شرح كتاب ( بلوغ المرام ) ـ الدرس 34 حديث 37
( باب الوضوء )
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين :
( أما بعد )
فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
عن أبي هريرة رضي الله عنه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
” إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستثر ثلاثا ، فإن الشيطان يبيت على خيشومه ” )
متفق عليه
( من الفوائد )
بيان حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أمته فبيَّن لهم ما ينفعهم ليفعلوه ، وبيَّن لهم ما يضرهم ليجتنبوه “
ومن أعظم ما يضر ابن آدم هو عدوه اللدود الذي هو الشيطان .
( ومن الفوائد )
بيان خطر الشيطان وأنه لا يألو جهداً في الإضرار بابن آدم ، فلا يسلم منه ابن آدم حتى في منامه ، ولذا على المسلم أن يحترز منه ، وذلك بالمحافظة على الأوراد التي تقال عند النوم .
( ومن الفوائد )
أن ” على النائم إذا استيقظ من نومه أن يستنثر ثلاثاً ”
وهذا على سبيل الوجوب على القول الصحيح ، لأنه أمر مطلق ولم يأت ما يخصصه ويقيده .
ولكن ينوب عن هذا الاستنثار إذا قام من منامه فتوضأ ، فإن استنثار الوضوء كافٍ ، لما جاء عند البخاري :
( إذا استيقظ أحدكم من نومه فتوضأ فليستنثر ثلاثاً )
فإن قام من النوم ولا يريد وضوءاً فيجب عليه الاستنثار ثلاثا على سبيل الاستقلال .
( ومن الفوائد )
أن ” ذكر الاستنثار يلزم منه الاستنشاق “
لأنه لما أمر بالاستنثار كان من ضمن هذا الأمر أن يستنشق ، وإلا فكيف يحصل استنثار ؟
( ومن الفوائد )
أن ظاهر هذا الحديث في أوله يدل على: أن هذا الأمر يشمل نوم الليل ونوم النهار ، لقوله عليه الصلاة والسلام :
( إذا استيقظ من منامه )
و ( منام ) مفرد أضيف إلى الضمير الذي هو معرفة ، فيشمل جميع النوم “
لكن ذكر البيتوتة في نهاية الحديث تحصر هذا الحكم في نوم الليل ، فمن استيقظ من نوم النهار فلا يلزم بهذا ، لكن إن أتى به فهذا خير وبركة ، وإن لم يأت به فالحكم محصور في نوم الليل .
( ومن الفوائد )
أن الأصوليين قالوا :
[ إن العموم يخصص بطريقين : إما بمخصص منفصل ، وإما بمخصص متصل ]
فالمنفصل : أن يأتي نص عام ويأتي نص آخر خاص فيخصصه .
مثال : حديث النبي صلى الله عليه وسلم:
( في كل أربعين شاة شاة )
هذا شامل لكل جنس الغنم .
لكن جاء في حديث آخر ( في السائمة ) فهذا خصص النص السابق العام ، فلا تجب الزكاة إلا في السائمة ، فيخرج المعلوفة لأنها داخلة ضمن النص العام .
والمنفصل : كما هنا ، فإن العام أتى بعده حصر ، ما هو العام ؟ ( من منامه )
والمخصص : ( يبيت على خيشومه )
مثال آخر على المخصص المتصل :
قال تعالى : { وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ } هذا نهي أن يعزم على العقد على امرأة معتدة ، لكن خصص { حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ }البقرة235 ، فإذا فرغت من العدة فلا إشكال في ذلك .
( ومن الفوائد )
أن صيغة الأمر المذكورة هنا ما نوعها ؟
” الفعل المضارع المقرون بلام الأمر “
( ومن الفوائد )
أن ” البيتوتة : تطلق على من أدركه الليل نام أو لم ينم “
وهنا في هذا الحديث في حق من نام ، فيكون الحكم خاصاً بمن نام .
وليس في حق من لم ينم : كما نقول ” يلزم أن يبيت بمزدلفة ” لا يلزم أن ينام ، فمكثه بالليل في مزدلفة هذه بيتوتة .
وكذلك حديث ( فبات الناس يدوكون ليلتهم )
( ومن الفوائد )
أن ” النوم المقصود به هنا هو النوم الذي ينقض الوضوء “
أما إذا كان نوماً يشعر فيه الإنسان بمن حوله ، فلا يدخل ، لما جاء في الحديث الآخر : ( فإنه لا يدري أين باتت يده )
فالمقصود من هذا النوم الذي يوجب الاستنثار هو النوم الذي ينقض الوضوء .
