التفسير الشامل ـ تفسير سورة ( الواقعة ) الدرس ( 243)

التفسير الشامل ـ تفسير سورة ( الواقعة ) الدرس ( 243)

مشاهدات: 470

التفسير الشامل ـ تفسير سورة ( الواقعة )

الدرس (243 )

فضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشرع بعون من الله في تفسير سورة الواقعة، وهي من السور المكية..

{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)}

 {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} وهي يوم القيامة، وسميت بالواقعة لأنها واقعة لا محالة، {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} ليس هناك نفس تكذبها، {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} من أنها تخفض الكفار، وترفع أهل الإيمان، {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا} أي  حركت تحريكا شديدا، {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} يعني فتت الجبال بسا {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} يعني كالهباء الذي يكون رؤيته عند الشمس {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} يعني متفرقة، وهذا كما قال تعالى {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً} يعني أصنافا ثلاثة، {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} وهنا استفهم عنهم على سبيل التفخيم والتعظيم لحالهم، {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} اسفتهم عنهم من باب التوبيخ والتحقير لهم، {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} وهذا هو الصنف الثالث {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)} وذلك لأنهم تقربوا إلى الله، فقربهم الله وزاد في ثوابهم، {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} في تلك الجنات التي يتنعمون فيها، {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ (14)} {ثُلَّةٌ} يعني جماعة كثيرة {مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ (14)}، ومن ثم اختلف المفسرون هل المقربون في الأمم السابقة أكثر من المقربين في هذه الأمة باعتبار قوله تعالى {وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ} قيل بهذا، وقيل إن {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ} المقصود من ذلك صدر هذه الأمة، {وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ} المقصود من ذلك آخر هذه الأمة، فالمقربون في آخر هذه الأمة أقل من المقربين في صدر هذه الأمة، ولعل هذا القول هو الأقرب إلا إذا قيل باعتبار ماذا؟ باعتبار أن الأمم السابقة باعتبار مجموعها لكثرة عددها يكون المقربون فيها أكثر من المقربين في هذه الأمة.

{ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15)} يعني على سرر منسوجة بالذهب {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16)} يقابل بعضهم بعضا

{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} يعني أنهم ولدان للخدمة باقون، {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} والكوب هو الذي لا عروة له، والأباريق جمع إبريق وهو الذي له عروة، {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} والمقصود من الكأس هي الخمر {مِنْ مَعِينٍ}، يعني من نهر واضحة وبينة وظاهرة {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ} لا يصيبهم صداع عند شرب هذه الخمر، {وَلَا يُنْزِفُونَ} يعني لا تذهب عقولهم، ليست كخمر الدنيا، {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} لهم الفاكهة التي يختارونها، {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} من أي نوع من أنواع الطيور مما تشتهيه أنفسهم، {وَحُورٌ عِينٌ} هنا قال {وَحُورٌ عِينٌ} والحور العين مر بيان ذلك مفصلا، وهن النساء الجميلات اللواتي يحار الطرف لجمالهن، {وَحُورٌ عِينٌ} إما أن تكون بمعنى، ولهم حور عين، أو يطوف عليهم حور عين معطوفة على قوله {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ}

{وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23)} يعني المحفوظ المصون كما قال عز وجل {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)} فقال الله هنا {وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23)} يعني من حيث الجمال {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ونص هنا على الجزاء باعتبار ماذا؟ باعتبار أن هذا الجزاء جزاء يستحقونه بسبب أعمالهم، وذلك تفضل منه عز وجل، {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا} فلا يسمعون في الجنة اللغو والباطل الذي لا طائل من ورائه، ولا يسمعون الإثم، وهو الكلام السيء، {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)} يعني يسلم بعضهم على بعض.

 

{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآَخِرِينَ (40)}

{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ} لما ذكر منزلة وثواب المقربين السابقين ذكر هنا ما يتعلق بأصحاب اليمين، {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28)} يعني قد زيل شوكه، وغذي بثمرات عظيمة، {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} الطلح قيل هو الطلح المعروف الذي يكون في الصحراء يجعل الله هذا الطلح به الثمار الطيبة، وقيل من أن الطلح هو الموز، {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} يعني أنه موز متراكب بعضه على بعض، {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} ولا تعارض بينهما، {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} كما قال عليه الصلاة والسلام كما ثبت عنه: ” إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها”

{وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} يعني ماء من أنهار جارية ليس لها أخاديد، بل هي  ظاهرة على الأرض، {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33)} يعني من أنها لا تنقطع زمنا، ولا تنقطع أبدا، {وَلَا مَمْنُوعَةٍ} يعني أنهم لا يمنعون عنها بخلاف فاكهة الدنيا، فقد توجد في زمن دون زمن، وكذلك قد تكون موجودة لكن الإنسان لا يستطيع أن يحصل عليها، {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} وهي الفرش المعروفة قيل هي الفرش المرفوعة التي يتكئون عليها، وقيل المقصود من ذلك النساء لأن المرأة بمثابة الفراش فلذلك قال بعدها لما قال {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} يعني الزوجات، {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} يعني خلقهن الله على أحسن ما يكون، {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} حتى قال عليه الصلاة والسلام كما ثبت عنه: ” إن الرجل ليصل في الجنة إلى مائة عذراء في  اليوم الواحد” فقال الله هنا

{فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37)} {عُرُبًا} بمعنى أنهن متحببات إلى أزواجهن حتى بالكلام الطيب الذي فيه التغنج، وفيه ما يسعد هؤلاء الأزواج، {عُرُبًا أَتْرَابًا} يعني أنهن مستويات في السن {عُرُبًا أَتْرَابًا} لمن؟ {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39)} يعني جماعة كثيرة {مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآَخِرِينَ (40)}} بمعنى أن عدد أهل اليمين في الأولين وفي الآخرين هم كثر بخلاف المقربين كما مر معنا

{ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ (14)} ، فقال هنا {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآَخِرِينَ (40)}}

 

{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَ آَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)}

{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} هذا الصنف الثالث الخبيث، {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} استفهم عنهم مرة أخرى من باب التحقير والتوبيخ، {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} يعني في سموم في ريح حارة شديدة {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} يعني في ماء حار متناهي الحرارة، {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} يعني ظل من دخان نار جهنم، {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} يعني ظل من نفس النار يعني من أنه ليس بظل نافع، ولذلك قال بعدها {لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} {لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} يعني من أنهم إذا كانوا في هذا الظل فإنه ليس ببارد يأتي إليهم ما ينفعهم لا، {وَلَا كَرِيمٍ} يعني ليس بحسن المنظر، ولذلك قال تعالى {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31)}

{لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} السبب في هذا العذاب: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ} يعني في الدنيا {مُتْرَفِينَ} يعني متنعمين مع تركهم للدين، {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} والحنث هو الشرك بالله، وقال هنا {الْحِنْثِ} مع أنه متعلق باليمين؛ لأنهم كانوا يحلفون اليمين الغموس الكاذبة من أنه لا بعث ولا نشور، ومن ثم فهذا شرك بالله سواء قيل الحنث ما يتعلق باليمين، أو أن الحنث هو الشرك {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} هل نبعث إذا صرنا ترابا وعظاما وكذلك {أَوَ آَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} يعني أويبعث حتى آباؤنا الأولون؟! {قُلْ} يا محمد لهؤلاء {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)} يعني إلى وقت معلوم، قال تعالى {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} وقال تعالى {قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ}.

{ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ} {الضَّالُّونَ} عن الهدى {الْمُكَذِّبُونَ} بهذا القرآن، {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52)} وذلك لخبثه وقبحه، ومر تفصيل له في سورة الصافات، وسمي بالزقوم؛ لأنه يتزقم، لأنه يؤكل، فقال الله {فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} يعني من هذه الشجرة الخبيثة {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ} وهو الماء الحار {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} يعني تشربون كما تشرب الإبل الهائمة التي أصابها داء الهيام ومرض الهيام، فإنها إذا شربت فإنها لا تروى حتى تهلك وتموت، فقال الله مبينا أنهم يشربون الشرب العظيم من هذا الماء الحار {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)} ولذا قال تعالى {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)}، وقال تعالى {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67)}

فقال الله هنا {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} يعني هذا ما يقدم لهم يوم القيامة وهذا من باب التحقير لهم؛ لأن النزل يقدم للضيف، وهنا تحقير لهم {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} يوم الجزاء والحساب.

 

{نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)}

{نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ} أين عقولكم حتى تعلموا أن هذا البعث حق، فقال الله {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ} خلقناكم من العدم {فَلَوْلَا} فهلا {تُصَدِّقُونَ} بأننا سنعيدكم مرة أخرى.

{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} وهو المني {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} هل أنتم تخلقون هذه النطفة في تلك الأرحام فتكون كأطوار كما ذكر عز وجل {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} الجواب: من أنهم لا يخلقون شيئا، {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} يعني مع تلك الأطوار يكبر أحدكم، وهكذا وهكذا إلى أن يأتيه الموت، {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} يعني منهم من يأتيه الموت وهو طفل، ومنهم من يأيته وهو شاب، ومنهم من يأتيه وهو طاعن في السن، {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} وأيضا قضى الله الموت على أهل السماء، وعلى أهل الأرض {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} يعني لسنا بعاجزين {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} بمعنى: أننا نذهب بكم، ونأتي بما يشابهكم من أمثالكم في صفاتكم الحسية، وقيل نبدلكم بأقوام آخرين كما قال تعالى {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} وقال تعالى {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ}

{نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61)} ننشئكم خلقا آخر إما أن تكونوا قردة، وإما أن تكونوا خنازير، أو ما شابه ذلك، فقال الله {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ}

{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} علمتم النشأة الأولى من أننا خلقناكم من عدم فأنتم تعلمون ذلك، ولذلك قال تعالى {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}

فقال الله {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} تتذكرون تلك النشأة، فتعلمون أن من قدر عليها قادر على أن يبعثكم من قبوركم.

