تفسير سورة ( التحريم ) ( الدرس 253 )

تفسير سورة ( التحريم ) ( الدرس 253 )

مشاهدات: 755

تفسير سورة ( التحريم )

الدرس (253 )

فضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تفسير سورة التحريم… وهي من السور المدينة…

{يَا أَيُّهَا النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النبي إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)}

{يَا أَيُّهَا النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} وهذا التحريم على الأشهر وما دلت عليه الأحاديث الصحيحة الكثيرة من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل على زينب رضي الله عنها، وكان يشرب عندها عسلا، واتفقت عائشة مع حفصة رضي الله عنهما على أن كلا منهما إذا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم  تقول له: “إني أجد منك ريح مغافير” وهو مثل الصمغ الحلو، لكنه يخرج رائحة ليست حسنة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجد في نفسه ما يجد إذا صار هناك ريح ليست حسنة، فحرم النبي صلى الله عليه وسلم حرم على نفسه العسل.

وقيل في رواية أخرى: من أن النبي صلى الله عليه وسلم  جامع إحدى إمائه في بيت حفصة رضي الله عنها، فحرم جماع هذه الأمة، لكن المشهور ما ذكرناه فيما يتعلق بقضية العسل، فقال الله {يَا أَيُّهَا النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} من أجل ماذا؟ مرضات أزواجك {تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} غفور ورحيم عز وجل لمن تاب ورجع إليه.

{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} يعني أوجب عليكم من أجل أن تتخلصوا من هذه اليمين بماذا؟ بكفارة اليمين. {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}  والكفارة فيما يتعلق بالتحريم، فمن حرم على نفسه شيئا مباحا قال حرام عليّ مثلا أن آكل التفاح، أو أن آكل هذا الطعام، أو أي شيء حرمه من الحلال فإنه إذا أراد أن يعود عليه يكفر كفار يمين: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فإذا لم يجد فصيام ثلاثة أيام كما وضحنا ذلك في سورة المائدة،..

وهل يدخل في ذلك لو حرم زوجته؟ خلاف بين أهل العلم: بعض أهل العلم يقول إنه بمثابة الظهار، وبعضهم يقول إنه من باب المباحات، فإنه يكفر  كفارة يمين، وعلى كل حال تحدثت عن هذه المسألة بالتفصيل في غير هذا الموطن في درس الفقه.

فقال تعالى {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ} هو الذي يتولى أموركم، وهو الذي ينصركم، وهي ولاية خاصة، {وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} ولذلك لعلمه عز وجل شرع لكم الكفارة، ولحكمته  شرع لكم هذه الكفارة.

{وَإِذْ أَسَرَّ النبي إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا}  أسر إلى حفصة رضي الله عنها من أنه حرم على نفسه العسل، أو على الرواية الأخرى أنه حرم جماع تلك الأمة، {وَإِذْ أَسَرَّ النبي} بمعنى أنه أمرها ألا تفشي هذا الأمر.

{وَإِذْ أَسَرَّ النبي إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} يعني هي أخبرت عائشة رضي الله عنها، {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} يعني الله أطلعه على ما قالته حفصة لعائشة رضي الله عنهما، {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} يعني عرف بعضه لحفصة يعني لماذا أخبرت بهذا السر؟ {وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} يعني لم يذكر كل الأشياء، وهذا كما يقول العلماء: ” ما استقصى كريم” ولذلك يوسف عليه السلام لما أتى إليه إخوته معتذرين {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} إذن ما بعد اليوم من باب أولى، {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ}.

فقال تعالى هنا {عَرَّفَ بَعْضَهُ}  يعني ذكر بعضه لها {وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} يعني لم يذكره. {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} يعني أخبرها بما جرى منها من إفشاء  السر، {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا}  يعني من أخبرك بهذا؟ هل أخبرتك عائشة؟ تظن أن عائشة رضي الله عنها قد أخبرته. {قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} وهو الله المطلع على كل شيء، وعلى دقائق وخبايا الأمور.

{إِنْ تَتُوبَا} الخطاب لحفصة وعائشة رضي الله عنهما، {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} يعني مالت قلوبكما إلى ما لا يرضي رسول الله، إذن عليكم التوبة، ولذلك قال {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} يعني مالت قلوبكما عما يريده النبي صلى الله عليه وسلم وما لا يريده النبي صلى الله عليه وسلم ويشق عليه، هذا لا يرضيه فيكون هذا ميلا عن دين الله، {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} وهما اثنتان، ولم يقل قلباكما؛ لأنه في اللغة العربية الأفضل إذا جاء مثنى مضافا إلى مثنى فإنه يؤتى بالجمع حتى لا يكون اللفظ ثقيلا، وقد وضحنا هذا فيما يتعلق بإثبات صفة اليدين لله بما يليق بجلاله وبعظمته في سورة آل عمران، {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ}.

