكُم بِٱلۡبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحۡمَٰنِ مَثَلٗا ظَلَّ وَجۡهُهُۥ مُسۡوَدّٗا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَ مَن يُنَشَّؤُاْ فِي ٱلۡحِلۡيَةِ وَهُوَ فِي ٱلۡخِصَامِ غَيۡرُ مُبِينٖ (18) وَجَعَلُواْ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمۡ عِبَٰدُ ٱلرَّحۡمَٰنِ إِنَٰثًاۚ أَشَهِدُواْ خَلۡقَهُمۡۚ سَتُكۡتَبُ شَهَٰدَتُهُمۡ وَيُسۡـَٔلُونَ (19) وَقَالُواْ لَوۡ شَآءَ ٱلرَّحۡمَٰنُ مَا عَبَدۡنَٰهُمۗ مَّا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِنۡ هُمۡ إِلَّا يَخۡرُصُونَ (20) أَمۡ ءَاتَيۡنَٰهُمۡ كِتَٰبٗا مِّن قَبۡلِهِۦ فَهُم بِهِۦ مُسۡتَمۡسِكُونَ (21) بَلۡ قَالُوٓاْ إِنَّا وَجَدۡنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰٓ أُمَّةٖ وَإِنَّا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم مُّهۡتَدُونَ (22)﴾
﴿وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا﴾ مع تلك الدلائل الواضحة على تفرده عز وجل جعلوا له من عباده جزءًا وهم البنات، كما قال عز وجل ﴿أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ﴾ [الصافات:153]
﴿وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا﴾ [الزخرف:19]
﴿وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا﴾ وذلك لأن الولد يعتبر جزءًا من الوالد، ولذلك النبي ﷺ كما ثبت عنه قال عن فاطمة:” إِنَّما فاطمةُ بَضْعَةٌ مِنِّي ” يعني جزء مني.
قال الله عز وجل ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ﴾ كفره مبينٌ واضح وبين، فكيف يُقدم على هذا الأمر!؟
﴿أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ﴾ يعني: لما قلتم هذا الكلام أي اتخذ له ما هو الأقل في نظركم، وذلك بأنكم لا ترون الإناث لهن قيمة، فكيف يتخذ هذه الأدنى التي عندكم ويخصكم بالأبناء! ولذلك قال تعالى ﴿أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [الصافات:153-154] وكما قال تعالى ﴿أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا﴾ [الإسراء:40]
﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى﴾ [النجم:21-22].
فقال الله عز وجل ﴿أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ﴾ وهذا إنكارٌ لهم ﴿وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ﴾ خصكم بالبنين.
﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ﴾ هذا حالُهم إذا بُشر أحدهم بمولودة ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ [النحل:58]، ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا﴾ الذي جعلوا لله عز وجل البنات، وهذا المثل ذَكَرَه عز وجل مبينًا أنه الإناث ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ [النحل:58] فقال هنا ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا﴾ يضربون للرحمن مثلًا وهو أن الملائكة بناتُ الله، فقال الله عز وجل ﴿بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ ظل وجهه مسودًا من سوء ما بشر به، ﴿وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ يكظم غيظه.
كما قال تعالى ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ – يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ﴾ [النحل:58-59].
فقال الله عز وجل هنا: ﴿أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ﴾ أيجعلون مَن يُنشأ في الحلية، أي ممن تكون نشأتُه وزينته وكماله بلبس الحلي ﴿وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ﴾ وذلك لأن الأنثى في حال المجادلة والكلام ليست بأقوى من الرجل، ليست بأقوى من الذكر، فيقول كيف تجعلون لله عز وجل مَن هن محتاجات إلى الزينة أول ما يأتينَ إلى الدنيا، وكذلك هن حال الخطاب هن أقل من الرجل.
﴿وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا﴾ وهذا يدل على عظم طغيانهم
﴿أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} هل شهدوا خلقهم على أنهم إناث، ولذلك قال عز وجل ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ﴾ [الصافات:149-150]
هل حضروا خلْقَهم يوم أن خلقنا الملائكة؟!
الجواب: لا، فقال الله عز وجل: ﴿سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ﴾ تلك الشهادة الجائرة ويُسألون عنها يوم القيامة. ﴿وَقَالُوا﴾ وهذا يدل على أنهم جعلوا القَدَر حجة لهم على تلك الأباطيل وتلك الأقوال السيئة! ومر معنا في سورة الأنعام في قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام:148] مر معنا الرد على هؤلاء.
{وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ﴾
﴿مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ﴾ ولذلك قال ردًا عليهم ما لهم بذلك من علم، يعني أنهم يتخرصون في هذا القول، وقد أفضت إفاضة مناسبة ومفيدة في سورة الأنعام حول هذه المسألة: حول الاحتجاج بالقدر على تلك الأفعال المشينة.