 

{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)}

{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)} أنتم تلقون البذر في الأرض، وتحرثون الأرض {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} ومن ثم فإن مثل هذا النص وأمثاله كالزارع مثلا لا يؤخذ منه اسم، فلا يقال الله هو الزارع، ولا يقال الله هو الماهد، ولا يقال الله هو القابل، ولا يقال الله هو الشديد، وذلك لأن تلك أتت مقيدة مقيدة، ولم تكن مطلقة حتى يؤخذ منها أسماء لله عز وجل، فليتنبه لمثل هذا؛ لأن أسماء الله عز وجل توقيفية فقال الله {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} يعني ذلكم الزرع {لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} يعني فتاتا  {لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} أي ظلتم تعجبون من هذا الأمر إذا كان حطاما فظلتم تفكهون، بل تقولون {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} يعني من أننا أصيبنا بالديون بخسارتنا لهذا الزرع، {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} من هذا الزرع.

 

{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)}

{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ} يعني من السحاب كما قال تعالى {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا}

{أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} يعني هم لم ينزلوه، {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} يعني ملحا لا تستطيعون أن تشربوه، وقال هنا {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ} ولم يقل لجعلناه كما فيما يتعلق بالزرع {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} وهذا يدل على أن جواب لو إما أن يأتي باللام، أو يأتي بغير اللام، لكن لماذا أتى باللام فيما يتعلق بالزرع؟ لأنهم لما كان لهم سبيل إلى الحرث، وإلى الزرع ربما يتوهم متوهم أنهم هم الذين رزعوه باعتبار حرثهم، ووضعهم للبذر، فجاء التأكيد فقال {لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} لكن الماء إذا نزل من السماء، فإنه لا سبب متعلق بهم أبدا لأنه ماء نزل من السماء {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} هلا تشكرون الله على هذه النعمة.

 

{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)}

{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} وتلك الأشجارالمسماة بالمرخ والعفار، وهي رطبة وبها ماء يضرب أحدهما بالآخر، فتشتعل نارا، فقال الله {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} يعني أنكم تشعلونها وتقدحونها {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72)} يعني أننا الخالقون، ولذلك ماذا قال تعالى {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ}

{نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} هذه النار في الدنيا إذا أصابكم لهيبها جعلناها تذكرة تذكركم بعظم لهيب النار التي في الآخرة، {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} يستمتع بها من؟ الموقون الذين هم المسافرون، يقال فلان دخل في القوا، القوا هي الصحراء، ولذلك فالمنتفع بهذه النار من؟ هم المسافرون والمقيمون، لكن لما كان نفع النار أعظم بالنسبة إلى المسافرين نص عليهم في الآية، {وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)} {فَسَبِّحْ} يعني مع تلك الدلائل ما الذي يلزمك؟ أن تعظم الله، وأن تنزه الله عما لا يليق به، {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} ومن ثم فإن الباء إذا دخلت، لأن الآيات تأتي بدون حرف الباء مثل {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} بدون الباء، وقال هنا {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قال ابن القيم رحمه الله: إذا أتى التسبيح من غير الباء {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} فالمقصود من ذلك أن الإنسان يذكر الله بلسانه متوافقا لما في قلبه، لكن إذا أتى بالباء، فالمقصود من ذلك التسبيح مع الفعل ما هو الفعل؟ الصلاة.

{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} نزه الله عما لا يليق به، وصلِّ له عز وجل {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}، ولذا جاء عند أبي داود وسكت عنه من أن هذه الآية لما نزلت قال عليه الصلاة والسلام: ” اجعلوها في ركوعكم”. {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}.

 

{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)}

{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} هنا أقسم الله بمواقع النجوم، وهنا كلمة “لا” أكثر المفسرين على أن المقصود منها لا التي هي لتأكيد القسم، يعني أنها زائدة يؤتى بها لتأكيد القسم، وقال بعض المفسرين: ” لا” المقصود منه هنا يعني ليس كما زعمتم، بل أقسم بمواقع النجوم، فقال الله هنا {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} وبعض  العلماء قال: يؤتى بها للتأكيد قبل القسم مطلقا كقول عائشة رضي الله عنها: ” لا والله ” أتت بكلمة “لا والله ما مست يد رسول الله عليه الصلاة والسلام يد امرأة”.