{وَإِنْ تَظَاهَرَا} يعني تتعاونا {عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ} هو مولاه يتولى أموره وينصره {وَجِبْرِيلُ} ونص على جبريل من باب االثناء على جبريل عليه السلام، {وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} ثم قال {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} يعني أنهم ظهراء يعاونون النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لو قال قائل: لماذا قال في آخر الأمر{وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} ألا يكفي ما يقدره عز وجل بنفسه فنقول: بلى، لكنه عز وجل قدم نفسه في أول الأمر؛ لأن كل ما يجريه فيما يتعلق بولاية النبي صلى الله عليه وسلم  من جبريل وصالح المؤمنين هذا بأمر الله، فلما ذكر جبريل وذكر صالح المؤمنين ذكر عموم الملائكة، {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}.

{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} يعني من أنكن إذا فعلتن هذا الأمر والمشقة بالنبي صلى الله عليه وسلم  {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} {عَسَى رَبُّهُ} وعسى كما قال العلماء من الله واقعة ومتحققة، قال بعض العلماء إلا هذه الآية، فإنها لم تتحقق، فإنها لم تتحقق، والقول الآخر ولعله هو الأظهر من أن عسى هنا للوقوع وللتحقق، لكن لم يقع؛ لأنه مشروط بشرط، بشرط ماذا؟ بشرط الطلاق فلما لم يطلق هنا لم يتحقق هذا الأمر؛ لأنه مشروط بالطلاق، فقال تعال {عَسَى رَبُّهُ} وهذا يدل على ماذا؟ على عناية الله بالنبي صلى الله عليه وسلم  {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} ما صفاتهن؟ {مُسْلِمَاتٍ} من حيث الظاهر. {مُؤْمِنَاتٍ} من حيث الباطن، {قَانِتَاتٍ} يعني أنهن مديمات للطاعة، {تَائِبَاتٍ} يعني من أنهن كثيرات التوبة يتبن إلى الله، {عَابِدَاتٍ} يعني أنهن ملازمات للعبادة، {سَائِحَاتٍ} السائح مر معنا مفصلا أكثر في قوله تعالى في سورة التوبة {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ} يعني خلاصة ذلك من أنهن يسارعن إلى العمل الطيب مما ليس مخصوصا بشيء، وقد قال بعض العلماء {سَائِحَاتٍ}  يعني مهاجرات، وقيل صائمات، وهذه تدخل ضمن هذه، {سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا}  {ثَيِّبَاتٍ} يعني من أنهن قد تزوجن من قبل، {وَأَبْكَارًا} يعني لم يسبق لهن الزواج.

ولكن لو قال قائل: لماذا هنا لم يأت بالعطف {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} لم؟ لأن المقصود من ذلك أن الصفات السابقة كل تلك الصفات تكون في المرأة الواحدة، لكن الثيب والبكر هل يمكن أن تجمتع في المرأة الواحدة في آن واحد؟ الجواب: لا، ولذلك قال {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا }، ومن ثم فإن النبي صلى الله عليه وسلم  ما تزوج من النساء بكرا إلا عائشة رضي الله عنها، لماذا جمع قال {وَأَبْكَارًا} فالذي يظهر والعلم عند الله من أن ذلك يكون في الجنة، ولذا ورد حديث من أن آسية بنت مزاحم التي هي زوجة فرعون، وكذلك مريم بنت عمران، وكذلك أخت موسى عليه السلام من أنهن زوجات للنبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، لكنه حديث ضعيف، لكن الله على كل شيء قدير، له أن يزوج النبي صلى الله عليه وسلم بهؤلاء النسوة وبغيرهن.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)}

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} لما كان الحديث عن الأهل أمر بماذا؟ بأن يقي الإنسان نفسه بأن يجنب نفسه مساخط الله حتى لا تؤدي به إلى النار, وأيضا يأمر أهله فإن هذا واجب عليه، {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}  ونكرها، نكر النار لتعظيمها، {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} أي الذي يشعلها، {النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} ولذلك قال في سورة البقرة {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} وقال تعالى {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}.

{عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ} غلاظ من حيث القول، شداد من حيث قوة الأبدان، {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} يعني أنهم لا يعصون الله أي أمر من الأمور، لكن قال بعدها {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} لكن لماذا قال {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}  ألا يكتفى بالجملة السابقة؟ فالجواب: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} يعني هم لا يعصون الله ما أمرهم، ينفذون تنفيذا تاما، وأيضا إذا نفذوا فإنهم ينفذون عن طواعية وعن رضى.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} لا ينفع الاعتذار في يوم القيامة، {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} الجزاء على حسب أعمالكم.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)}

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} وذلك بأن تتوبوا إلى الله بشروطها الإخلاص والاستغفار والعزم على ألا يعود الإنسان إلى الذنب، والندم على ما فات، وأن تكون التوبة في وقتها قبل أن يغرغر العبد، وإن كان فيما يتعلق بحق آدمي فإنه يعطيه هذا الحق مع الشروط السابقة، لكن لو قال قائل: لماذا وصف التوبة بأنها نصوح؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا}  وصفها بأنها نصوح لأنه إذا تحققت شروطها نصحت صاحبها، فلا يرجع إلى الذنب مرة أخرى، {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ} وهذه متحققة {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ} لا إهانة، ولا ذل للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا للذين معه {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} ومر معنا في قوله تعالى {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} وفصلنا في ذلك تفصيلا أشمل.