فقال الله عز وجل عن هؤلاء ﴿وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ﴾ ليس لهم حجة ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ يعني ما هم إلا يكذبون في هذه الدعوى، وفي الاحتجاج بالقدر على أفعالهم السيئة.
﴿أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ﴾ هل أعطيناهم كتاب وأنزلنا عليهم كتابًا من قبل القرآن؟!
﴿فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ﴾ وسائرون على ما ذكره ذلك الكتاب؟ الجواب: لا، ولذلك قال تعالى ﴿أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا﴾ [فاطر: 40].
﴿بَلْ قَالُوا﴾ يدل على أنه لا حجةَ عندهم، بل إنما ما ساروا إلا على طريقة أسلافهم الذين ضلوا عن سواء السبيل ﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾ على عقيدة ﴿وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾ يعني نحن على آثارهم وعلى طريقتهم نهتدي ولن نحيد عن طريقتهم، ولذلك قال عز وجل كما في سورة الصافات ﴿ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ﴾ [الصافات:68-70] أي أنهم يُسرعون على آثار آبائهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿وَكَذَٰلِكَ مَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ فِي قَرۡيَةٖ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتۡرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدۡنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰٓ أُمَّةٖ وَإِنَّا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم مُّقۡتَدُونَ (23) ۞قَٰلَ أَوَلَوۡ جِئۡتُكُم بِأَهۡدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمۡ عَلَيۡهِ ءَابَآءَكُمۡۖ قَالُوٓاْ إِنَّا بِمَآ أُرۡسِلۡتُم بِهِۦ كَٰفِرُونَ (24) فَٱنتَقَمۡنَا مِنۡهُمۡۖ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ (25)﴾
﴿وَكَذَلِكَ﴾ هنا تسلية للنبي ﷺ، كما صنع قومُك معك كذلك صنعت الأمم السابقة مع أنبيائهم.
﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا﴾ وهم أصحاب الترف والجاه ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾ يعني على عقيدة ﴿وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ ودل هذا على أنهم غيروا بين الاهتداء والاقتداء، من باب أن يبينوا أنه لا هداية لهم إلا عن طريق اتباع آبائهم، وأنه لا اقتداء إلا بطريقة آبائهم، وفي هذا تأييسٌ منهم للنبي ﷺ أن يتبعوه.
﴿قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ﴾ يعني لو جئتكم بما هو أهدى مما كان عليه آباؤكم، وآباؤهم ليسوا على هدى، ولكن هذا من باب التنزل معهم حتى يقنعهم، ولا شك أن طريقة آبائهم ليست على هدى. ﴿قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ﴾ أتتبعون آباءكم مع هذا كله مع أنه جاءكم ما هو أهدى من ذلك؟ فقال الله عز وجل ﴿قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ أي قالوا للرسل عليهم السلام {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾
﴿فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾ أنزل اللهُ عليهم عذابَه وعقوبته، ﴿فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ ما هي عاقبة ومآل مَن كذّب الرسل؟ عاقبتُهم إلى وبال وإلى خزيٍ وعارٍ وعذاب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
﴿وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوۡمِهِۦٓ إِنَّنِي بَرَآءٞ مِّمَّا تَعۡبُدُونَ (26) إِلَّا ٱلَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُۥ سَيَهۡدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةَۢ بَاقِيَةٗ فِي عَقِبِهِۦ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ (28) بَلۡ مَتَّعۡتُ هَٰٓؤُلَآءِ وَءَابَآءَهُمۡ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلۡحَقُّ وَرَسُولٞ مُّبِينٞ (29) وَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلۡحَقُّ قَالُواْ هَٰذَا سِحۡرٞ وَإِنَّا بِهِۦ كَٰفِرُونَ (30) وَقَالُواْ لَوۡلَا نُزِّلَ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ عَلَىٰ رَجُلٖ مِّنَ ٱلۡقَرۡيَتَيۡنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمۡ يَقۡسِمُونَ رَحۡمَتَ رَبِّكَۚ نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَيۡنَهُم مَّعِيشَتَهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضٗا سُخۡرِيّٗاۗ وَرَحۡمَتُ رَبِّكَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ (32)﴾
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ﴾ ذكر هنا إبراهيم لأنهم يعظمون إبراهيم، ويقولون -أي كفار قريش- نحن على ملة إبراهيم، فقال الله عز وجل لهؤلاء و بين لهم أن إبراهيم كانت الدعوة منه للتنفير من الشرك، والدعوة إلى التوحيد، وحالُكم ليس كحال إبراهيم.
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ﴾
﴿وَإِذْ قَالَ} يعني: واذكُر {قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ﴾ يعني بريء ﴿مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ أي إلا الذي خلقني، وهل الاستثناء هنا متصل من أنهم كانوا يعبدون مع الله تلك الآلهة؟ أو أنهم كانوا يعبدون فقط الآلهة، ويكون الاستثناء منقطعًا؟
مر معنا ذلك في سورة الشعراء قال ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء:77].
