شرح كتاب ( بلوغ المرام ) ـ الدرس 44 حديث 47
( باب الوضوء )
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين :
( أما بعد )
فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم : قال : صلى الله عليه وسلم :
( ابدؤوا بما بدأ الله به )
أخرجه : النسائي كذا بلفظ الأمر .
وهو عند مسلم بلفظ الخبر .
( من الفوائد )
أن هذا الحديث ورد بصيغتين :
الصيغة الأولى : صيغة الخبر ، وهذه جاءت عند مسلم ، لما قرب النبي صلى الله عليه وسلم من الصفا قال:
( أبدأ بما بدأ الله به )
وهذا الأسلوب أسلوب خبر .
الصيغة الثانية : صيغة الأمر ، وهي المذكورة هنا ، وهي عند النسائي .
ومن ثمَّ رأى بعض العلماء : عدم ثبوت ما عند النسائي باعتبار أنها لفظة ” شاذة “
ورأى علماء آخرون : أنها ثابتة ، ولا تعارض بين الصيغتين .
وإن كان لفظة ( ابدؤوا ) تعطي معنى زائدا على ( أبدأ بما بدأ الله به )
وهذا يتفرع عليه سؤال : لماذا ذكر ابن حجر رحمه الله هذا الحديث في كتاب الطهارة ، مع أنه متعلق بالحج ؟
الجواب /
لعله – رحمه الله – يشير إلى أن ما ذكر من أحاديث ذُكر فيها غسل الوجه واليدين ومسح الرأس وغسل القدمين أن الترتيب بينها واجب ، لم ؟
لأن الله عز وجل لما ذكر في آية الوضوء أعضاء الوضوء ذكرها مرتبة ، ذكر غسل الوجه ، ثم غسل اليدين ، ثم مسح الرأس ، ثم غسل القدمين “
ويعد هذا دليلا لمن قال بأن ” الترتيب فرض من فروض الوضوء ولا يصح الوضوء إلا به “
إضافة إلى ما ذهبوا إليه : من أن الله عز وجل فصل بين المغسولات بالممسوح ، فأدخل الممسوح بين المغسولات ، وهذا خلاف ظاهر مقتضى اللغة ، ولكن قالوا :
” ما حصل هذا إلا من أجل التأكيد على فرضية الترتيب “
وبعض العلماء : لا يرى الترتيب ” وهم الحنفية ، ويستدلون بحديث :
( أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل وجهه ويديه وقدميه ثم مسح رأسه )
لكن قال عنه الصنعاني رحمه الله : ” ليس له سند حتى يحكم به وعليه “
وعلى افتراض صحته : فإن هذا حديث واحد خالف الثقات كثيري العدد ، فيكون شاذاً ، مع أنه ليس له سند حتى يعرف الحكم عليه .
فالصواب أن الترتيب فرض
لو قال قائل : لو أنه هذا الترتيب تُرِك جهلاً ؟
فالجواب / أن ما مضى من صلوات سابقة لا يلزم بإعادتها ، وإنما يلزم بالصلاة الحاضرة التي لم يخرج وقتها ، وقد مضى الحديث عن هذا ، إذ إن عمَّار بن ياسر :
( لما أجنب كان يتمرغ كما تتمرغ الدابة ) والتيمم صفته للغسل كصفته للحدث الأصغر ، ومع ذلك لم يلزمه النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلوات السابقة .
وذلك الرجل المسيء في صلاته – كما في الصحيحين – لم يلزمه بما مضى ، وإنما ألزمه بأن يعيد هذه الصلاة التي لم يحسن فيها ، والأدلة على هذا كثيرة .
لكن لو سقط نسياناً ؟
بعض العلماء : يرى أن هذا يلحق بالجهل.
وبعضهم قال : لا .
ولو قال قائل :
( ابدؤوا بما بدأ الله به )
ذكر المفسرون وأهل اللغة : أنه يستفاد منها [ أن ما قدَّمه الله عز وجل فهو أحق بالتقديم ]
ولا يعدل عن هذا إلا بدليل ، ولذلك استدل بعض العلماء بقوله تعالى :
{ فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ }النساء3
على أن التعدد أفضل من الاقتصار على واحدة ، لأن الله عز وجل قدَّم التعدد .
والنبي صلى الله عليه وسلم لما قال عند الصفا ( أبدأ بما بدأ الله به )
لأن الله عز وجل بدأ في الذكر ( بالصفا )
{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ }البقرة158
( ومن الفوائد )
أن ذكر هذا الحديث مع أنه في سياق الحج يؤصِّل لنا قاعدة – ولها أدلة – لكن هذا من بين أدلتها :
[ أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ]
فهذه الجملة وردت على سبب وهو ” الحج “فأتى به ابن حجر رحمه الله في كتاب الطهارة .
( ومن الفوائد )
أن في هذا دليلا على ما قررناه سابقا من أن الترتيب بين اليمين واليسار ليس بواجب ، لم ؟
لأن الله عز وجل لما ذكر غسل اليدين أطلق ، فدل على أن الترتيب يكون بين اليدين مع ما قبله وهو الوجه ، ومع ما بعده وهو مسح الرأس .
كذلك الشأن في المضمضة والاستنشاق ، هو عز وجل أمر بغسل الوجه ، والفم والأنف –كما قررنا – أنهما من الوجه ، فلو أنه استنشق قبل أن يتمضمض جاز ، وإن كان قد ترك الأولى .
كذلك لو أنه غسل وجهه ثم تمضمض واستنشق فلا إشكال في ذلك .
( ومن الفوائد )
أن ( ما ) المذكورة هنا ( موصولية ) وهي تفيد العموم ( أبدأ بما بدأ الله به )
يعني ( أبدأ بالذي بدأ الله به )
فدل هذا على أنها قاعدة مطردة في جميع ما ذكره عز وجل ، ولا يستثنى من ذلك نص دون آخر ، إلا إن جاء دليل يخصص ذلك .