( ومن الفوائد )
أن قوله عليه الصلاة والسلام :
( فليستنثر ثلاثا )
أخذ منه بعض العلماء – وهي رواية عن الإمام أحمد ” أن النجاسة تغسل ثلاث مرات حتى لو طهرت في المرة الأولى “
ونحن نقول : ” إنه لا ذكر هنا للنجاسة ولا تعرض لها “
فالصحيح : أن الأحاديث الواردة تدل على أن النجاسة المتوسطة – بخلاف المغلظة وهي نجاسة الكلب ، وبخلاف المخففة التي هي بول الغلام الرضيع الذي لم يأكل الطعام – أن الواجب فيها أن تغسل حتى تزول ، فإن زالت بواحدة فقد طهر المحل .
( ومن الفوائد )
أخذ بعض العلماء من هذا الحديث والحديث الذي يليه : أن النجاسة المتوهمة المشكوك فيها تغسل ثلاثا ” فإذا شك الإنسان في نجاسة فإنه يغسلها ثلاثا “
ونحن نقول : لا دليل في الأحاديث على ما ذكرتم ، وليس في الأحاديث ذكر للنجاسة .
( ومن الفوائد )
أن شيخ الإسلام رحمه الله يقول : إن هذا الحديث والحديث الذي يليه ( فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا )
أنهما متقاربان ، فلماذا لا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا ؟
قال : من أجل أن الشيطان يبيت على خيشومه ، فربما أحدث فيها ضرراً
فتكون العلة في عدم إدخال اليدين في الإناء هو ملاصقة الشيطان لهذا النائم ، وسيأتي حديث إن شاء الله تعالى حول هذا في الحديث الذي يليه .
( ومن الفوائد )
أن العلة إما أن تكون منصوصا عليها وإما أن تكون غير منصوص عليها فيستنبطها العلماء ، وهنا نُصَّ على الحكمة ، لماذا أستنثر ثلاثا ؟ ( فإن الشيطان يبيت على خيشومه )
فإذا ذُكرت العلة كان القلب من حيث الفعل أو من حيث الترك أكثر طمأنينة ، وإذا لم تذكر العلة كان فعل الأمر أو ترك النهي أكثر انقيادا واستسلاما لشرع الله عز وجل .
( ومن الفوائد )
أن ” الخيشوم ”
قيل : هو الأنف كله .
وقيل هو أعلى الأنف من الداخل .
وقيل هو غشاء رقيق يكون بين الأنف وبين الدماغ .
وسواء قيل بهذا أو بهذا أو بهذا ، فإن فيه دلالة على أن الشيطان يحب المكان القذر ، لأنه قذر ، وكما قيل ” الطيور على أشكالها تقع ” وكلٌ يميل إلى ما يشاكله .
( ومن الفوائد )
أن هذه البيتوتة قيل : هي على ظاهرها ، فالشيطان يبيت ، ولا يمنع من ذلك مانع فإن له قدرة ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين :
( إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم )
فلا مانع أن يبيت على خيشوم ابن آدم بيتوتة حقيقية .
وقيل : هي استعارة ” وهي نوع من أنواع البلاغة ” ولها ارتباط بالمجاز .
قيل : ليس هذا على حقيقته وإنما هو كناية عن الغبار الذي يعلق بالأنف فيتولد منه القذر ، وهذا القذر محبوب للشيطان ، فكان المقصد من هذه البيتوتة محبته لهذا الشيء القذر .
والصواب / أنه على حقيقته .
( ومن الفوائد )
لو قال قائل : لماذا الأنف ؟
لأن الأنف مدخل ليس فيه غطاء يحول بينه وبين القلب ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم :
( إن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً )
لكن الأنف باب مفتوح ، فاختار هذا المكان لأن هذا منفذ ليس له غطاء وليس له حجاب ، فيصل إلى قلب ابن آدم
ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم :
( لما سئل عن رجل نام حتى أصبح ؟
قال : ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه )
لأنها مدخل مفتوح وليس مغلقاً .
فخلاصة القول : أن الإنسان عليه أن يحذر من الشيطان ، ولا يمكن لابن آدم أن يكون في حمى من الشيطان إلا إذا أتى بما نصحه به الشرع .
ومما نصح به الشرع ما ذُكر في هذا الحديث .