فقال الله عز وجل هنا عن إبراهيم ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ إلا الذي خلقني، وقال إلا الذي فطرني ليبين لهم أنكم تقرون بأنه هو الذي فطركم، والذي يفطر ويخلق هو الذي يستحق العبودية ﴿ فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾ سيوفقني إلى الهداية فيما يتعلق بأموري الدنيوية وبأموري الأخروية، وقد قالها إبراهيم أيضًا لما أراد أن يهاجر ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الصافات:99].
فقال الله عز وجل عن إبراهيم ﴿وَجَعَلَهَا كلمة﴾ وهي كلمة التوحيد ﴿بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾ يعني باقية في ذريته لأنه وصى بها: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة:132]
﴿ وَجَعَلَهَا كَلِمَةَۢ بَاقِيَةٗ فِي عَقِبِهِۦ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ﴾ يعني: إذا تذكّروا ذلك يرجعون إلى التوحيد، لأن من كان مِن سُلالة إبراهيم ومن ذريته لم يكن كلهم على التوحيد ولذلك قال تعالى:
﴿وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ [الصافات:113].
﴿وَجَعَلَهَا كلمة بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ فلعل كفار قريش يرجعون إلى ملة إبراهيم عليه السلام.
﴿بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ﴾ أي أنه من جَرَّاءِ هذا التمتيع في متع الدنيا تمتيع لهؤلاء، ولآبائهم جعلهم يضلون عن سبيل الله عز وجل ولذلك قال تعالى ﴿بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ﴾ [الأنبياء:44] ﴿حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ﴾ أي كانوا في مُتَع هم وآباؤهم وكانوا في متعٍ مستمرة من زينة الدنيا ﴿حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ} وهو القرآن {وَرَسُولٌ مُبِينٌ﴾ وهو محمد ﷺ ومع ذلك فإنهم أعرضوا.
{وَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلۡحَقُّ قَالُواْ هَٰذَا سِحۡرٞ وَإِنَّا بِهِۦ كَٰفِرُونَ (30)}
﴿وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ﴾ الحق من الله ﴿ قَالُواْ هَٰذَا سِحۡرٞ وَإِنَّا بِهِۦ كَٰفِرُونَ﴾ كما قالت الأمم السابقة ﴿إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ [سبأ:34].
﴿ وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ سبحان الله انظر إلى التناقض، فهم يقولون عن القرآن أنه سحر ويكذبون بالنبي ﷺ، ويكذبون بهذا القرآن، ثم إذا بهم يتناقضون! يقولون: هذا القرآن لو نزل على غير محمد، لو نزل على عظيم، لو كان ذلك الأمر فآمنا
﴿عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ يعني محمد ليس بعظيم من حيث المال، ومن حيث الجاه، لماذا لم ينزل على الوليد بن المغيرة في مكة؟ او عروة بن مسعود في الطائف؟ وقيل غيرُ هذين الرجلين.
﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ﴾ هل هم يقسمون رحمةَ الله عز وجل، والرحمة هنا تدل على النبوة والهدى ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ﴾ إذا كانوا لا يقسمون الأرزاق بينهم، فكيف يقسمون ما يتعلق بدين الله؟ ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ كل إنسان له ما قدر الله عز وجل له من الرزق
﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾ رفع الله عز وجل بعضَهم درجات منهم الغني ومنهم الفقير، منهم الرئيس ومنهم المرؤوس، ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً من أجل أن يكون كلٌّ منهم في التسخير وفي القيام بمصالح الآخَر، الفقيرُ يعمل لمصلحة الغني، والفقيرُ يأخذ من الغني {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾
وقد قال بعض المفسرين: {سُخْرِيًّا﴾ هنا بمعنى السخرية يعني الاستهزاء بمعنى أن الأغنياء يستهزئون بالفقراء، هذا وإن كان قد قيل به إلا أن السياق يدل على ما ذكرنا، ولا شك أيضًا أنه يدخل في ضمن ذلك أن الأغنياء سيسخرون -ممن لم يوفق- سيسخرون من الفقراء.
﴿وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ هم يقولون {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ عظيم المال، ما أعطيته يا محمد من رحمة الله من النبوة خيرٌ مما يجمعونه، وهذا يدل على أن من أعطي العلم والاستقامة، فإنه أعطيَ خيرًا عظيمًا يفوق ما يجمعُ أهلُ الدنيا، ولذلك قال تعالى:
﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس:58].
