محاضرات وكلمات
تأملات حول آيات الصيام (8 )
قوله تعالى :
{ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ … }
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــ
قال جل وعلا :
((وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ))
ذكر جل وعلا هذه الآية بعد قوله تعالى :
((فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ))
وقلنا :
إن هذه الآية وهي قوله تعالى :
((فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ))
أن هذا في حق من كان مرضه طارئا
فمن لديه عذر طرأ عليه فمنعه من الصيام فله أن يفطر وعليه أن يقضي هذه الأيام
والقضاء يدل على أهمية الصوم
وأن الصيام له من الثمرة اليانعة العظيمة على تقوى المسلم الشيء العظيم
ولذا :
لم يسقطه جل وعلا مطلقا
لكن لو قال قائل :
لو كان العذر مستمرا فنقول :
أتت الآية التي تليها توضح حكم من وقع في عذر مستمر لا يستطيع معه على الصيام
ما الدليل ؟
قوله تعالى :
((وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ))
سبحان الله !
ظاهر هذه الآية :
أنها في حق القادرين في شأن المستطيعين قال :
((وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ) )
يعني :
يستطيعونه
ماذا عليهم ؟
عليهم :((فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ))
فكيف تكون هذه الآية دليلا على هذا العذر المستمر ؟
لتعلم :
أن الصيام في أول الإسلام كان الأمر فيه بالتخيير
للقادر أن يختار :
إما أن يصوم وهوخير له
وإما أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا
وهذا هو ظاهر الآية :
((وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً))
يعني :
زاد على طعام مسكين فأطعم مسكينين أو ثلاثة أو أربعة فهوخير له :
((فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ ))
هذا في أول الإسلام
((وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ{184} ))
ثم جاء النسخ بالتحتيم وإلزام الجميع بالصيام فقال جل وعلا :
((شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ))
إلى أن قال :
((فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ))
إذاً :
قوله تعالى :
((وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ )
في حق من ؟
في حق القادر في أول الإسلام
ماذا قال ابن عباس ؟
قال :
(( بقيت هذه الآية في الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة لا يستطيعان الصيام يطعمان عن كل يوم مسكينا))
إذاً :
قوله تعالى :
(( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ))
بقيت في حق من ؟
في حق من عذره مستمر
مريض :
عافانا الله وإياكم من البلاء فيه مرض لا يرجى برءه
الله عز وجل ما أنزل داء إلا وأنزل له دواء علمه من علمه وجهله من جهله
ولكن :
بعض الأمراض عند الأطباء :
تكف أيديهم يرفعون أيديهم يقولون :
” إن هذا المرض لا يرجى برؤه ، فمصير هذا الرجل طال الزمن أو قصر إلى الموت ، الشفاء لا يؤمل فيه ، لكن عند الله يمكن أن يشفى “
وكم من شخص ابتلي بمرض خطير لعب في جسمه فشفاه الله جل وعلا وما كان أهله يتوقعون أن يشفى
وأنا أعرف بعض الأشخاص ممن ابتلي بمرض السرطان ، وليس شخصا واحدا بل عدة أشخاص ابتلوا بالسرطان واستئصل منهم بعض الأمعاء، وبعض الأعضاء ، ومع ذلك لما تليت عليهم آيات الله جل وعلا شفاهم الله عز وجل
فإذا كان المريض به مرضا لا يرجى برؤء أو كبير في السن طاعن في السن إما رجل أو امرأة وعقله معه
فهنا :
يقال لهذا المريض الذي لا يرجى برؤه:
تفطر وتطعم عن كل يوم مسكينا
نقول لهذا الشيخ الكبير ولهذه المرأة الكبيرة التي معها عقلها :
نقول : تفطر وتطعم عن كل يوم مسكينا
لكن :
إن كان الكبير قد زال العقل فأصبح في حالة الهذيان وأصبح مخرفا مهذريا فهنا
لا صيام عليه ولا إطعام
فقوله جل وعلا :
(( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ))
لماذا الإطعام بالذات ؟
يعني :
لماذا إذا أفطر من به مرض لا يرجى برؤه أو كبير لا يستطيع الصيام لماذا يطعم ؟
لماذا بالذات الإطعام ؟
الجواب :
والله أعلم لأن الصيام لمارفع عنه هنا لم يحس في هذه الأيام بحال إخوانه الفقراء
لأن من ثمرات الصيام :
أن يشعر الغني بفقر وبحاجة وبجوع إخوانه
فإذا حس بآلام الجوع وبآلام العطش هنا يرق قلبه على إخوانه الضعفاء فيتصدق عليهم
فهنا :
إذا افتقد هذا الشعور بالفطر هنا يقال له :
لتطعم بديلا عن هذا الصيام طعاما لهذا المسكين
فقال جل وعلا :
(( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ))
أطلق :
فإذاً :
يمكن ان تطعم المسكين طعاما مطبوخا أو تعطيه طعاما نيئا
الأمر سيان
لم ؟
لأن الآية أطلقت
((فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ))
ما مقدار هذا الطعام ؟
مطلق بقدر ما تشبعه:
إما :
عشوة
وإما غدوة
وإما إفطار
فبقدر ما تشبعه يكفي هذا
ثم قال عز وجل :
((فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً )) :
يعني :
من زاد في الإطعام على إطعام مسكين فزاد مسكينين أو ثلاثة أو أربعة فهوخير له
((فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ))
قال :
((فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ))
يدل على أن ثمرة وفائدة العبادة إنما تعود عليك أنت أيها المكلف
أنت الذي بحاجة إلى فائدة وثمرة وثواب هذه العبادة
ولذا :
فالله لا تضره معصية العاصي ، ولا تنفعه طاعة المطيع :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل:
قال :
(( لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئا ، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا ، يا عبادي إنما هي أعمالكم أوفيها لكم ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد سوى ذلك فلا يلومن إلا نفسه ))
ولذا قال تعالى :
((فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ))
حينما تصلي وتؤدي نافلة من النوافل فإن ثوابها يرجع إليك تحتاج إلى ثواب هذه العبادة في يوم كان مقدار خمسين ألف سنة يتمنى الإنسان الحسنة الواحدة الذي ربما بهذه الحسنة إن لم يتحصل عليها يستوجب النار
(( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ{34} وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ{35} وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ{36} ))
أمك :
التي تعطف عليك وتشفق عليك في حياتك وفي صغرك وفي شبابك وفي كبرك لو طلبت منها حسنة واحدة ما أعطتك هذه الحسنة
فكونك ترغم هذه النفس على طاعة الله وتجاهد هذه النفس فهو خير لك كما قال تعالى :
{وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } العنكبوت6
((وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ{184} ))
قال :
((وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ))
هذا يدل على ماذا ؟
أنه لما كان الأمر في بداية الأمر في شأن الصيام على الاختيار قال :
(( من شاء أن يفطر ويطعم ولو زاد في الإطعام فهو خير له لكن مع هذا كله لو صمت فهو خير لك من الفطر ومن الإطعام ولو زاد))
ماذا يدل عليه قوله :
((وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ )) ؟
يدل على عظم هذا الصيام وأن فيه خيرا عظيما
وقد سبقت الإشارة إلى شيء من هذا في أول درس عند قوله تعالى :
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{183} ))
ثم :
ماذا قال جل وعلا ؟
قال :
((وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ{184} ))
يعني :
إن كنتم تعلمون عظم الصيام فبادروا إليه
لماذا قال : ((إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ{184} ))
لتعلم :
أن أي آية ختمت بكلمة أو ختمت باسم من أسماء الله فإن لهذا الختام تعلقا بما قبله :
قال :
((وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ{184} ))
يدل على أن العبد كلما ازداد لله عبادة فهو العالم
وأن من تهاون في واجب من الواجبات أو ارتكب معصية من المعاصي فإنه جاهل
فليس العالم الذي حوى العلم وحفظ النصوص ؟
لا
العالم :
هو الذي عمل بعلمه
ولذا قال جل وعلا :
((إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ))
يعني :
الذي يخشى الله من هم ؟
هم العلماء
ولذا جابت عبارة بعض السلف :
[ من عصى الله جل وعلا فهو جاهل ولو كان من أعلم الناس ]
لماذا ؟
حتى لو كان عالما
حتى لو كان حافظا لكتاب الله
حتى لو كان حافظا لسنة النبي عليه الصلاة والسلام ففي وقت ارتكابه للمعصية فإنه من الجاهلين
لماذا ؟
لأنه يجهل عظمة الله جل وعلا ، ولو كان يعلم عظم الخالق ما تجرأ على الإقدام على هذه المعصية
ولذا :
أبو جهل كان يكنى في الجاهلية بأبي الحكم
كان عنده من الحكماء وذو رأي صائب وفكر ثاقب ويستشيرونه
ولذا :
في دار الندوة :
لما خططوا للقضاء على النبي عليه الصلاة والسلام لما ظهر أمره :
قال بعضهم :
ليحبس حتى لا يظهر أمره
قال البعض :
بل يخرج من المدينة
فقال أبو جهل :
لا ، بل نأخذ فتى من كل قبيلة ثم يأتون إليه فيضربونه ضربة واحدة فيضيع دمه في القبائل
قال جل وعلا :
((وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ ))
يعني :
ليحبسوك
أو : (( أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ))
فاستقر أمرهم على رأي أبي جهل
وكان الشيطان وقتها قد حضر الجلسة في صورة شيخ نجدي فقال : الرأي ما رأى هذا الرجل
سبحان الله!