فقال هنا {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} يعني أدم هذا النور، وأتممه لنا، وذلك لأن المنافقين في يوم القيامة {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} فقالوا هنا متوسلين إلى الله بأن يتم لهم النور، {يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا} وذلك لأن الذنوب مهلكة للعبد في يوم القيامة، فهنا إذا غفرت الذنوب نجا العبد من عذاب الله، {وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ومن ذلك إتمام النور ومغفرة الذنوب.

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} يعني واشدد عليهم {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} يعني مثواهم جهنم {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}  والمرجع، ومر تفسير لهذه الآية أكثر في سورة التوبة.

 

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)}

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا} ما هو هذا المثل للذين كفروا؟ {اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ} وذكر ما يتعلق بامرأة نوح وامرأة لوط يعني لتنتبه زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك لأن نوحا ولوطا لم ينفعا هؤلاء الزوجات، فدل هذا على ماذا؟ على أن في ذلك تحذيرا لطيفا لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم  مع أنهن رضي الله عنهن قد أثنى الله عليهن في سورة الأحزاب، ولذلك ماذا قال تعالى {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} وقد اخترن الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، ولذلك ماذا قال مكافأة لهن {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} فرضي الله عنهن، فقال تعالى مبينا من أن وجود المرأة تحت من هو صالح وشريف، ولو كان نبيا فإن ذلك لا ينفعها {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} لماذا لم يقل نبيين؟ من باب ماذا؟ من باب أن الصلاح صفة من أجل أن يقتدي الناس بهما، فليسارعوا إلى الصلاح، وذلك لأن الله وصف هذين النبيين في آيات أخرى من أنهما أنبياء، ولذلك قال {تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} ولذلك يوسف ماذا قال {رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} إلى غير ذلك مما سأله أنبياء الله عليهم السلام.

{فَخَانَتَاهُمَا} الخيانة هنا هي خيانة الكفر، وليست خيانة الزنا، فلم يجعل الله تحت نبي لم يجعل تحته امرأة بغية زانية، وذلك لطهارة النبي صلى عليه الصلاة والسلام، ولطهارة فراشه، ومن ثم فإن المقصود من الخيانة هنا خيانة هاتين المرأتين فيما يتعلق بالدين، فإنهما كانتا كافرتين {فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} نوح ولوط عليهما السلام لم يغنيا عن زوجتيهما شيئا {وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ} يعني قيل لهاتين الزوجتين {وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} مع من يدخل النار.

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا} ما هو هذا المثل للذين آمنوا؟ {اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ} وفرعون الطاغية المعروف، {إِذْ قَالَتْ رَبِّ} تدعو الله {ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا} قالت {ابْنِ لِي عِنْدَكَ} وأخرت البيت، ولذلك طلبت ماذا؟ طلبت الجار قبل الدار، {ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} يعني من عمله الشرك، ويدخل في ذلك قول من قول ومن تعذيبه؛ لأنهم قالوا إنه عذبها، وأيضا من جماعه، الجماع جعلته من العمل، {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} هو وجنوده وأشابه هؤلاء.

{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)}

{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ} ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم ماذا قال؟ ” كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية ومريم..”  الحديث.. فقال الله هنا {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ} يعني ومثلا آخر للذين آمنوا من؟ {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} يعني حفظت فرجها لما تمثل لها الملك جبريل على صورة إنسان على أحسن ما يكون، فإنها مع ذلك الخفاء وعظته {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} فهذا هو حصانة فرجها، فقال تعالى {الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ} يعني في الفرج، وفي الآية الأخرى {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} وبينا ذلك مفصلا في سورة مريم، وفي سورة الأنبياء، {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} وذلك بأن الله أرسل جبريل إليها فنفخ في جيب درعها، فولجت النفخة إلى فرجها، فحلمت بعيسى من غير أب، فقال الله عز وجل {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} بكلمات ربها مما كتبه الله عليها فيما يتعلق بعيسى عليه السلام، وما شابه ذلك، وأيضا بكلماته عز وجل الشرعية والقدرية، {وَكُتُبِهِ} يعني آمنت بالكتب كلها حتى بالكتاب الذي نزل على ابنها وهو الإنجيل، {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} لم يقل وكانت من القانتات، بل كانت من جملة القانتين من الرجال ومن النساء لأنها طبقت، ولذلك ماذا قال تعالى في سورة آل عمران {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}  هنا كتب الله بذلك القنوت هذا الفضل والثواب.

وبهذا ينتهي تفسير سورة التحريم…