ـــــــــــــــــــــــ
﴿وَلَوۡلَآ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ لَّجَعَلۡنَا لِمَن يَكۡفُرُ بِٱلرَّحۡمَٰنِ لِبُيُوتِهِمۡ سُقُفٗا مِّن فِضَّةٖ وَمَعَارِجَ عَلَيۡهَا يَظۡهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمۡ أَبۡوَٰبٗا وَسُرُرًا عَلَيۡهَا يَتَّكِـُٔونَ (34) وَزُخۡرُفٗاۚ وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَٱلۡأٓخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلۡمُتَّقِينَ (35) وَمَن يَعۡشُ عَن ذِكۡرِ ٱلرَّحۡمَٰنِ نُقَيِّضۡ لَهُۥ شَيۡطَٰنٗا فَهُوَ لَهُۥ قَرِينٞ (36) وَإِنَّهُمۡ لَيَصُدُّونَهُمۡ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُم مُّهۡتَدُونَ (37) حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يَٰلَيۡتَ بَيۡنِي وَبَيۡنَكَ بُعۡدَ ٱلۡمَشۡرِقَيۡنِ فَبِئۡسَ ٱلۡقَرِينُ (38) وَلَن يَنفَعَكُمُ ٱلۡيَوۡمَ إِذ ظَّلَمۡتُمۡ أَنَّكُمۡ فِي ٱلۡعَذَابِ مُشۡتَرِكُونَ (39)﴾
﴿وَلَوۡلَآ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ لَّجَعَلۡنَا لِمَن يَكۡفُرُ بِٱلرَّحۡمَٰنِ لِبُيُوتِهِمۡ سُقُفٗا مِّن فِضَّةٖ وَمَعَارِجَ عَلَيۡهَا يَظۡهَرُونَ}
يقول الله لحقارة الدنيا عندنا نخشى من أن الناس يكونون على ملة الكفر لأعطينا الكافر وأعطيناه وأعطيناه لكن نخشى أن يغتر من ليس كذلك، فيكفر مع من كفر حتى تحصل له هذه الأموال
﴿وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ يعني على الكفر ﴿لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ﴾ وتأمل هنا اسم {الرحمن} تكرر في السورة أكثر من مرة، ليرد على كفار قريش الذين يقولون كما في سورة الفرقان:
{قَالُوا وَمَا الرَّحْمَٰنُ} [الفرقان:60]
فقال الله عز وجل هنا ﴿لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ﴾ أي سلالم ﴿عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ﴾ يرتفعون إلى السطح، تلك السلالم والمعارج من فضة.
﴿وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا﴾ من فضة ﴿وَسُرُرًا﴾ يتكئون عليها، سرر من فضة
﴿وَزُخْرُفًا﴾ بعض المفسرين: الزخرف كل ما يتزين به، وقال بعض المفسرين: هو الذهب، ولعل هذا هو الأظهر لأنه في مقابل الفضة، ولا شك أن أعظم الزخارف: الذهب.
﴿وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا﴾ بمعنى ما النافية {لَمَّا﴾ بمعنى إلا، يعني وما كل ذلك إلا ﴿مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ تزول ﴿وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ بما أعد الله عز وجل فيها للمتقين من جنات النعيم.
﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ﴾ الأعشى هو الذي يضعف بصرُه ضعفًا شديدًا حتى لا يكاد أن يبصر، وقال بعضهم: بل إنه لا يبصر.
{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ﴾ سبحان الله قال هنا الرحمن ﴿عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ﴾ هذا القرآن وما يتعلق بذكر الله عز وجل ﴿نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا﴾ نهيئ له شيطانًا ﴿فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ يقارنه، ولذلك قال الله تعالى ﴿وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ﴾ [الأعراف:202] وقال تعالى:
﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ [فصلت:25].
﴿وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ﴾ أي أن الشياطين يصدون هؤلاء الإنس عن طريق الحق
﴿وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ يظنون أنهم على هدى ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾ [فاطر:8].
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَنَا﴾ يعني أنهم يزينون لهم ويستمرون في ذلك حتى يموتوا ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ﴾ يتبرأ من قرينه، {بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ﴾ يعني بُعد المشرق والمغرب، وذكر المشرقين باعتبار الدلالة على المغرب.
﴿فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾ القرين الذي صاحَبَني، ولذلك قال تعالى ﴿قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ- قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ﴾ [ق:27-28]، فقال الله عز وجل هنا ﴿فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾.
﴿وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ﴾ في يوم القيامة ﴿إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ يعني كونكم تشتركون في العذاب بسبب ظلمكم هذا لا يُفيدكم، لأن الإنسان إذا أصابته مصيبة وأصيب غيرُه بمصيبة، فالمصيبة إذا عمّت خفّت، فيتسلى أحدُهم بالآخَر، هنا يقول مع ذلك ﴿وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ بل كما قال تعالى ﴿لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف:38]، فأنتم تشتركون في العذاب، ولكل ضعف ولا يتسلى أحدُكم بالآخر، كحال أهل الدنيا إذا أصاب الجميع مصيبة.