اجتمع واتفق معا رأي من ؟
رأي شيطان الإنس وشيطان الجن
فلما جاء النبي عليه الصلاة والسلام وجاء الإسلام كني بأبي جهل
لماذا مع أنه حكيم ؟
لأنه عصى الله ومن عصى الله فهو جاهل
قال تعالى :
((إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ))
لو كان يعلم عظم الله جل وعلا ما أقدم على هذه المعصية
ولذا :
يقول بعض السلف :
(( لا تنظر إلى المعصية من حيث هي ولكن انظر إلى عظمة من عصيت ))
لا تنظر إلى المعصية وإن صغرت وإن قلت وإن احتقرت في عينك
انظر إلى عظم من عصيت وهو الله
وكلما ازداد العبد لله طاعة كلما ازداد علما :
((يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ ))
ما الذي يحصل لكم ؟
((يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً ))
على قول بعض المفسرين :
((وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ{282} ))
ونحن لو نرى ونطلع على سيرة بعض السلف وجدنا أنهم علماء ويضرب بهم المثل في العلم
ويضرب بهم المثل في العبادة :
ابن القيم :
من العلماء المعروفين ومع ذلك مع علمه كان من أعبدالناس
يقول تلميذه ابن كثير :
(( كان إذا دخل في الصلاة أشفقنا عليه من طول صلاته ))
لو قال قائل :
سبحان الله
هذا الرجل حصل على هذه الحصيلة العلمية الغزيرة وهو يصرف هذا الوقت في هذه الصلاة
من أين أتاه هذا العلم ؟
فتوحات من ربه جل وعلا
شيخه شيخ الإسلام :
كان عجيبا في العبادة ومع ذلك إن رأيته في العلم قلت : هذا من أعلم الناس لا يشق له غبار
وإن رأيته في العبادة :
قلت :
لا يشق له غبار
لماذا ؟
لأن العلم
كما قلنا لكم :
شكاية الشافعي:
لما لم يحفظ في بعض الأيام وشكا إلى شيخه وكيع بن الجراح ماذا قال ؟
قال :
شكوت إلى وكيع سوء حفظي
فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن علم الله نور
ونور الله لا يؤتى لعاصي
بل إن البعض قد لا يكون طالب علم ومع ذلك إذا ذكرت مشورة وجدت أن رأيه من أصوب الآراء يوفق ويسدد من الله
فإذاً :
إن شئت ورمت ورغبت أن تفوز بخير الدنيا والآخرة فعليك أن تتقي الله جل وعلا وأن تكون من أعبد الناس
والجزاء من جنس العلم
والله لا يضيع أجر من أحسن عملا
ثم ماذا قال جل وعلا بعد قوله :
(( وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ{184} ))
قال :
((شَهْرُ رَمَضَانَ ))
قوله :
((شَهْرُ رَمَضَانَ ))
تفسير للأيام التي كتبت علينا
لأنه قد يقول قائل :
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{183} أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ))
أين ذكر رمضان ؟
هل في هذه الآية الأولى ذكر لرمضان ؟
لا إنما هي أيام أمرنا بصيامها
ما هي هذه الأيام ؟
جاءت الآية وهي قوله تعالى :
((شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ))
تبين أن تلك الأيام التي أمرنا بالصيام فيها إنما هي أيام رمضان