المهم: كل ذلك من باب التأكيد على القسم، {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} وهي منازل النجوم التي تغرب فيها، وهذه الآية كالآية التي مرت معنا {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} ومن ثم فإن معظم ما ذكر هناك من اختلاف العلماء في القسم بالنجم يذكر هنا،  {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ} ثم أتى بجملة اعتراضية {لَوْ تَعْلَمُونَ} من باب التأكيد على عظم هذا القسم، { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77)} هذا القرآن كريم كما أنه مجيد فهو كريم، ومن آثار كرمه وبركة هذا القرآن من أن من قرأ حرفا فله به عشر حسنات، وكذلك من تدبره، وتأمله، وعمل به، وتحاكم إليه، وحكمه، فإنه يكون له المنازل العالية، {إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78)} يعني في اللوح المحفوظ الذي حفظ، وأيضا لا ينظر إليه البشر {إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} يعني من؟ الملائكة {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} وقد أخذ بعض العلماء من هذه الآية من أنه لا يجوز أن يمس المصحف، ومن ثم فإنه هذا القول لا يستدل حقيقة بهذه الآية، وإنما يستدل له بأنه ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام قوله: ” لا يمس القرآن إلا طاهر”  وإن كان كلمة طاهر يدخل فيها المسلم، ويدخل فيها من تطهر من الحدث الأكبر والأصغر، إلا أننا نقول: لا تكون براءة الذمة إلا باجتناب ماذا؟ الحدث إلا باجتناب الحدث الأكبروالأصغر،  ومن ثم فإن قوله تعالى {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} إخبار عن الملائكة، وليس نهيا؛ لأنه لو كان نهيا لقال لا يمسَّه إلا المطهرون، وقال بعض المفسرين: إنه خبر يراد منه النهي، لكن يقال إن قوله {الْمُطَهَّرُونَ} يدل على أن هؤلاء مطهرون، ولم يقل لا يمسه إلا المطِّهِرون، وعلى كل حال يستفاد من ذلك من أن العبد كلما طهر قلبه من الذنوب كلما كان انتفاعه بالقرآن أعظم وأعظم وأعظم، وكل بحسبه.

{تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يعني هذا القرآن {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} يكيف تكذبون هذا القرآن؟!  {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ} استفهام إنكاري، {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} تكذبون.

{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} تجعلون الرزق وهو شكر الله على النعمة تجعلون المقابل لها من أنكم تكذبون تنسبون ما ينزل من المطر من أنه بنجم كذا وكذا، ونسيتم أن الذي أنزله هو الله، فقال {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}.

 

{فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)}

{فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} هنا حال الأصناف الثلاثة، {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً} في أول السورة لما ذكر في ثنايا السورة ما يكون لهم من ثواب وعقاب في الآخرة، ذكر حالهم ماذا؟ حال الاحتضار فقال الله  {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} {بَلَغَتِ} يعني الروح، {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ} يعني أقرباء الميت، {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} إلى حاله، ولا تستطيعون أن تردوا عنه الموت، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} هل هذا القرب قرب الله أو قرب الملائكة؟ مر معنا مفصلا في قوله تعالى {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}  ومر طرف منه في قوله تعالى {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}، فقال الله {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} يعني من هذا المحتضر، ولذلك قول من يقول من أن القرب هنا  للملائكة لأن الذي يبصر إنما هو في الدنيا يبصر من؟ الملائكة، {وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ}.

{فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} يعني هلا إن كنتم غير مجزيين يوم القيامة، {تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أرجعوا الروح إلى الجسد {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فيما تزعمون.

{فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ} يعني راحة {وَرَيْحَانٌ} يعني رزق وطيب {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ}.

{وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91)} هذا هو القسم الثاني {فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} يعني أن أصحاب اليمين في سلام، فلا تسأل عنهم فهم في سلامة، وفي أمن، أو على الرأي الآخر من أن تكون من أصحاب اليمين.

{وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ} لأنه قال في ثنايا السورة قال الله  {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52)}  قال هنا {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93)} {فَنُزُلٌ} يعني أنه يهيأ له ماذا؟ نزل {مِنْ حَمِيمٍ} ماء شديد الحرارة {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} يعني يقاسي حر وعذاب الجحيم.

{إِنَّ هَذَا} يعي ما ذكر في هذه السورة {لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} قال بعض المفسرين هذا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف يعني إن هذا اليقين الحق، وقيل هما بمعنى واحد، الحق معناه هو اليقين فمن باب إضافة الشيء إلى نفسه باختلاف اللفظين، فقال هنا {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ}.

{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} فنزه الله عز وجل عما لا يليق به، وصلِّ له عز وجل، فما بعد تلك الآيات الواضحات إلا أن يعظم الله وأن يسبح…

وبهذا ينتهي تفسير سورة الواقعة..